عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلاَتِ». 

عناصر الشرح

المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي أبو هرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ، أنه قَالَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ»؛ أي: احترزوا وابتعدوا عن السبع الأمور الْمُهلِكة: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ»؛ أي: اتِّخَاذ إلَهٍ غير الله، وهو أعظم الكبائر على الإطلاق؛ فإن الشرك لظُلمٌ عظيم. «وَالسِّحْرُ» وهو إثم كبير، ووِزر عظيم. «وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ» وهو إزهاق النفس المعصومة (وتُعصَم النفس بالإسلام أو الذمَّة أو العهد أو الأمان). «إلا بالحقِّ» فلا يَأثَم القاتلُ بالحقِّ؛ كالقتل قصاصًا أو حدًّا أو ردَّةً

«وَأَكْلُ الرِّبَا»؛ أخذًا للرِّبا أو إعطاءً. «وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ»؛ أي: الاستيلاء على مال من مات أبوه وهو صغير، أو إتلافه. «وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ»؛ أي: الفرار عن القتال يوم أن يمشيَ ويتوجَّه جيش المسلمين إلى العدوِّ. «وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلاتِ»؛ أي: اتِّهام ورميُ العفيفات المؤمنات البريئات البعيدات عمَّا اتُّهمن به من الفاحشة بالزنى.


الشرح المفصَّل للحديث

في هذا الحديث يحذِّر النبيُّ ﷺ أمَّته من المهلِكات السَّبع، التي تُهلِك فاعلَها في الدنيا بما يترتَّب عليها من العقوبات، وتُودِي به في نار جهنَّمَ.

قوله: «اجتبوا السبع الموبقات»؛ أي: ابتعدوا عن فعل الذنوب السبع المهلِكة لمن ارتكبها، وسببُ تسمية هذه الكبائر (موبقات)؛ لأنها تُهلِك فاعلها في الدنيا بما يترتَّب عليها من العقوبات، وفي الآخرة من العذاب [1]، وقد سمَّاها رسول الله ﷺ موبقات؛ لأن الله تعالى إذا أراد أن يأخذ عبده بها، أَوْبَقه في نار جهنَّم [2].

وليس الغرضُ حَصْرَ الموبقات في هذه السَّبع؛ بل الغرضُ التَّنْبِيه بها إلى أمثالها، أو ما زاد فُحْشُه عن فُحْشِها؛ كالزنى والسَّرِقة، وسببُ الاقتصار على هذه السبع؛ "لكونها من أفحش الكبائر مع كثرة وقوعها، لا سيَّما فيما كانت عليه الجاهلية" [3].

"ولا شكَّ في أن الكبائر أكثرُ من هذه السبع؛ ولذلك قال ابن عباس حين سُئل عن الكبائر: «هي إلى السبعين أقربُ منها إلى السبع» [4]، وعلى هذا؛ فاقتصاره على هذه السبع في هذا الحديث يَحتمِل أن تكون لأنها هي التي أُعلِمَ بها في ذلك الوقت بالوحي، ثم بعد ذلك أُعلِم بغيرها، ويَحتمِل أن يكون ذلك؛ لأن تلك السبعَ هي التي دَعَت الحاجة إليها في ذلك الوقت، أو التي سُئل عنها في ذلك الوقت، وكذلك القول في كلِّ حديث خصَّ عددًا من الكبائر" [5].

قوله: «الشرك بالله»: وهو أعظم الكبائر على الإطلاق؛

قال الله تعالى:

(وَإِذْ قَالَ لُقْمَٰنُ لِٱبْنِهِۦ وَهُوَ يَعِظُهُۥ يَٰبُنَىَّ لَا تُشْرِكْ بِٱللَّهِ ۖ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)

 [لقمان: 13]،

وعن عَبْدِاللهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ:

سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ». قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ...

[6].

"وأما قُبْحُ الكفر وكَوْنُه أكبرَ الكبائر، فكان معروفًا عندهم، ولا يتشكَّك أحدٌ من أهل القِبلة في ذلك" [7].

