المعنى الإجماليُّ للحديث:
يروي أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، عن رَسُول اللهِ ﷺ أنه قال:
«الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ»
أي: إن الله تعالى يحب قوَّة المؤمن عامَّةً، وأوَّلها قوَّة الإيمان.
قوله ﷺ: «وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ»؛ أي: وفي كلٍّ من المؤمن القويِّ والمؤمن الضعيف خيرٌ بالإيمان.
قوله ﷺ: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ»؛ أي: احرص واجتهد في تحصيل ما تنتفعُ به في أمر دينك ودنياك. «وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجِزْ»؛ أي: استعن بالله ولا تفعلْ فعلَ العاجز بالتكاسل وعدم الحزْم وضعف العزيمة. «وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ»؛ أي: بعد بذل الجهد والاستعانة بالله. «فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا؛ وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ "لَوْ" تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ»؛ أي: فقل: هذا تقدير الله وقضاؤه المكتوب، ولا يمكِن أن يتغيَّر عمَّا وقع؛ فإن (لو) تفتح عليك الوساوس والأحزان والنَّدَم والهموم.
الشرح المفصَّل للحديث:
أخبر النبيُّ ﷺ في هذا الحديث أن المؤمنَ القويَّ - فيما يحبُّ الله القوَّةَ فيه؛ كقوَّة الإيمان - خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، والقوَّة هنا في كل شيء، سواءٌ في الإقدام على العدوِّ في الجهاد، أو في الأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكَر، والصبر على الطاعة، والصبر على الأذى ومخالطة الناس، واحتمال المشاقِّ؛ ولهذا مدح اللهُ - عزَّ وجلَّ - أصحاب نبيِّه ﷺ
﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ ﴾
قوله ﷺ: «وفي كلٍّ خيرٌ»: وإنما قال ذلك لئلَّا يتوهَّمَ أحدٌ من الناس أن المؤمن الضعيف لا خيرَ فيه؛ بل المؤمن الضعيف فيه خيرٌ؛ لكنه قد فاته الحظُّ الأكبر، والمقام الأفخرُ، وفيه أيضًا جبرٌ لخاطر المؤمن الضعيف[2]
وقوله ﷺ: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ واستعنْ بالله، ولا تعجِزْ»؛ أي: استعمل الحرصَ والاجتهادَ في تحصيل ما تنتفعُ به في أمر دينك ودنياك التي تَستعينُ بها على صيانة دينكَ، وصيانة عيالكَ، ومكارم أخلاقكَ، ولا تفرِّطْ في طلب ذلك، ولا تتعاجزْ عنه متَّكِلًا على القدر، فتُنسَب للتقصير، وتُلام على التفريط شرعًا وعادةً، ومع إنهاء الاجتهاد نهايته، وإبلاغ الحرص غايته، فلا بدَّ من الاستعانة بالله، والتوكُّل عليه، والالتجاء في كلِّ الأمور إليه، فمَن سلكَ هذين الطريقين، حصل على خير الدارين[3]
والأمر بالاستعانة بالله لا يُنافي الاستعانة بالمخلوق فيما يستطيع؛ كحمل صندوق مثلًا، أو قضاء حاجة، فهذا جائزٌ؛ ولكن لا تَشعُر نفسُكَ أنها كاستعانتك بالخالق؛ وإنما عليكَ أن تَشعُرَ أنها كمعونة بعض أعضائك لبعضٍ، كما لو عَجَزتَ عن حمل شيء بيد واحدة، فإنكَ تستعينُ على حمله باليد الأُخرى[4]
وقد جمع النبيُّ ﷺ في أمره هذا بين أصلين عظيمين، هما مفهوم التوكُّل ومقصودُه؛ فإنه أمرَ بالحرص على النفع مع الاستعانة بالله عزَّ وجلَّ؛ ليجمع بين الفعل وحُسن التوكُّل، وهذا مطابقٌ
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
﴿ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ﴾
فإن الحرصَ على ما ينفع العبدَ هو طاعةُ الله وعبادته؛ إذ النافعُ له هو طاعةُ الله، ولا شيءَ أنفعُ له من ذلك، وكل ما يُستعان به على الطاعة فهو طاعة، وإن كان من جنس المباح[5]
ثم نهى النبيُّ ﷺ عن العَجز، والمراد: لا تفعلْ فعلَ العاجز من التكاسل، وعدم الحزْم والعزيمة، وليس المعنى: لا يُصيبك عجزٌ؛ لأن العجزَ عن الشيء غيرُ التعاجُز؛ فالعجز يكون بغير اختيار من الإنسان.
