المعنى الإجماليُّ للحديث
يروي أبو هُرَيْرَةَ رضى الله عنه، عن النَّبِيِّ ﷺ، أنه قال: «نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا، مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ»؛ أي: لو جُمِع كلُّ ما في الوجود من النار التي يوقدها بنو آدم، لكان شدَّةُ حرِّها جزءًا صغيرًا بالنسبة إلى شدَّة حرارة نار جهنَّم، التي تفوق حرَّ نار الدنيا بسبعين جزءًا.
قَالُوا: (وَاللهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً، يَا رَسُولَ اللهِ)؛ أي: إن حرارة نار الدنيا لكافيةٌ للعذاب.
قال ﷺ: «فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا، كُلُّهَا مِثْلُ حَرِّهَا»؛ فأجابهم ﷺ بتأكيد أن شدَّة حرارتها تفوقها بتسعة وستين ضِعفًا، كلُّ جزء مثلُ حرِّ نار الدنيا.
الشرح المفصَّل للحديث
خَلَق الله الخير والشرَّ حتى يتمايز الناس، ويُقيم عليهم الحُجَّة
وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ
فيَصِيرون إلى الجنَّة بفضله، أو إلى النار بعدله، وأَعَدَّ الجنة للصالحين من عباده وأوليائه
سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
وجعل النار من نصيب الكفَّار والعصاة من خلقه
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ
وقد خَلَقها الله تعالى قبل خلق الإنسان؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، إِذْ سَمِعَ وَجْبَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «تَدْرُونَ مَا هَذَا؟» قَالَ: قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «هَذَا حَجَرٌ رُمِيَ بِهِ فِي النَّارِ مُنْذُ سَبْعِينَ خَرِيفًا، فَهُوَ يَهْوِي فِي النَّارِ الْآنَ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَعْرِهَا»[1].
وفي الحديث يُخبر النبيُّ ﷺ عن صفة من صفات جهنَّمَ، فيقول ﷺ: «نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا، مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ»؛ أي: شدَّة حرارة ناركم هذه التي يُشعِلها الإنسان في الدنيا، ما هي إلا جزءٌ صغير من سبعين جزءًا من نار الآخرة، "يعني: أنه لو جُمِع كلُّ ما في الوجود من النار التي يوقدها بنو آدم، لكانت جزءًا من أجزاء جهنَّم المذكورة، وبيانُه: أنه لو جُمِع حطب الدنيا، فَوُقِد كلُّه حتى صار نارًا، لكان الجزء الواحد من أجزاء نار جهنم، الذي هو من سبعين جزءًا، أشدَّ من حرِّ نار الدنيا، كما بيَّنه في آخر الحديث"[2].
وقد كان النبيُّ ﷺ يستعيذ من حرِّها؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ رضى الله عنه يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ»[3].
وتخصيص العدد بسبعين غيرُ مراد؛ وإنما المراد المبالغة في الكثرة وشدَّة الحرِّ، ففي رواية لأحمد في مسنده: «هَذِهِ النَّارُ جُزْءٌ مِنْ مِائَةِ جُزْءٍ مِنْ جَهَنَّمَ»[4]، "والجمع بين الروايتين بأن المراد المبالغةُ في الكثرةِ، لا العدد الخاصُّ، أو الحكم للزائد"[5].
فقال الصحابة رضى الله عنهم: (وَاللهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً، يَا رَسُولَ اللهِ)؛ أي: والله لو أن شدَّة حرارة النار في الآخرة كشدَّتها في الدنيا، لكان ذلك كافيًا في إيلام الكفَّار والمذنِبين وعذابهم؛ فنارُ الدنيا تُحرق الأشجارَ والجماداتِ والحيوانات، وقادرةٌ كذلك على حرق الإنسان، فهَلَّا اكتفى بها ربُّ العباد.
فأجابهم النبيُّ ﷺ بقوله: «فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا، كُلُّهَا مِثْلُ حَرِّهَا»؛ أي: أن نار الآخرة كما فضِّلت عليها بتسعة وستين جزءًا في العدد، فضِّلت عليها كذلك في شدَّة الحرِّ بتسعة وستين ضعفًا، فالنار التي هي من صُنع الخالق ليست كالنار التي يُشعِلها الخلق. فـ"لا بدَّ من التفضيل لتمييز عذاب الله من عذاب الخلق؛ ولذلك أُوثر النار على سائر أصناف العذاب، زيادةً في تنكيل عقوبة أعداء الله تعالى، وغضبًا شديدًا على مَرَدة خلق الله من الجنِّ والإنس"[6].