قوله: «والسحر»: أصلُ السِّحر: صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره، فكأنَّ الساحر لَمَّا أَرَى الباطل في صورة الحقِّ، وخيَّل الشيء على غير حقيقته، قد سَحَر الشيء عن وجهه؛ أي: صَرَفه، وهو عمل يقرِّب فيه إلى الشيطان، وبمعونة منه، ومن السِّحر الأخذة التي تأخذ العين حتى تظنَّ أن الأمر كما ترى، وليس الأصل على ما ترى، ويجوز أن يكون في معرض المدح؛ لأنه تُستمال به القلوبُ، ويَرضى به الساخط، ويَستنزل به الصَّعب؛

كقوله ﷺ:

«إن من البيان لسحرا»

[8].

وهو إثم كبير، ووِزر عظيم؛ لأن فيه تلبيسًا وتَعْمِيةً وسَتْرًا للحقائق، ووَضْعَ غشاءٍ على الأبصار، وإضلالاً للعامَّة، وزلزالاً لعقيدتهم في ترتُّب المسبِّبات على أسبابها، والنتائجِ على مقدِّماتها، وهو حرام، من الكبائر فِعْلُه وتعلُّمه وتعليمه.

قوله: «وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحقِّ»: وهو إزهاقُ النَّفس المعصومة بالإسلام أو الذمَّة أو العهد أو الأمان. «إلا بالحقِّ» كالقتل قصاصًا أو حدًّا أو ردَّةً، وهي جريمة تَرفَع الأمن، وتَنشُر الخوف، وتَفتِك بالأمَّة وتُضعِفها، وتقطع روابط الإخاء بينها؛

قال تعالى:

(وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمًا )

 [النساء: 93].

وقتل النفس يَشمَل قتل العُدوان، وقتلَ الأولاد خشيةَ الإملاق، ووأدَ البنات مخافةَ العار [9].

قوله: «وأكل الربا»؛ أي: تعاطيه بالأخذ أو الإعطاء، والأصلُ في معناه الزيادة، يقال: رَبا الشيء إذا زاد، ومن ذلك قول الله تبارك وتعالى:

(يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰا وَيُرْبِى ٱلصَّدَقَٰتِ ۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ)

 [البقرة: 276]،

وقال سبحانه:

(ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ ٱلرِّبَوٰا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَٰنُ مِنَ ٱلْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوٓا إِنَّمَا ٱلْبَيْعُ مِثْلُ ٱلرِّبَوٰا ۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰا ۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰٓئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ)

 [البقرة: 275].

"من تأمَّل أبواب الربا، لاح له سرُّ التحريم من جهة الجشع المانع من حُسن المعاشرة، والذريعة إلى ترك القرض، وما في التوسعة من مكارم الأخلاق؛

ولذلك قال تعالى:

(فَأْذَنُوا بِحَرْبٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ۖ )

 [البقرة: 279]

غضبًا على أهله" [10].

قوله: «وأكل مال اليتيم»: أي إتلاف ماله، والمراد من الأكل الاستيلاء، لا خصوص الأكل، وخُصَّ الأكل بالذكر لأنه المقصودُ الغالب من المال، واليتيم: من مات أبوه وهو صغير؛

قال الله عز وجل:

(إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَٰلَ ٱلْيَتَٰمَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)  

[النساء: 10].

قوله: «والتولِّي يومَ الزحف»؛ أي: عن القتال، والتولِّي عن القتال إنما يكون كبيرةً إذا فرَّ إلى غير فئة، وإذا كان العدوُّ ضِعْفَيِ المسلمين [11].

قال الله تعالى:

(يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ ٱلْأَدْبَارَ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍۢ دُبُرَهُۥٓ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍۢ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأْوَىٰهُ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ)  

[الأنفال: 15 - 16]،

فإذا لَقِيَتْ فئةٌ من المؤمنين فئةً هي ضعفُ المؤمنين من المشركين، فالفرضُ ألَّا يَفِرُّوا أمامهم، فمن فَرَّ من اثنين، فهو فارٌّ من الزحف، ومن فَرَّ من ثلاثة، فليس بفارٍّ من الزحف، ولا يتوجَّه عليه الوعيد، والفرار كبيرةٌ مُوبِقة بظاهر القرآن، وإجماعُ الأكثرِ من الأئمَّة [12].