ونرى بعض الناس يحرصُ على ما يَنفَعُه، ويَشرَعُ فيه، ثم يتعاجزُ ويتكاسلُ ويتركُه. وهذا خلافُ ما أمر به الرسولُ ﷺ، فما دمتَ عرَفتَ أن هذا الأمر نافع لك، فلا تدَعْه؛ لأنك إذا عجَّزت نفسكَ، خَسِرتَ العمل الذي عملتَ، ثم عوَّدتَ نفسكَ التكاسل والتدنِّيَ من حال النشاط والقوَّة إلى حال العجز والكسل، وكم من إنسان بدأ العمل - ولا سيَّما النافعُ - ثم أتاه الشيطانُ، فأقعدَه وثبَّطَه!
وقوله ﷺ: «فلا تقلْ: لو أني فعلتُ كان كذا وكذا»: النهيُ هنا على القضاء والحتم؛ فإنه كائنٌ لا محالةَ؛ فأنت غير مضمِر في نفسكَ شرط مشيئة الله؛ لأنه سبقَ في علم الله كلُّ ما يناله المرء؛
﴿ئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾
ولا يعني هذا أن كلمة (لو) حرامٌ مطلقًا لا يجوزُ النُّطق بها؛ بل الأمر على خلاف هذا؛ فإن الإنسان إن قالها تحسُّرًا على القدر، وتسخُّطًا على قضاء الله، أو ظنَّ فعلًا وحتمًا أنه لو لحصل له كذا من إدراك فوز، أو هربٍ من خسارة، دون ردِّ ذلك إلى قضاء الله وقدره، وأنه لا يكون في مُلكه إلا ما يُريد، كان حرامًا عليه، وهذا محلُّ النهي، وهو مثلُ قول الكافرين - كما حكاه الله عزَّ وجلَّ في القرآن -:
﴿ لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا ﴾
وقوله: (الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾
أما إن قالها الإنسان على وجه التأسُّف على الخطأ، أو افتراضٍ لأمرٍ مستقبَلٍ أنه لو فعل كذا سيحصل كذا، أو كان منه وهو يعلمُ تمام العلم أن الأمر كله بيد الله عزَّ وجلَّ - فجاز ذلك، ومنه قولُ نبيِّ الله هود كما حكاه الله تعالى:
﴿ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً ﴾
ومنه ما رواه عبد الله بن عباس ﭭ أن النبيَّ ﷺ قال في أمر المرأة المتلاعِنة: «لو كنتُ راجمًا امرأةً من غير بيِّنة» [8]، وقوله ﷺ : «لولا أن أشقَّ على أُمَّتي لأمرتهم بالسواك» [9]، وقول أبي بكر الصديق وهو في الغار مع النبيِّ ﷺ: «لو أن أحدَهم نظَر تحت قدميه لأبصرَنا» [10]. فإن الإنسان إذا أخبر بـ"لو" عن أمرٍ مستقبلٍ، أو عن أمرٍ كان في استطاعته أن يفعله لولا المانعُ منه، أو كان حديثُه على غير التسخُّط على قَدَر الله عزَّ وجلَّ، كان جائزًا [11]؛ ولهذا عقد الإمام البخاريُّ بابًا في صحيحه باسم: باب ما يجوز من اللَّوْ [12].