المراجع
- رواه مسلم (2844).
- "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" للقرطبيِّ (7/ 187).
- رواه النسائيُّ (5520)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح وضعيف سنن النسائيِّ".
- رواه أحمد (8921)، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الجامع الصغير وزيادته" (7006).
- "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (6/ 334).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (11/ 3586).
النقول
قال القرطبيُّ رحمه الله: "يعني: أنه لو جُمِع كلُّ ما في الوجود من النار التي يوقدها بنو آدم، لكانت جزءًا من أجزاء جهنَّم المذكورة، وبيانُه: أنه لو جُمِع حطب الدنيا، فَوُقِد كلُّه حتى صار نارًا، لكان الجزء الواحد من أجزاء نار جهنم، الذي هو من سبعين جزءًا، أشدَّ من حرِّ نار الدنيا، كما بيَّنه في آخر الحديث"[1].
قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قَوْله: «فضِّلت عَلَيْهَا»؛ أَي: على نَار الدُّنْيَا، ويُروى: عَلَيْهِنَّ، كَمَا فضِّلت عَلَيْهَا فِي الْمِقْدَار وَالْعدَد بِتِسْعَة وَسِتِّينَ جُزْءًا، فضِّلت عَلَيْهَا فِي الْحرِّ بِتِسْعَة وَسِتِّينَ جُزْءًا. وَقَالَ الطَّيِّبِيُّ: فَإِن قلتَ: كَيفَ طابق لفظ (فضلت وعليهن) جَوَابًا، وَقد عُلم هَذَا التَّفْضِيل من كَلَامه السَّابِق؟ قلتُ: مَعْنَاهُ: الْمَنْع من الْكِفَايَة؛ أَي: لَا بُد من التَّفْضِيل ليتميَّز عَذَاب الله من عَذَاب الْخلق، وروى ابْن الْمُبَارك عَن معمرٍ عَن مُحَمَّدِ بنِ الْمُنْذر قَالَ: لَمَّا خُلقت النَّار، فَزِعت الْمَلَائِكَة وطارت أفئدتهم، وَلَمَّا خُلق آدمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - سَكَن ذَلِك عَنْهُم، وَقَالَ مَيْمُونُ بنُ مهْرَان: لَمَّا خلق الله جَهَنَّم، أمرهَا فزفرت زفرَة، فَلم يبْقَ فِي السَّمَوَات السَّبع ملكٌ إلَّا خَرَّ على وَجهه، فَقَالَ لَهُم الربُّ: ارفعوا رؤوسكم، أما علمْتُم أَنِّي خلقتكم للطاعة، وَهَذِه خلقتها لأهل الْمعْصِيَة؟ قَالُوا: رَبنَا لَا نأمنها حَتَّى نرى أَهلهَا؛ فَذَلِك
وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "لا بدَّ من التفضيل لتمييز عذاب الله من عذاب الخلق؛ ولذلك أُوثر النار على سائر أصناف العذاب؛ زيادةً في تنكيل عقوبة أعداء الله تعالى، وغضبًا شديدًا على مَرَدة خلق الله من الجنِّ والإنس"[3].
قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "«إِن كَانَت لكَافِيَة»، كلمة (إِن) هَذِه مُخَفّفَة من الثَّقِيلَة عِنْد الْبَصرِيين، وَهَذِه اللاَّم هِيَ الْمُفرقة بَين (إِن) النافية، وَ(إن) المخفَّفة من الثَّقِيلَة، وَالْمعْنَى: إِن نَار الدُّنْيَا كَانَت كَافِيَةً لتعذيب الجهنَّميين، وَهِي عِنْد الْكُوفِيّين بِمَعْنى: (مَا)، وَاللَّام بِمَعْنى (إلا)، تَقْدِيرُه عِنْدهم: مَا كَانَت إلَّا كَافِيَة"[4].
قال ابن رجب رحمه الله: "قد تكاثرت الأحاديث في أن البكاء من خشية الله مقتضٍ للنجاة من النار، والبكاء من نار جهنَّم هو البكاء من خشية الله؛ لأنّه بكاءٌ من خشية عقاب الله وسَخَطه، والبُعد عنه وعن رحمته وجواره ودار كرامته"[5].
المراجع
- "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" للقرطبيِّ (7/ 187).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (15/ 165).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (11/ 3586).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (15/ 165).
- "مجموع رسائل ابن رجب" (4/ 143).