والزَّحْفُ أصله المشيُ المتثاقِل؛ كالصبيِّ يَزحَف قبل أن يمشيَ، وسُمِّي الجيشُ زَحْفًا؛ لأنه يزحف فيه، وإنما يكون الفرار كبيرةً إذا فرَّ إلى غير فئة، وإلا إذا كان العدوُّ زائدًا على ضِعفَيِ المسلمين [13].

قوله: «وقذف المحصَنات المؤمنات الغافلات»؛ أي: رَمْيُهن بالزنى، والإحصان هنا: العفَّة عن الفواحش، والغافلات، يعني: عمَّا رُمِين به من الفاحشة؛ أي: هن بريئات من ذلك، لا خبر عندهن منه.

وقيَّده بوصف "الغافلات" لتغليظ الذنب، وليس قيدًا للاحتراز يُبيح قذف غير الغافلات [14].

واحتُرز بـ«المؤمنات» عن قذف الكافرات؛ فإن قذفَهن ليس من الكبائر، فإن كانت ذِمِّيَّةً، فقَذْفُها من الصغائر لا يوجب الحَدَّ، وفي قذف الأَمَة المسلِمة التعزيرُ دون الحَدِّ [15].

قال الله تعالى:

(إِنَّ ٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَٰتِ ٱلْغَٰفِلَٰتِ ٱلْمُؤْمِنَٰتِ لُعِنُوا فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلْءَاخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)  

[النور: 23].

ولا يَقتصِر ذلك على قذف النساء فقط بالفاحشة؛ وإنما يَدخُل فيه أيضًا قذف الرجال؛ فقد "قام الإجماع أن حكم المحصَنين في القذف كحُكم المحصَنات قياسًا واستدلالاً، وأن من قَذَف حُرًّا عفيفًا مؤمنًا، عليه الحَدُّ ثمانون؛ كمن قَذَف حُرَّة مؤمِنة، وجاءت الأخبار عن الشارع بالتغليظ في رميِ المحصَنات، وأن ذلك من الكبائر" [16].



المراجع

1.  "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العبَّاس القرطبيِّ (1/ 283).

2. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (8/ 489).

3. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 84).

4. رواه البيهقيُّ في "شعب الإيمان" (290). 

5. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العبَّاس القرطبيِّ (1/ 283).

6. رواه البخاريُّ (4477)، ومسلم (86).

7. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 88).

8. رواه البخاريُّ (5146).

9. "الأدب النبويُّ" لمحمد عبد العزيز الشاذلي (ص: 89).

10. "شرح سنن أبي داود" لابن رسلان (12/ 370).

11. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العبَّاس القرطبيِّ (1/ 284).

12. "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبيِّ (7/ 380).

13. "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (17/ 264).

14. "فتح المنعم شرح صحيح مسلم" لموسى شاهين لاشين (1/ 291).

15. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 506).

16.  "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (31/ 284).




النقول

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "وقيل: الكبائر تسع، وروى الحاكم في حديث طويل: «والكبائر تسع» فذكر السبعة المذكورة، وزاد عليها: «عقوق الْوَالِدين الْمُسلمينِ، وَاسْتِحْلَال الْبَيْت الْحَرَام»، وقيل: الكبيرة كلُّ معصية. وقيل: كلُّ ذنب قُرِن بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب، وقال رجل لابن عَبَّاس، رضي الله عنهما: الكبائر سبع؟ فقال: هي إلى سَبْعمِائة. وقيل: الكبيرة أمر نسبيٌّ، فكلُّ ذَنْب فَوْقَه ذَنْب، فهو بالنسبة إليه صغيرة، وبالنسبة إِلى ما تَحْتَه كبيرة" [1].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "اليتامى هم الذين مات آباؤهم قبل البلوغ، سواء كانوا ذكورًا أو إناثًا، وهؤلاء - أعني اليتامى - محلُّ الرفقِ والعناية والرحمة والشفقة؛ لأنهم كُسرت قلوبهم بموت آبائهم، وليس لهم عائلٌ إلا اللهَ عزَّ وجلَّ، فكانوا محلَّ الرفق والعناية. قال: «الشرك بالله»، وهذا أعظم الموبقات أن تُشرك بالله عزَّ وجلَّ، وهو خَلَقك وأَنعَم عليك في بطن أمِّكَ، وبعد وَضعك وفي حال صِباكَ، أَنعَم الله عليك بنِعَم كثيرة، فتُشرك به" [2].