وبهذا يوجِّه النبيُّ ﷺ ألى سلوكٍ قيِّمٍ حيث يُصيب الإنسانَ الضُّرُّ؛ إذ لا تخلو الحياة من المتاعب والبؤس، فيأمر النبيُّ ﷺبترك التأفُّف من القَدَر، وعدم الأسف على ما فات، والندم عليه بقولنا: "لو أني فعلتُ كذا لكان كذا، أو لما حدث كذا"؛ فإن هذا مما يجعل للشيطان عليكَ سبيلًا؛ فإنكَ لا تستطيع تغييرَ الواقع بهذه القولة.
1- انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 215)، "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" لعلي القاري [8/ 3318]
2- انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العبَّاس القرطبيِّ [6/ 682]
3-"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العبَّاس القرطبيِّ [6/ 68]
4- "القول المفيد على كتاب التوحيد" لابن عثيمين [2/ 369]
5- انظر: أمراض القلوب وشفاؤها [ص: 50]
6- "شرح صحيح البخاري" لابن بطال [10/ 295]
7-انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" [5/ 421]
8 -رواه البخاري (7238)، ومسلم [1497]
9- أخرجه البخاري (7240).
10- رواه البخاري (3653)، ومسلم [2381]
11- انظر: إكمال المعلم بفوائد مسلم (8/ 158)، المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم [4/ 638]
12- انظر: صحيح البخاري [9/ 85]
النقول
قال النوويُّ رحمه الله: "«الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ» والمراد بالقوّة هنا: عزيمة النّفس، والقريحة في أمور الآخرة، فيكون صاحبُ هذا الوصفِ أكثرَ إقدامًا على العدوِّ في الجهاد، وأسرع خروجًا إليه، وذَهابًا في طلبه، وأشدَّ عزيمةً في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، والصّبر على الأذى في كلّ ذلك، واحتمال المشاقِّ في ذات اللّه تعالى، وأرغب في الصّلاة والصّوم والأذكار وسائر العبادات، وأنشط طلبًا لها ومحافظةً عليها، ونحو ذلك. وأمّا قوله: «وفي كلّ خير»، فمعناه: في كلّ من القويّ والضّعيف خير؛ لاشتراكهما في الإيمان مع ما يأتي به الضّعيف من العبادات. قوله : «احرص على ما ينفعك، واستعن باللّه ولا تعجز»: أمّا (احرص) فبكسر الرّاء، و(تعجز) بكسر الجيم، وحُكي فتحهما جميعًا، ومعناه: احرص على طاعة اللّه تعالى، والرّغبة فيما عنده، واطلب الإعانة من اللّه تعالى على ذلك، ولا تعجز ولا تَكسَل عن طلب الطّاعة، ولا عن طلب الإعانة"[1]
قال ابن عثيمين رحمه الله: "المؤمن القويُّ: يعني في إيمانه، وليس المرادُ القويَّ في بدنه؛ لأن قوة البَدَن قد تكون ضررًا على الإنسان إذا استعمل هذه القوَّةَ في معصية الله، فقوَّةُ البدن ليست محمودةً ولا مذمومةً في ذاتها. إن كان الإنسان استعمَل هذه القوَّة فيما ينفعه في الدنيا والآخرة، صارت محمودةً، وإن استعان بهذه القوَّة على معصية الله، صارت مذمومةً؛ لكن القوة في قوله ﷺ: «المؤمن القويُّ»، تعني قوَّة الإيمان؛ لأن كلمة (القوي) تعود إلى الوصف السابق، وهو الإيمان، كما تقول: الرجل القويُّ؛ أي: في رجولته، كذلك المؤمن القويُّ يعني: في إيمانه؛ لأن المؤمن القويَّ في إيمانه تَحمِله قوة إيمانه على أن يقوم