عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضي اللَّه عنهمَا - عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ»
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضي اللَّه عنهمَا - عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ»
في الحديث توجيهٌ من النبيِّ ﷺ للمسلم إلى التّحلّي بالآداب والأخلاق الإسلاميَّة، التي تُوثِّق الأُلْفة والمودَّة بين المسلمين.
الحديث يقتضي حَصْرَ المسلم فيمن سَلِم المسلمون من لسانه ويده، والمرادُ بذلك المسلمُ الكامِلُ الإسلامِ.
من لم يَسلَم المسلمون من لسانه ويده، فإنه ينتفي عنه كمالُ الإسلام الواجبِ؛ فإن سلامة المسلمين من لسان العبد ويده واجبةٌ.
يُطلَق الإسلامُ على الأصول الخمسة التي بيَّنها النبيُّ ﷺ لجبريلَ حين سَأَله عن الإسلام، فقال: «أن تَشهَدَ أن لا إله إلا الله، وأن محمَّدًا رسولُ الله، وتُقِيمَ الصلاة، وتؤتيَ الزكاة، وتصومَ رمضانَ، وتَحُجَّ البيت».
يُطلَق الإسلامُ أيضًا على السلامة؛ يعني: أن يَسلَم الناسُ من شرِّ الإنسان، فيُقال: أَسلَم بمعنى: دَخَل في السِّلْم؛ أي: الْمُسالمة للناس، بحيث لا يؤذي الناسَ، ومنه هذا الحديث: «المسلِمُ مَن سَلِم المسلمون من لسانه ويده».
في الحديث أن المسلم من سَلِم المسلمون من لسانه، فلا يَسُبُّهم، ولا يَلْعَنُهم، ولا يَغتابُهم، ولا يَنُمُّ بينهم، ولا يسعى بينهم بأيِّ نوع من أنواع الشرِّ والفساد.
كفُّ اللسان من أشدِّ ما يكون على الإنسان، وهو من الأمور التي تَصعُب على الْمَرْء. لذا؛
قال النبيُّ ﷺ لمعاذِ بنِ جبلٍ:
«أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمِلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟»، فَقُلْتُ لَهُ: بَلَى يَا رسول اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِ نفسه، فَقَالَ: «كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِه؟ فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ - أَوْ قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!»
[1].
المسلم من سَلِم المسلمون من يده، فلا يعتدي عليهم بالضَّرب، أو الجَرح، أو أخذ المال، أو ما أَشبَه ذلك، قد كفَّ يده لا يأخذ إلا ما يستحقُّه شرعًا، ولا يعتدي على أحد، فإذا اجتمع للإنسان سلامة الناس من يده ومن لسانه، فهذا هو الْمُسلم [2].
خصَّ النبيُّ ﷺ اللّسان واليد؛ لكثرة أخطائهما وأضرارهما؛ فإنَّ معظم الشُّرور تَصدُر عنهما؛ فاللّسانُ يَكذِب، ويغتاب، ويسبُّ، ويشهد بالزُّور، واليدُ تضرب، وتقتل، وتَسرِق، وهلمَّ جرًّا.
قدَّم ﷺ اللّسان على اليد؛ لأنَّ الإيذاء به أكثرُ وأسهل، وأشدُّ نكايةً، ويعمُّ الأحياء والأموات جميعًا.
المهاجرُ الممدوحُ هو الذي جمع إلى هِجران وَطَنه وعشيرته هِجْرانَ ما حرَّم الله تعالى عليه.
مجرَّد هجرة بلدِ الشِّرك مع الإصرار على المعاصي ليست بهجرة تامَّة كاملة؛ فالمهاجر بحقٍّ هو الّذي لم يقف عند الهجرة الظّاهرة، فترك دار الحرب إلى دار الأمن؛ بل هو من هجر كلَّ ما نهى الله عنه.
في الحديث توضيح وتوسيع لمعنى الهجرة الممدوحة في الشرع، يُعلِم المهاجرين أنه واجبٌ عليهم أن يلتزموا هَجْرَ ما نهى الله عنه، ولا يتَّكِلوا على الهجرة فقط، ويُعلِم من حَزِن على فوات الهجرة ولم يُدرِكْها أن المهاجر على الحقيقة من هَجَر ما نهى الله عنه.
أصل الهجرة: هِجْرانُ الشرِّ، ومباعدتُه؛ لطَلَب الخَير، ومحبَّته، والرغبة فيه.
في الحديث بيانُ أن المسلم الممدوح والمهاجِرَ مَن هذه صِفَتُه، لا أن الإسلام ينتفي عمَّن لم يكن بهذه الصفة.