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قَوْله: «الشّرك بِاللَّه»؛ أَي: أَحدها: الشّرك بِاللَّه. الشِّركُ جَعْلُ أحدٍ شَرِيكًا لآخَرَ، والمراد هنا: اتِّخَاذ إلَهٍ غير الله. قوله: «والسحر»؛ أي: الثاني: السحر، وهو في اللُّغَة: صرف الشَّيْء عن وَجهه، وقال الْجَوْهَرِيُّ: السحر الأَخْذة، وكلُّ ما لَطُف مَأْخَذُه ورقَّ فهو سحر، وقد سَحَره سِحرًا، والساحر الْعَالِم، وسَحَره أيضًا بمعنى: خدَعَه، وذكر أبو عبد الله الرَّازِيُّ: أَنْوَاع السحر ثَمَانِيَة. الأول: سحر الْكَذَّابين والكشدانيين الذين كانوا يعبدون الكواكب السبعة الْمُتَحَيِّرَة، وهي السيَّارة، وكانوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا مُدبِّرَة للعالم، وأنها تأتي بِالْخَيرِ وَالشَّرِّ، وهم الذين بَعَث الله إِبراهِيم الْخَلِيل مُبْطِلًا لمقالتهم، وردًّا لمذاهبهم. الثاني: سِحْرُ أَصْحَاب الأوهام والنفوس القوية. الثالث: الاستعانة بالأرواح الأرضية وهم الْجِنُّ، خلافًا للفلاسفة والمعتزلة، وهم على قسمَيْنِ: مؤمنون وكفَّار، وهم الشَّيَاطِين، وهذا النَّوْع يحصل بأعمال من الرقى والدخن، وهذا النَّوْع الْمُسَمَّى بالعزائم وعمل تسخير. الرابع: التخيُّلات وَالْأَخْذ بالعيون والشَّعْبَذة، وقد قال بعض الْمُفَسِّرين: إِن سحر السَّحَرَة بين يَدَيْ فِرْعَوْنَ إنما كان من باب الشعبذة. الخامس: الْأَعْمَال العجيبة الَّتِي تَظهَر من تركيب الْآلَات المركَّبة. السادس: الاستعانة بخواصِّ الأدوية، يعني: في الأطعمة والدِّهانات. السابع: تعلُّق الْقلب، وهو أن يدَّعِيَ السَّاحر أَنه عرف الاسم الْأَعْظَم، وَأَن الْجِنَّ يُطيعونه وينقادون له في أكثر الأمور. الثامن: من السحر: السَّعْيُ بالنميمة بالتصريف من وُجُوه خفية لطيفة، وذلك شائع في النَّاس، وَإِنَّمَا أُدخل كثير من هذه الأنواع المذكورة في فنِّ السحر للَطافة مداركها؛ لأن السحر فِي اللُّغَة عبارَة عَمَّا لَطُف وخَفِيَ سَببُه؛ ولهذا جاء في الحديث: «إِن من الْبَيَان لسحرًا»، وَسمِّي السُّحُور لكَونه يَقع خفِيًّا آخِرَ اللَّيْل، وَالسِّحر الرية، وَهِي مَحلُّ الْغَدَاء، وَسمِّيت بذلك لخفائها ولُطف مجاريها إِلَى أَجزَاء الْبدن وغصونه" [3].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "السحر هو عبارة عن عُقَد وقراءات ونَفَثات يتوصَّل بها الساحر إلى الإضرار بالمسحور، فمنه ما يَقتُل، ومنه ما يُمرِض، ومنه ما يُذهب العقل، ومنه ما يُوجِب العَقد؛ يعني: تعلُّق الإنسان بغيره تعلُّقًا شديدًا، ومنه ما يوجِب الصرف؛ يعني: انصرافه عن غيره انصرافًا كاملاً، فهو أنواع؛ لكن كلُّه محرَّم، وقد تبرَّأ النبيُّ  ممَّن سَحَر وسُحِر له، ومنه ما يوصِّل إلى الكفر، فإذا كان الساحر يتوصَّل إلى سحره بالأرواح الشيطانية يتقرَّب إليها ويتعبَّد لها حتى تُطيعه فهذا كُفْرٌ لا شكَّ فيه، وأما إذا لم يكن كذلك، فإنه أذيَّة ومحرَّم، ومن كبائر الذنوب، ويجب على وليِّ الأمر أن يَقتُل الساحرَ قتلاً بدون توبة؛ بمعنى: أن يقتله قتلاً وإن تاب؛ لأنه إن تاب فأمرُه إلى الله عزَّ وجلَّ؛ لكننا نقتله دَرْءًا لمضرَّته ومفسدته، وأما إذا لم يَتُب، فهو من أهل النار، إذا كان سحره مكفِّرًا؛ لأن السحر من أعظم الفساد في الأرض، ومن أعظم الشرور؛ لأنه يأتي الإنسان من غير أن يَحترِز منه؛ ولكن هناك شيء يحميك منه بإذن الله عزَّ وجلَّ وهو قراءة الأوراد الشرعية؛ مثل آية الكرسيِّ، وقل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، وما أشبه ذلك مما جاء في الآيات والأحاديث عن النبيّ فإن هذا أكبر واقٍ يقي الإنسان من السحر" [4].

