112 - العملُ بالسُّنة وتجنُّب المُحْدَثات

عن العِرباضِ بنِ ساريةَ قال: قام فينا رسولُ الله ﷺ ذاتَ يوم، فوعَظَنا موعظةً بليغةً، وَجِلَتْ منها القلوبُ، وذَرَفَت منها العيونُ، فقيل: يا رسول الله، وعظْتَنا موعظةَ مُوَدِّع، فاعهَدْ إلينا بعهدٍ، فقال: «عليكم بتقوى الله، والسمعِ والطاعة، وإنْ عبدًا حبشيًّا، وسترَوْنَ من بعدي اختلافًا شديدًا، فعليكم بسُنَّتي، وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين، عَضُّوا عليها بالنَّوَاجِذ، وإيَّاكم والأمورَ المُحدَثاتِ؛ فإن كلَّ بِدعة ضلالة».

فقه:

1- وعظَ النبيُّ ﷺ أصحابَه يومًا موعظةً مؤثرة، خوَّفهم باللهِ تعالى وأنذرهم غضبه وعقابه، حتى فزعت القلوب ودَمَعت العيون خشيةً وخوفًا.

2- فقال أحد الصحابة: بالغتَ في الموعظةِ ووفَّيتَها حقَّها، وشملت موعظتك ما يهمُّ المسلم من أمور دينِه؛ كالمُوَدِّع إذا وعظ مَن يرحل عنهم لسفرٍ أو دُنُوِّ أجلٍ؛ فإنه لا يترك شيئًا يمسُّ حاجةَ المُوَدَّع إلا أورده واستقصى فيه[1]. فاعهد إلينا يا رسولَ اللهِ ﷺ بعهدٍ وأوصِنا بوصية جامعة.

3- فكان أول ما أوصى به ﷺ تقوى الله سبحانه، وهي أن يتخذ الإنسانُ بينه وبين ما يُغضب اللهُ تعالى وقايةً وسِترًا، ولا يكون ذلك إلا بطاعته سبحانه واتباع رسولِه ﷺ[2]. وقد عرَّفها طلق بن حبيبٍ رحمه الله فقال: "التقوى أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثوابَ الله، وأن تتركَ معصيةَ الله، على نور من الله، تخافُ عقابَ الله"[3].

4- ثم ثنَّى ﷺ بالسمع والطاعة لأولي الأمر، فتجب طاعتُهم في الطَّاعةِ والمعروف، فإن أمروا بمعصيةٍ لم يجز لأحدٍ أن يطيعهم في معصيتهم،

قال ﷺ:

«السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى المَرْءِ المُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ»

[4].

وقوله ﷺ: "وإن عبدًا حبشيًا" أي: وإن كان وليُّ الأمرِ عبدًا حبشيًّا فاسمعوا له وأطيعوا. وقد اشترط النبيُّ ﷺ في الأميرِ أن يكون حُرًّا قُرَشِيًّا، لكنَّه ذكر ذلك هنا إما للمبالغة في وجوب اتباع الأمير حتى لو كان على صورةٍ لا تحدث، وإما أنَّه ﷺ عَلِم أن الحالَ سيختلُّ بعد ذلك حتى يلي أمورَ النَّاس مَن لا يجوز له ذلك، فإذا كانت فاسمعوا وأطيعوا تغليبًا لأهون الضررين، وهو الصبرُ على ولاية مَن لا تجوز ولايته؛ لئلَّا يُفضي إلى فتنة عظيمة. وإما أنَّه ﷺ أراد الولايات الصغيرة والعُمَّال. وعلى كلِّ تلك المعاني فقد أوجب ﷺ طاعةَ أولي الأمر وحرَّم مخالفتهم إلا إذا أمروا بالمعصيةِ أو ظهر منهم الكفر[5].