في الحديث بيان أن أفضل المسلمين مَن جَمَع إلى أداء حقوق الله تعالى أداءَ حقوق المسلمين، والكفَّ عن أعراضهم.
1. رواه أحمد (22665)، وابن ماجهْ (3973)، والترمذيُّ (2616)، وقال الترمذيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
2. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 512، 513).
17. في الحديث ليس المرادُ نفيَ أصلِ الإسلام عمَّن لم يكن بهذه الصِّفة؛ بل نفي الإسلامِ الكامل؛ كما يُقال: العِلْمُ ما نَفَع، أو العَالِمُ زَيْدٌ؛ أي: الكامل، أو المحبوب، وكما يُقال: النَّاسُ العَرَبُ، والمالُ الإبل؛ فكلُّه على التَّفضيل لا للحَصْرِ.
18. الإسلام في الشرع على ضربين؛ أحدهما دون الإيمان، وهو الاعتراف باللسان، وبه يُحقَن الدَّمُ، حَصَل معه الاعتقاد أو لم يَحصُل، وإيَّاه قَصَد بقوله تعالى:
﴿۞ قَالَتِ ٱلْأَعْرَابُ ءَامَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوٓا أَسْلَمْنَا﴾
[الحجرات: 14]،
والثاني: فوق الإيمان، وهو أن يكون مع الاعتراف اعتقادٌ بالقلب، ووفاءٌ بالفعل، واستسلامٌ لله في جميع ما قضى وقدَّر،
كما ذَكَر عن إبراهيم - عليه السلام -:
إِذْ قَالَ لَهُۥ رَبُّهُۥٓ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ
[البقرة: ١٣١] [1].
1. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (2/ 442).
19. الدين كلُّه خُلُقٌ، فمن زاد عليك في الخُلق، زاد عليك في الدين [1].
1. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 307).
الفوائد اللغوية20. (ال) التعريف في المسلم والمهاجر هي للجِنس؛ قال ابن جنِّي: مِن عادتهم أن يُوقِعوا على الشيء الذي يخصُّونه بالمدح اسم الجنس، ألا ترى كيف سمَّوُا الكعبة بالبيت؟ وكتاب سيبويه بالكتاب؟ [1].
21. "كلُّ اسم نوع فإنه يُستعمَل على وجهين؛ أحدهما: دلالة على المسمَّى، وفصلًا بينه وبين غيره. والثاني: لوجود المعنى المختصِّ به، وذلك هو الذي يُمدَح به؛ وذلك أن كلَّ ما أَوْجَده الله في هذا العالم جعله صالحًا لفعل خاصٍّ، ولا يَصلُح لذلك العملِ سِواه؛ كالفَرَسِ للعَدْوِ الشديد، والبَعِيرِ تَقطَع الفَلاة البعيدة؛ والإنسانِ ليَعلَم ويَعمَل بحسَبه، وكلُّ شيء لم يوجد كاملًا لِما خُلِق له لم يستحِقَّ اسمَه مُطلَقًا؛ بل قد ينتفي عنه؛ كقولهم: فلانٌ ليس بإنسان؛ أي: لا يوجد فيه المعنى الذي خُلِق لأجله من العِلم والعَمَل؛ فعلى هذا إذا وجدتَ مسلمًا يؤذي المسلمين بلسانه ويده، فقلتَ له: لستَ بمسلِمٍ، عَنَيْتَ أنك لستَ بكامل فيما تحلَّيْتَ به من حِلْيَة الإسلام، وهذا معنى قول محيي السنَّة: إن الإسلام يُنفَى عمَّن ليس بصفته [2].
22. الهجرةُ عند الإطلاق في السنَّة إنما تَنصرِف إلى هِجران بلد الشِّرك إلى دار الإسلام؛ رغبةً في تعلُّم الإسلام، والعمل به، وإذا كان كذلك، فأصل الهجرة: أن يَهجُر ما نهاه الله عنه من المعاصي، فيَدخُل في ذلك هِجرانُ بلد الشِّرك رغبةً في دار الإسلام، وإلا فمجرَّدُ هجرة بلد الشِّرك مع الإصرار على المعاصي ليس بهجرة تامَّةٍ كاملة؛ بل الهجرة التامَّة الكاملة: هِجرانُ ما نهى الله عنه، ومن جملة ذلك: هجران بلد الشرك مع القدرة عليه" [3].
1. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (2/ 441).
2. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (2/ 441، 442).
3. "فتح الباري" لابن رجب (1/ 39).