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قَوْله: «وَقتل النَّفس»؛ أَي: الثَّالِث من السَّبع الموبقات: قتل النَّفس. قَوْله: «وَأكل الرِّبَا»؛ أَي: الرَّابِع: أكل الرِّبَا، وَهُوَ فضل مَال بِلَا عوض فِي مُعَاوضَة مَال بِمَال، كَمَا عرِّف فِي الْفِقْه. قَوْله: «وَأكل مَال الْيَتِيم»؛ أي: الخامس: أكل مال اليتيم، وهو الْمُنْفَرد في اللُّغَة، وهو: من مات أبوه وهو ما دون الْبلُوغ، وفي البهائم: ما ماتت أمُّه. قَوْله: «والتولِّي يَوْم الزَّحْف»؛ أَي: السَّادِس: الْفِرَار عن الْقِتَال يوم ازدحام الطائفتين، ويُقال: التولِّي: الْإِعراض عن الْحَرْب، والفرار من الْكفَّار إِذا كان بِإِزَاءِ كلِّ مُسلم كَافِرَانِ، وإن كان بِإِزَاءِ كلِّ مُسلم أَكثرُ من كَافِرينِ يجوز الْفِرَار، والزحف الجماعة الَّذين يزحفون إلى الْعَدوِّ؛ أي: يمشون إليهم بِمَشَقَّة، من زحف الصَّبِيِّ إِذا دبَّ على استِه. قَوْله: «وَقذف الْمُحْصنَات»؛ أَي: السَّابِع: قذف الْمُحْصنَات، الْقَذْف الرَّمْيُ الْبعيد، استُعير للشتم والعَيْب والبُهتان كما استعير للرمي، وَالْمُحصنَات جمع مُحصَنَة، بِفَتْح الصَّاد، اسْم مفعول؛ أَي: الَّتِي أَحصَنها الله تَعَالَى وحَفِظها من الزِّنَا، وبكسرها، اسْم فَاعل؛ أَي: الَّتِي حَفِظت فرجها من الزِّنَا. قَوْله: «الْمُؤْمِنَات» احْتَرز به عن قذف الكافرات؛ فإن قذفهن ليس من الكبائر، وإن كانت ذِمِّيَّةً فقذفُها من الصَّغَائِر لا يُوجب الْحَدَّ، وَفِي قَذْفِه الْأمَة الْمسلمَة التَّعْزِيرُ دون الْحَدِّ. قَوْله: «الْغَافِلَات» كِنَايَةٌ عَن البريئات؛ لِأَن البريء غافلٌ عَمَّا بُهت به من الزِّنَا" [5].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "فناب ذِكْرُ رمي النساء عن ذكر رمي الرجال، وأجمع المسلمون أن حكم المحصَنين في القذف كحُكم المحصنات قياسًا واستدلالاً، وأن من قذف حرًّا عفيفًا مؤمِنًا عليه الحدُّ ثمانون كمن قذف حرَّةً مؤمنة" [6].