5- ثم أخبر ﷺ أننا سنرى بعده فتنًا وأمورًا عظيمة، فالنجاة منها حينئذ التمسُّك بسنته ﷺ، وسُنَّةِ الخلفاء الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وأمر بالتمسك بها والحرص عليها كما يعضُّ الإنسانُ بأنيابِه على شيءٍ يتمسَّك به ويخشى تفلُّتَه. 

وإنما خصَّ سُنَّة الخلفاءِ بالذِّكر لأنَّه أيقن أنهم لا يُخطئون سُنَّته، وأنَّ بعض سُنَنِه إن لم تشتهر في زمانه، اشتهرت في زمانهم وحرصوا على إحيائها فنُسبت إليهم، وهي في الأصل سُنَّتُه ﷺ[6].
وربما يكون المراد بالخلفاءِ العلماءَ وأئمةَ الإسلام؛ فإنهم خلفاؤه في إحياء الحقِّ، وإعلاء الدين، وإرشاد الناس إلى الطريق المستقيم[7].

6- ثمَّ حذَّر النبيُّ ﷺ من الأمور المستحدثة التي لم تكن على عهده ﷺ؛ فإنَّ كُلِّ أمرٍ مُستحدَثٍ في الدِّين ضلالةٌ وهلاك.

على أنَّ البدعَ مختصَّةٌ بأمرين: 

- أن تكون في الدِّين، فما استُحدِثَ من الاختراعات والتطورات ونحوها في أمور الدنيا ليست من البِدَع. 

- وأن تكون لا أصل لها في الشَّرع

قال ﷺ:

«مَن أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ»[8]

فكلُّ مَن أحدث شيئًا ونَسَبه إلى الدين، ولم يكن له أصلٌ من الدين يرجع إليه، فهو ضلالة، والدين بريءٌ منه، وسواءٌ في ذلك مسائل الاعتقادات، أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة[9].

فإن كان لها أصلٌ في الشرع تُقاس عليه فليست ببدعةٍ ولا محظورة، وإن سُمِّيت بدعةً فالمرادُ الاصطلاح اللغوي، وهو كل أمر حديثٍ، ولهذا قال عمر بن الخطاب لمَّا جمع النَّاس في رمضان في صلاة القيام خلف أُبَيٍّ: «نِعمَ البدعةُ هذه»[10]؛ إذ كان النبيُّ ﷺ قد جمع النَّاس ثم خشي أن تُفرض عليهم فترك ذلك.

اتباع: 

1- (1) على كلِّ داعيةٍ وواعظٍ وعالِمٍ ومُرَبٍّ أن يتخوَّل أصحابه بالموعظة، ولا يُكثر عليهم، كان عبد الله بن مسعود يُذَكِّرُ الناس في كلِّ خميسٍ، فقال له رجُل: يا أبا عبد الرحمن، لوددِتُ أنَّك ذكَّرتنا كلَّ يوم، قال: "أما إنه يمنعني من ذلك أني أكرَهُ أن أُمِلَّكم، وإني أتخوَّلكم بالموعظة، كما كان النبيُّ ﷺ يتخوَّلنا بها؛ مخافةَ السآمة علينا"[11].

2- (1) من علامات المؤمنين أنهم إذا سمعوا كلامَ اللهِ تعالى أو قولَ النبيِّ ﷺ أصغوا إليه، وتاقت نفوسهم لمعناه، ووجلت قلوبهم وذرفت عيونهم من خشية اللهِ تعالى

قال سبحانه:

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}

[الأنفال: 2]

فانظر في نفسك هل تتحقق فيك تلك العلامات.

3- (2) على الواعظ أن تشتمل موعظته القواعد العامَّة، والأمور الكلية.

4- (2) يُستحب للمسلم أن يطلب الموعظة والنصيحة من الحُكماء وأهل العلم والدين.

5- (3) احرص على تقوى اللهِ تعالى والحرص على مرضاته في السِّرِّ والعلن؛ فإنَّها النجاةُ من الفتن والكروب في الدنيا، ومن النار في الآخرة.