بما أَوجَب الله عليه، وعلى أن يزيد من النوافل ما شاء الله، والضعيف الإيمانِ يكون إيمانه ضعيفًا لا يَحمِله على فعل الواجبات، وترك المحرَّمات، فيقصِّر كثيرًا. وقوله: «خير» يعني: خيرًا من المؤمن الضعيف، وأحبَّ إلى الله من المؤمن الضعيف، ثم قال - عليه الصلاة والسلام -: «وفي كل خير» يعني: المؤمن القويُّ والمؤمن الضعيف كلٌّ منهما فيه خير، وإنما قال: «وفي كل خير»؛ لئلا يتوهَّم أحد من الناس أن المؤمن الضعيف لا خير فيه؛ بل المؤمن الضعيف فيه خير، فهو خير من الكافر لا شكَّ. وهذا الأسلوب يسمِّيه البلاغيون الاحتراز، وهو أن يتكلَّم الإنسان كلامًا يُوهِم معنًى لا يَقصِده، فيأتي بجملة تبيِّن أنه يقصد المعنى المعيَّن، ومثال ذلك في القرآن
قوله تبارك وتعالى: وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
(أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا)
يُوهِم أن الآخرين ليس لهم حظٌّ من هذا،
(ﱡ وكلا وعد الله الحسنى )
فهنا قال النبيُّ ﷺ: «وفي كلِّ خير»؛ أي: المؤمن القويِّ والمؤمن الضعيفِ؛ لكنِ القويُّ خير وأحبُّ إلى الله"[2]
قال القاضي عياض رحمه الله: "قال القاضي: وقوله: «المؤمن القويُّ خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفى كل خير» القوَّة هنا المحمودة، يُحتمَل أنها في الطاعة، من شدَّة البدن وصلابة الأسر، فيكون أكثرَ عملًا، وأطولَ قيامًا، وأكثرَ صيامًا وجهادًا وحجًّا، وقد تكون القوَّة هنا في الْمُنَّة وعزيمة النفس، فيكون أقدمَ على العدو في الجهاد، وأشدَّ عزيمةً في تغيير المناكر، والصبر على إيذاء العدوِّ، واحتمال المكروه والمشاقِّ في ذات الله، أو تكون القوة بالمال والغنى، فيكون أكثرَ نفقةً في سبيل الخير، وأقلَّ مَيلًا إلى طلب الدنيا، والحرص على جمع شيء فيها. وكل هذه الوجوه ظاهرة في القوة. ثم قال - عليه السلام -: «وفى كل خير» للإيمان الذى هو صفتهم؛ لكن الله قد بايَن بين خَلقه في داره، ورَفَع بعضهم فوق بعض درجات"[3]
قال السِّنديُّ رحمه الله: قَوْلُهُ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ»؛ أي: على أعمال البرِّ ومشاقِّ الطّاعة، والصَّبور على تحمُّل ما يصيبه من البلاء، والمتيقِّظ في الأمور المهتدي إلى التّدبير والمصلحة، بالنّظر إلى الأسباب، واستعمال الفكر في العاقبة، ويؤيِّده ما روى أبو داود في كتاب القضاء عن عوف بن مالك: أنّه ﷺ قضى بين رجلين، فقال المقضيُّ عليه لَمّا أَدبَر: حسبي اللّه ونعم الوكيل، فقال النّبيُّ ﷺ : «إنّ اللّه تعالى يلوم على العجز؛ ولكن عليك بالكَيْس»، والكَيس بفتح الكاف هو التّيقُّظ في الأمور. قوله: (احرص) من حَرَص كضَرَب وعَلِم. قوله: «لو أنّي فعلت كذا وكذا»؛ أي: لما أصابني. أي: و"لو" كلمة للتّمنِّي. «عمل الشّيطان»؛ أي: اعتقاد أنّ الأمر منوط بتدبير العبد، وأنّ تدبيره هو المؤثِّر قبل النّهي للتّنزيه؛ لأنّه ورد استعمال "لو" في الأحاديث على كثرة، وقد وضع البخاريُّ بابًا في ذلك، وأتى بأحاديثَ كثيرةٍ، وقال النّوويُّ: النّهيُ عن إطلاق ذلك فيما لا فائدة فيه، وأمّا ما قاله تأسُّفًا على ما فاته من طاعة اللّه تعالى وهو متعذِّر عليه منها، ونحو ذلك، فلا بأس به، وعليه يُحمَل أكثر الاستعمال الموجود في الأحاديث"[4]