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "ذِكْرُ مَا يُسْتَفَاد منه: فيه: ذكر السَّبع، ولا يُنَافِي أن لا تكون كبيرة إلَّا هذه، فقد ذكر في غير هذا الموضع: قَولَ الزُّور، وزنا الرجل بحليلة جاره، وعقوق الْوَالِدين، وَالْيَمِين الْغَمُوس، واستحلال بيت الله، ومسك امرأة مُحصنَة لمن يزني بها، ومسك مُسلم لمن يقْتله، ودلّ الْكفَّار على عورات المسلمين مع علمه أنهم يستأصلون بدلالته ويسبُون ويغنمون، والحكم بِغَيْر حقٍّ، والإصرار على الصغيرة. وقال الشَّافِعِيُّ: وأكبرها بعد الإشراك: الْقَتْل، وادَّعى بعضهم أَن الكبائر سبع، كأنه أَخذ ذلك من هذا الحديث. وقال بعضهم: إحدى عشْرَةَ، وقال ابْن عَبَّاس: إِلَى السّبْعين أقرب، ورُوي عَنهُ أَن سَبْعمِائة، وَالتَّحْقِيق هنا أن التَّنْصِيص على عدد لَا يُنَافِي أَكثرَ من ذلك، وَأما تعْيين السَّبع هنا فلاحتمال أَن يكون أعلم الشَّارِع ها في ذلك الْوَقْت، ثمّ أوحى إليه بعد ذلك غيرها، أو يكون السّبع هي الّتي دعت إليها الحاجة في ذلك الوقت، وكذلك القول في كلّ حديث خصّ عددًا من الكبائر. وفيه: أن الموبقات الّتي هي الكبائر لا بدّ في مقابلتها الصّغائر، فلا بدّ من الفرق بينهما، فقال الشّيخ عز الدّين بن عبد السّلام: إذا أردت معرفة الفرق بين الصّغيرة والكبيرة، فاعرض مفسدة الذّنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها، فإذا نقصت عن أقلّ مفاسد الكبائر، فهي من الصّغائر، وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر أو أربت عليه، فهي من الكبائر، فمن شتم الربّ، عزّ وجلّ، أو رسوله أو استهان بالرسل أو كذّب واحدًا منهم، أو ضمّخ الكعبة المشرّفة بالعذرة، أو ألقى المصحف في القاذورات، فهي من أكبر الكبائر، ولم يصرّح الشّرع بذكرها، وقال بعضهم: كلّ ذنب قرن به وعيد أو حدّ أو لعن فهو كبيرة، وروي هذا عن الحسن أيضًا، وقيل: الكبيرة ما يشعر بتهاون مرتكبها في دينه. وعن ابن مسعود، رضي الله تعالى عنه: الكبائر جميع ما نهى الله عنه من أول سورة النّساء إلى قوله:

﴿إِن تَجْتَنِبُوا كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾

[النساء: ٣١]" [7].

قال القرطبيُّ رحمه الله: "ولا شكَّ في أن الكبائر أكثرُ من هذه السبع؛ ولذلك قال ابن عباس حين سُئل عن الكبائر: «هي إلى السبعين أقربُ منها إلى السبع» [8]، وعلى هذا؛ فاقتصاره على هذه السبع في هذا الحديث يَحتمِل أن تكون لأنها هي التي أُعلِمَ بها في ذلك الوقت بالوحي، ثم بعد ذلك أُعلِم بغيرها، ويَحتمِل أن يكون ذلك؛ لأن تلك السبعَ هي التي دَعَت الحاجة إليها في ذلك الوقت، أو التي سُئل عنها في ذلك الوقت، وكذلك القول في كلِّ حديث خصَّ عددًا من الكبائر" [9].

