عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ».

وفي رواية: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ، وَحُجِبَتِ الجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ»

فقه:

1- يذكر النبيُّ ﷺ أنَّ الله تعالى قد أحاط الجنَّة بالمكاره التي تثقل على الإنسان، فالإنسان لا يرى الطريق إلى الجنة إلا بشيءٍ من المكاره، كأداء الفرائض التي قد تثقل على النفس لوجوب أدائها، والابتعاد عن المناهي التي قد تثقل على النفس لمخالفتها لشهوات النفس.

2- وأُحيطت النَّارُ بالشهوات التي يحبها الإنسان؛ فالإنسان لا يرى الطريق إلى النار إلا بشيءٍ من الشهوات التي يحبها الإنسان؛ سواء كان شهوات في الرأي، أو شهوات الغضب والقوة، أو في الشهوات بين الرجال والنساء،  أو شهوات المال وغيرها، فلولا الشهوات وتسويل الشيطان وغواية النفس بتلك الشهوات لَمَا رغب أحدٌ في سلوك طريق النار.
والمقصود هو الشهوات الَّتي حرَّمها اللهُ تعالى على خلقه، لا ما أباح لهم من الاستمتاع به، كالأكل والشراب الطَّيِّب المباح، والاستمتاع بالزوجة ومِلْكِ اليمين، وملاعبة الأولاد والأهل والتحدث إليهم.

اتباع: 

1- تذكر هذه الصورة التي صورها لك رسول الله ﷺ  ليسهل عليك سلوك طريق الجنة، وتجنب طريق النار، فكلما استثقلت طاعة أو ترك شهوة فتذكر أن وراءها الجنة، وكلما استحليت شهوة محرمة فتذكر أن وراءها النار.
2- وطِّن نفسك على أن للجنة ثمناً، فهي تطلب فعل الفرائض ولو ثقلت، وترك المحرّمات ولو اشتهيت ..،  فالعاقل يوطن نفسه أن يقطع وقتَه كلَّ حينٍ لأداء صلاةٍ من الصلوات، ولو مع اشتداد البرد أو الحر، أو لذة النوم لصلاة الفجر، أو غيرها، قال تعالى:

﴿وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ ‌إِلَاّ ‌عَلَى ‌الْخاشِعِينَ﴾

[البقرة: 45]

وكذلك يبذل المال المحبوب عن طيب نفسٍ للفقراء والمحتاجين، وكذلك الصيام والحج، وبر الوالدين، وسائر الفرائض، ويترك التسلط على دماء الناس وأموالهم، والزنا ومقدماته، وشُرب المُسكرات، وسائر المنهيات..
ويدخل في المكاره: الاجتهاد في العبادات، والمواظبة عليها، والصّبر على مشاقِّها، وكَظم الغيظ، والعفو، والحِلم، والصَّدقة، والإحسان إلى المسيء، والصّبر عن الشَّهوات، وجميع أعمال الخير[1].
3- من صبر على شيء في الدنيا لأمر الله تعالى عوضه الله من جنسه ما هو خير منه يوم القيامة، فيجنبه الله تعالى مكاره النار، ويرزقه ما تشتهيه الأنفس في الجنة.
4- الفائز من باع دنياه بآخرته، والخاسر من باع آخرته بدنياه.
5- لا تنال مكارم الدنيا والآخرة إلا بالمكاره، فالنعيم لا يدرك بالنعيم، وفي الحديث بيان أن العبد يحتاج في الحياة الدنيا إلى مُجاهدة عظيمة، يُجاهد نفسه في الله - عزَّ وجلَّ - فمن كانت نفسُه شريفةً، وهِمَّته عاليةً، لم يَرْضَ لها بالمعاصي؛ فإنَّها خيانةٌ، ولا يرضى بالخيانة إلا مَن لا نَفْسَ له [2].
6- قال ابن القيم - رحمه الله-: " ادْعُ نفسك إلى ما أَعَدَّ الله لأوليائه وأهلِ طاعته من النعيم الْمُقيم، والسعادة الأَبَدية، والفوز الأكبر، وما أَعَدَّ لأهل البَطالة والإضاعة من الخِزْيِ والعِقاب والحَسَرات الدائمة، ثم اخْتَرْ أيَّ القِسمينِ أَلْيَقُ بك، وكلٌّ يَعمَل على شاكِلته، وكلُّ أحد يصبو إلى ما يناسِبه، وما هو الأَوْلى به، ولا تَستطِلْ هذا العلاج؛ فشِدَّةُ الحاجة إليه من الطَّبيب والعَليل دَعَت إلى بَسْطِه"[3].
7- لمَّا انطلقت شرارة الحربِ يوم بدر، حفَّز النبيُّ ﷺ أصحابَه إلى القتال، وقال:

«قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ»، فقال عُمَيْرُ بنُ الحُمَام الأنصاري : بَخٍ بَخٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟» قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: «فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا»، فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ.

فانظر وتأسَّ: كيف اشترى الجنَّة بالجهاد في سبيلِ الله، وهو كما قال الله تعالى:

﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾

[البقرة: 216]

وآثر نعيمَ الجَنَّةِ الخالدةِ على متاع الحياة الدنيا الزائل الزائف.

8- قال الشاعر: 

وَإِنَّ جِنَانَ الخُلْدِ تَبْقَى وَمَنْ بِهَا = مُقِيْمًا عَلَى طُوْلِ الْمَدَى لَيْسَ يَرْحَلُ

أُعِدَّتْ لِمَنْ يَخْشَى الإِلَهَ وَيَتَّقِي = وَمَاتَ عَلَى التَّوحِيدِ فَهْوَ مُهَلَّلُ

9- وقال غيره: 

إِذَا أَذْكَرَتْكَ النَّفْسُ دُنْيَا دَنِيَّةً = فَلا تَنْسَ رَوْضَاتِ الْجِنَانِ وَخُلْدَهَا

أَلَسْتَ تَرَى الدُّنْيَا وَتَنْغَيِصَ عَيْشِهَا = وَإِتْعَابَها لِلمُكْثِرِين وَكَدَّهَا

وَأَدْنَى بَنِي الدُّنْيَا إِلَى الغَيِّ وَالعَمَى = لَمَنْ يَبْتَغِي مِنْهَا سَنَاهَا وَمَجْدَهَا

هَوَى النَّفْسِ فِي الدُّنْيَا إِلَى أَنْ تَغُولَهَا = كَمَا غَالَتِ الدُّنْيَا أَبَاهَا وَجَدَّهَا

المراجع

  1. شرح النوويِّ على مسلم" (17/ 165).
  2. "مجموع رسائل ابن رجب" (1/ 203).
  3. "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (4/ 179، 180). 


مشاريع الأحاديث الكلية