عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ: فِيمَ أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ: فِيمَ فَعَلَ؟ وَعَنْ مَالِه: مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ جِسْمِهِ: فِيمَ أَبْلَاهُ؟».

فوائد الحديث

الفوائد العلمية

1. في هذا الحديث إعلام ببعض الأسئلة التي يُسأل عنها العبدُ يوم القيامة؛ ليأخذ العبد حِذْرَه، ويَنظُر إلى حاله، ويُعِدَّ للسؤال جوابًا؛ فكلُّ إنسان مسؤولٌ مسؤوليةً كاملة عن كافَّة أعماله.

2. من رحمة الله تعالى بعباده أنه لم يَجعَل هذه الأسئلة مُبهَمة؛ بل أخبرَنا بها نبيُّه ﷺ، وبيَّنها لنا؛ حتى نستعِدَّ لها، ونُعِدَّ لكل سؤال إجابته.

3. في الحديث بيان أنه لا تزول قدما الإنسان يوم القيامة عن موقف الحساب، حتى يُسأل ويحاسَب عن الأمور الأربعة المذكورة في الحديث.

4. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رضي اللَّه عنهما قال: قال رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ:

«اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ»[1].

5. إن أوَّل من تسعَّر بهم النار يوم القيامة: شهيدٌ، وعالمٌ، ومُنفِق، كانت أعمالهم رياءً وسُمعة، في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة [2]؛ فعقابهم الشديد هذا على عدم إخلاصهم وفِعلهم الطاعات العظيمة لغير الله، دليلٌ على تغليظ تحريم الرياء، وشدَّة عقوبته، وعلى الحثِّ على وجوب الإخلاص في الأعمال؛ كما قال الله تعالى:

{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}

[البينة: 5]

6. في الحديث بيان ربط العلم بالعمل؛ فإنه ﷺ لم يقل: وعن علمه ما قال فيه؟ وإنما قال: ما عَمِل فيه؟ فلينظرِ العبد ما عمل فيما عَلِمه، هل صَدَق اللهَ في ذلك وأخلَصه، حتى يَدخُل فيمن أثنى الله عليه بقوله:

{أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا}

 [البقرة: 177]

أو خالَف عِلمَه بفعله، فيَدخُل في قوله تعالى:

{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ}

[الأعراف: 169]

وقوله تعالى:

{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ}

[البقرة: 44]

وقوله:

{أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ 2 كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}[3]

[الصف: 2- 3]

7. يجب أن يَظهَر أثرُ علم الْمَرْءِ في أحواله وأفعاله، وإلا فلا معنى للعلم بلا عمل؛ قال الحسن البصريُّ: " كان الرجل إذا طلب العلم لم يَلبَث أن يُرى ذلك في بَصَره، وتخشُّعه، ولسانه، وصلاته، وزُهده"[4].

8. في سياق الحديث إشارةٌ إلى الخصوص؛ وذلك أنه ليس كلُّ أحد عنده علم يُسأل عنه، وكذا المال، فهو مخصوص بمن له علم، وبمن له مال، دون من لا مال له، ومن لا علم له، وأمّا السّؤال عن الجسد والعمر، فعامٌّ، ويَخُصُّ مِن المسؤولين مَن ذُكِر[5].

9. يُستثنى ممن في الحديث الأنبياءُ، وبعض صالحي المؤمنين؛ كالذين يدخلون الجنة بغير حساب[6]

10. إذا كان خيرُ الناس مَن طال عُمره وحَسُن عمله، فإنه ينبغي للإنسان أن يَسأل اللهَ دائمًا: أن يجعله ممن طال عُمره، وحسُن عمله؛ من أجل أن يكون من خير الناس، وفي هذا دليل على أن مجرَّد طول العمر ليس خيرًا للإنسان؛ إلا إذا حسُن عمله؛ لأنه أحيانًا يكون طول العمر شرًّا للإنسان، وضررًا عليه؛ كما قال الله - تبارك وتعالى -:

{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ ۚ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ۚ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}

[آل عمران: 178]

فهؤلاء الكفُّار يُملي الله لهم – أي: يمدُّهم بالرزق، والعافية، وطول العمر، والبنين، والزوجات - لا لخير لهم؛ ولكنه شرٌّ لهم؛ لأنهم سوف يزدادون بذلك إثمًا[7].

11. التأخير في الأجل، فيه سؤال مشهور، وهو أن الآجال والأرزاق مقدَّرة، لا تزيد ولا تنقص، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، وأجاب العلماء بأجوبة، الصحيح منها: أن هذه الزيادة بالبركة في عمره، والتوفيق للطاعات، وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة، وصيانتها عن الضياع في غير ذلك[8].

المراجع

  1. رواه الحاكم في "المستدرك على الصحيحين" (7846)، وقال: هذا حديث صحيحٌ على شرط الشَّيخَين ولم يُخَرِّجاه، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (3355).
  2. رواه مسلم (1905).
  3. "التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة" لأبي عبد الله القرطبيِّ (ص: 632).
  4. "فتح المنان شرح وتحقيق كتاب الدارمي" لأبي عاصم الغمري (3/ 331).
  5. "فتح الباري" لابن حجر (11/ 414).
  6. "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" لابن علان (4/ 300، 301).
  7. "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 107).
  8. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 114).


الفوائد الحديثية

12. ورد في حديث ابن مسعود: «وعن شبابه فيم أبلاه؟»؛ أي: قوَّته في وَسَط عُمره فيم ضيَّعه؟[1]، وإنما اختصَّ فترة الشباب؛ لأنها محطُّ آمال الأمم، وهي مرحلة القوَّة والفتوَّة والنشاط، وفيها يستطيع الإنسان أن يُدرِك ما لا يُدرِكه في غيرها من المراحل، فـ"المراد سؤالُه عن قوَّته وزمانه الذي يتمكَّن منه على أقوى العبادة"[2].

المراجع

  1. "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي" للمباركفوري (7/ 85).
  2. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (10/ 3296).


الفوائد اللغوية

13. «فِيمَا أَفْنَاهُ؟ فِيمَ فَعَلَ؟ فِيمَ أَنْفَقَهُ؟ فِيمَ أَبْلَاهُ؟» (ما) الاستفهامية إذا جُرَّت بحرف الجر أو بالإضافة وَجَب حَذْفُ أَلِفِها، وفي هذه الرواية الألف مُثْبَتة في «فِيمَا أَفْنَاهُ؟» وهو قليل؛ قال تعالى:

{عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ}

[النبأ: ١]

وقال:

{فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا}

[النازعات: ٤٣]

وقال:

{ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ}

[الطارق: ٥]

14. «عن عُمُره» بضمِّ العَين والميم، وتُسكَّن الميمُ تخفيفًا؛ أي: حياته وبقائه في الدنيا.

مشاريع الأحاديث الكلية