قال ابن عثيمين رحمه الله: "«احرص على ما ينفعك»: هذه وصية من الرسول ﷺ لأمَّته، وهي وصيَّة جامعة مانعة. «احرص على ما ينفعك» يعني: اجتهد في تحصيله ومباشرته، وضد الذي ينفع الذي فيه ضررٌ، وما لا نفع فيه ولا ضرر؛ وذلك لأن الأفعال تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم ينفع الإنسان، وقسم يضرُّه، وقسم لا يَنفَع ولا يضرُّ؛ فالإنسان العاقل الذي يَقبَل وصيَّته ﷺ هو الذي يحرص على ما ينفعه، وما أكثرَ الذين يُضيِّعون أوقاتهم اليومَ في غير فائدة؛ بل في مَضرَّة على أنفسهم وعلى دينهم. وعلى هذا؛ فيَجدُر بنا أن نقول لمثل هؤلاء: إنكم لم تعملوا بوصيَّة النبيِّ ﷺ إما جهلًا منكم، وإما تهاونًا؛ لكن المؤمن العاقل الحازم هو الذي يَقبَل هذه النصيحة، ويحرص على ما ينفعه في دينه ودنياه. وهذا حديث عظيم ينبغي للإنسان أن يجعله نبراسًا له في عمله الدينيِّ والدنيويِّ؛ لأن النبيَّ ﷺ قال: «احرص على ما ينفعك»، وهذه الكلمة كلمةٌ جامعة عامَّة، «على ما ينفعك»؛ أي: على كلِّ شيء يَنفَعك، سواءٌ في الدين أو في الدنيا، فإذا تعارضت مَنفَعة الدين ومنفعة الدنيا، فقدِّم منفعة الدين؛ لأن الدين إذا صَلَح صَلَحت الدنيا، أما الدنيا إذا صلحت مع فساد الدين، فإنها تَفسَد.
وفي قوله: «احرص على ما ينفعك» إشارةٌ إلى أنه إذا تعارضت منفعتان، إحداهما أعلى من الأخرى، فإننا نقدِّم المنفعة العليا؛ لأن المنفعة العليا فيها المنفعة التي دونها وزيادة، فتَدخُل في قوله: «احرص على ما ينفعك». فإذا اجتمع صلة أخ وصلة عمٍّ، كلاهما سواءٌ في الحاجة، وأنت لا يمكِنك أن تصل الرجلين جميعًا، فهنا تقدِّم صلة الأخ؛ لأنها أفضل وأنفع، وبالعكس إذا كان الإنسان لابدَّ أن يرتكب منهيًّا عنه من أمرين منهيٍّ عنهما، وكان أحدهما أشدَّ، فإنه يَرتكِب الأخفَّ؛ فالمناهي يُقدَّم الأخفُّ منها، والأوامر يُقدَّم الأعلى منها. وقوله r: «واستعن بالله»: ما أروعَ هذه الكلمةَ بعد قوله: «احرص على ما ينفعك»؛ لأن الإنسان إذا كان عاقلًا ذكيًّا، فإنه يتتبَّع المنافع، ويأخذ بالأنفع ويجتهد، ويحرص، وربما تَغُرُّه نفسه حتى يعتمد على نفسه، وينسى الاستعانة بالله، وهذا يقع لكثير من الناس، حيث يُعجَب بنفسه، ولا يَذكُر اللهَ - عزَّ وجلَّ - ويستعين به، فإذا رأى من نفسه قوَّة على الأعمال، وحرصًا على النافع، وفعلًا له، أُعجِب بنفسه، ونَسِي الاستعانة بالله؛ ولهذا قال: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله»؛ أي: لا تنس الاستعانة بالله ولو على الشيء اليسير، وفي الحديث: «ليسأل أحدكم ربَّه حاجته حتى يسأله الْمِلح، وحتى يسأله شسع نعلِه إذا انقطع» يعني: حتى الشيء اليسيرِ لا تنسَ الاستعانة بالله عزَّ وجلَّ، حتى ولو أردت أن تتوضَّأ أو تصلِّي أو تذهب يمينًا أو شمالًا، أو تضع شيئًا، فاستحضر أنك مستعينٌ بالله - عزَّ وجلَّ - وأنه لولا عونُ الله، ما حصل لك هذا الشيء. ثم قال: «ولا تعجِز» يعني: استمرَّ في العمل، ولا تَعجِز وتتأخَّر، وتقول: إن المدى طويل، والشغل كثير، فما دمتَ صمَّمت في أول الأمر أن هذا هو الأنفع لك، واستعنت بالله، وشرعت فيه، فلا تَعجِز. فقول الرسول : «لا تعجز»؛ أي: لا تَكسَل وتتأخَّر في العمل إذا شرعتَ فيه؛ بل استمرَّ؛ لأنك إذا تركتَ ثم شرعتَ في عمل آخَرَ، ثم تركت ثم شرعت، ثم تركت، ما تمَّ لك عمل"[5]