6- (3) قال الشاعر:

إذا المرءُ لم يلبسْ ثيابًا من التُّقى ... تجرَّد عريانًا ولو كان كاسيَا

وخيرُ لباس المرءِ طاعةُ ربِّه ... ولا خيرَ فيمن كان للهِ عاصيًا

7- (4) اسمع لوليِّ الأمرِ وأطع، ما لم يأمر بمعصيةٍ أو يحصل منه كفرٌ.

8- (4) الصبر على جور ولاة الأمور خيرٌ من الخوض في فتنة تسفك الدماء وتشقُّ وحدة المسلمين وتفرق جماعتهم.

9- (5) النَّجاةَ النجاةَ في اتباع السُّنَّة؛ فإنَّ صاحبها ﷺ ما ترك خيرًا إلا دلَّنا عليه، ولا شرًّا إلا حذَّرنا منه.

10- (5) الاقتداءُ بأصحاب النبيِّ ﷺ خيرُ وسيلةٍ إلى بلوغ الحقِّ؛ فإنهم أبصر النَّاس بالوحي ومعانيه، وأعرفُ النَّاس بالنبيِّ ﷺ وطريقته. 

قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "قِفْ حيث وقف القوم، وقل كما قالوا، واسكت كما سكتوا؛ فإنّهم عن عِلْمٍ وقفوا، وببصر ناقد كفُّوا، وهم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى. أي: فلئن كان الهدى ما أنتم عليه، فلقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتُم: حَدَث بعدَهم، فما أحدثه إلّا من سلك غيرَ سبيلهم، ورَغِب بنفسه عنهم، وإنّهم لهم السّابقون، ولقد تكلَّموا منه بما يكفي، ووصفوا منه ما يَشفي، فما دونهم مقصِّر، ولا فوقهم مجسِّر، ولقد قصَّر عنهم قوم فجَفَوْا، وطَمَح آخرون عنهم فغَلَوْا، وإنّهم فيما بين ذلك لعلى هدًى مستقيم"[12].

11- (5) كان التَّابعون رحمهم الله أحرصَ النَّاس على اقتفاءِ سُنَّةِ النبيِّ ﷺ وأصحابه؛ قال إبراهيم النَّخَعِيُّ-رحمه الله-: "لو بلغني عنهم - يعني الصّحابةَ - أنّهم لم يجاوزوا بالوضوء ظُفْرًا ما جاوزتُه به، وكفى على قوم وِزْرًا أن تُخالف أعمالهم أعمال أصحاب نبيِّهم ﷺ"[13].

12- (6) إياك والبدعَ والعمل بما لا أصل له من شرع اللهِ تعالى وسُنَّته؛ فالحقُّ في القرآن والسُّنَّة لا يخرج عنهما.

13- (6) ليس في الدين بدعة حسنة وبدعة سيئة؛ فكلُّ ما استُحدث في دينِ اللهِ تعالى ولم يكن على نهجِ النبيِّ ﷺ فهو باطلٌ وصاحبه مأزورٌ عليه.

المراجع

  1. انظر: "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 633)، "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 114).
  2. "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 276).
  3. انظر: "الرسالة التبوكية = زاد المهاجر إلى ربه" لابن تيمية (1/ 9)، "مدارج السالكين" لابن القيم (1/ 459).
  4. رواه البخاريُّ (7144).
  5. انظر: "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاويِّ (1/ 137)، "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 97).
  6. انظر: "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (1/ 89)، "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (1/ 272).
  7. "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاويِّ (1/ 137).
  8. رواه البخاريُّ (2697)، ومسلم (1718).
  9. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 128).
  10. رواه البخاريُّ (2010).
  11. رواه البخاريُّ (70)، ومسلم (2821).
  12. "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (4/ 115).
  13. "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (4/ 115).


مشاريع الأحاديث الكلية