قال السهيليُّ رحمه الله: "من تأمَّل أبواب الربا، لاح له سرُّ التحريم من جهة الجشع المانع من حُسن المعاشرة، والذريعة إلى ترك القرض، وما في التوسعة من مكارم الأخلاق؛

ولذلك قال تعالى:

{فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ }  

[البقرة: 279]

غضبًا على أهله" [10].

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "اختلفوا فيمن يتعلَّم السحر ويستعمله. فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: يكفر بذلك، وعن بعض الحنفيّة: إن تعلَّمه ليتَّقيَه أو ليجتنَّبه فلا يكفر، ومن تعلَّمه معتقدًا جوازَه أو أن ينفعه، كفر، وكذا من اعتقد أن الشّياطين تفعل له ما يشاء، فهو كافر. وقال الشّافعيُّ: إذا تعلَّم السّحر، قلنا له: صِفْ لنا سحرك، فإن وصف ما يوجِب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل من التّقرُّب إلى الكواكب السّبعة، وأنّها تفعل ما يُلتمس منها، فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر، فإن اعتقد إباحته فهو كافر" [11].

قال ابن القيم رحمه الله: "وقلَّما يتأتَّى السِّحر بدون نوع عبادة للشيطان، وتقرُّب إليه، إما بذَبْحٍ باسمه، أو بذَبح يُقصد به هو، فيكون ذبحًا لغير الله، وبغير ذلك من أنواع الشرك والفسوق. والساحر وإن لم يُسَمِّ هذا عبادةً للشيطان، فهو عبادة له، وإن سمَّاه بما سمَّاه به؛ فإن الشِّرك والكفر هو شرك وكُفر لحقيقته ومعناه، لا لاسمه ولَفظِه؛ فمن سَجَد لمخلوق وقال: ليس هذا بسجود له، هذا خضوع وتقبيل الأرض بالجبهة كما أقبِّلها بالنِّعم، أو هذا إكرام، لم يَخرُج بهذه الألفاظ عن كونه سجودًا لغير الله، فليسمِّه بما شاء" [12].

قال ابن الملقِّن رحمه الله: "قام الإجماع أن حكم المحصَنين في القذف كحُكم المحصَنات قياسًا واستدلالاً، وأن من قَذَف حُرًّا عفيفًا مؤمنًا، عليه الحَدُّ ثمانون؛ كمن قَذَف حُرَّة مؤمِنة، وجاءت الأخبار عن الشارع بالتغليظ في رميِ المحصَنات، وأن ذلك من الكبائر"  [13].

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "وفيه: قذف المحصَنات، وقد ورد الإحصان في الشّرع على خمسة أقسام: الإسلام والعفَّة والتّزويج والحريّة والنّكاح. وقال أصحابنا: إحصان المقذوف بكونه مكلَّفًا؛ أي: عاقلاً بالغًا حرًّا مسلمًا عفيفًا عن زنا، فهذه خمس شرائطَ، يدخل تحت قوله تعالى:

{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}

[النور: ٤]،

فإذا فُقد واحد منها لا يكون محصَنًا" [14].

المراجع

1. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (3/ 114).

2. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (6/ 309-311).

3. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للبخاريِّ (14/ 61).

4. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (6/ 573، 574).

5. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للبخاريِّ (14/ 62).

6. شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (8/ 489).

7. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للبخاريِّ (14/ 62).

8. رواه البيهقيُّ في "شعب الإيمان" (290).

9. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العبَّاس القرطبيِّ (1/ 283).

10. "شرح سنن أبي داود" لابن رسلان (12/ 370).

11. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للبخاريِّ (14/ 63).

12. "بدائع الفوائد" لابن القيم (2/ 759، 760).

13. "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (31/ 284).

14. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للبخاريِّ (14/ 64).



مشاريع الأحاديث الكلية