قال الصنعانيُّ رحمه الله: "«الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِن الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ مِن الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ خَيْرٌ»؛ لوجود الإيمان فيهما. «احرص» من حَرَص يَحرِص كضَرَب يَضرِب، ويقال: حَرِصَ كسَمِعَ. «على ما ينفعك» في دُنياك ودينك «واستعن باللّه» عليه. «ولا تعجِز» بفتح الجيم وكسرها. «وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أنّي فعلت كذا كان كذا وكذا ولكن قل: قَدَر اللّه وما شاء اللّه فعل؛ فإنّ "لو" تفتح عمل الشّيطان» أخرجه مسلم. المراد من القويّ: قويُّ عزيمة النّفس في الأعمال الأُخرويّة؛ فإنّ صاحبها أكثر إقدامًا في الجهاد، وإنكار المنكر، والصّبر على الأذى في ذلك، واحتمال المشاقِّ في ذات اللّه، والقيام بحقوقه من الصّلاة والصّوم وغيرهما. والضّعيف بالعكس من هذا، إلّا أنّه لا يخلو عن الخير؛ لوجود الإيمان فيه، ثمّ أمره ﷺ بالحرص على طاعة اللّه، وطلب ما عنده، وعلى طلب الاستعانة به في كلّ أموره؛ إذ حِرْصُ العبد بغير إعانة اللّه لا ينفعه.
إذَا لَمْ يَكُنْ عَوْنٌ مِن اللَّهِ لِلْفَتَى = فَأَكْثَرُ مَا يَجْنِي عَلَيْهِ اجْتِهَادُهُ
ونَهاه عن العَجز، وهو التَّسَاهُلُ في الطاعات، وقد استعاذَ منه ﷺ بقوله: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِن الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَمِن الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ»[6]" [7]
قال النوويُّ رحمه الله: قَوْلُهُ ﷺ: «وَإِنْ أَصَابَكَ شيء، فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا؛ وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ». قال القاضي عياض: قال بعض العلماء: هذا النّهيُ إنّما هو لمن قاله معتقدًا ذلك حتمًا، وأنّه لو فعل ذلك لم تُصبه قطعًا، فأمّا من ردَّ ذلك إلى مشيئة اللّه تعالى بأنّه لن يُصيبه إلّا ما شاء اللّه، فليس من هذا، واستَدلَّ بقول أبي بكر الصّدّيق - رضي اللّه عنه - في الغار: «لو أنّ أحدهم رفع رأسه لرآنا». قال القاضي: وهذا لا حُجَّة فيه؛ لأنّه إنّما أخبر عن مستقبل، وليس فيه دعوى لردِّ قَدَر بعد وقوعه. قال: وكذا جميع ما ذكره البخاريُّ في باب ما يجوز من اللَّوْ؛ كحديث: «لَوْلَا حِدْثَانُ عَهْدِ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَأَتْمَمْتُ الْبَيْتَ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ»، و«لو كنت راجمًا بغير بيِّنة لرجمتُ هذه»، و«لولا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ»، وشِبْهِ ذلك؛ فكلُّه مستقبَل لا اعتراض فيه على قَدَر، فلا كراهةَ فيه؛ لأنّه إنّما أخبر عن اعتقاده فيما كان يفعل لولا المانعُ، وعمّا هو في قُدرته، فأمّا ما ذهب، فليس في قدرته. قال القاضي: فالّذي عندي في معنى الحديث: أنّ النّهيَ على ظاهره وعمومه؛ لكنّه نهيُ تنزيه، ويدلُّ عليه قوله r: «فإنّ لو تفتح عمل الشيطان»؛ أي: يُلقي في القلب معارضة القدر، ويُوَسْوس به الشّيطان. هذا كلام القاضي، قلت: وقد جاء من استعمال (لو) في الماضي قوله r: «لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ، ما سقتُ الهَدْيَ»[8] وغير ذلك؛ فالظّاهر أنّ النّهيَ إنّما هو عن إطلاق ذلك فيما لا فائدة فيه، فيكون نهيَ تنزيه لا تحريم، فأمّا من قاله تأسُّفًا على ما فات من طاعة الله تعالى أو ما هو متعذِّر عليه من ذلك، ونحو هذا، فلا بأس به، وعليه يُحمَل أكثر الاستعمال الموجود في الأحاديث، واللّه أعلم"[9]
قال القاضي عياض رحمه الله: "وقوله: «إن أصابك شيء فلا تقل: لو أنى فعلت، ولكن قل: قدر الله وما شاء الله فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان»: قال بعض أهل العلم: معنى هذا الحديث، والنهي عن قول هذا، إنما هو لمن قاله معتقدًا ذلك حتمًا، فإنه لو فعل ذلك لم يصبه ذلك قطعًا، فأما مَنْ رَدَّ ذلك إلى مشيئة الله، وأنه لن يُصيبه فعل ذلك، أو لم يفعله إلا ما شاء الله وقَدَره، فليس من هذا. واستُدلَّ بما ورد من قول النبيِّ ﷺ وأصحابه في هذا؛ مثل قول أبى بكر في الغار: «لو أنّ أحدهم رفع رأسه لرآنا»، وهذا لا حجَّةَ له فيه عندي؛ لأنه إنما أخبر عما يُستقبَل، وليس فيه دعوى لردِّ قَدَر بقَدَر، وكذلك جميع ما أدخل البخاريُّ في باب ما يجوز من اللوِّ؛ مثل قوله: «لولا حدثان قومك بالكفر لأتممت البيت على قواعد إبراهيم»، و «ولو كنت راجمًا أحدًا بغير بيِّنة لرجمتُ هذه»، و«لولا أن أشقَّ على أمَّتي لأمرتهم بالسواك»، وشبه هذا كله مما يُستقبَل مما لا اعتراض فيه على قَدَر، ولا كراهةَ في قوله جُملة؛ لأنه إنما أخبر عما يعتقد أنه كان يفعله لولا المانعُ له، وما في قدرته فعلُه، وما انقضى وذهب ليس في القدرة، ولا في الإمكان فعله بعدُ. وقد تكلَّمنا قبلُ على مثل هذا بأَشْبعَ من هذا الكلام، والذي عندي في هذا الحديث المتقدِّم أنّ النهيَ فيه على وجهه عمومًا؛ لكن على طريق الندب والتنزيه، ويدلُّ عليه قوله: «فإنّ لو تفتح عمل الشيطان»؛ أي: تُلقي في القلب معارضةَ القَدَر، وتشوِّش به تشويش الشيطان"[10]
قال المناويُّ رحمه الله: "«هل تُنصَرون وتُرزَقون إلا بضعفائكم؟!» [11] قد وقع التعارض ظاهرًا بينه وبين خبر مسلم «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير» وعند التأمُّل لا تَدَافُع؛ إذ المراد بمدح القوَّة: القوَّةُ في ذات الله، وشدَّة العزيمة، وبمدح الضعف لينُ الجانب، ورقَّةُ القلب، والانكسار بمشاهدة جلال الجبَّار، أو المراد بذمِّ القوَّة التجبُّر والاستكبار، وبذمِّ الضعف ضعفُ العزيمة في القيام بحقِّ الواحد القهَّار على أنه لم يقل هنا: إنهم يُنصَرون بقوة الضعفاء؛ وإنما مراده بدعائهم أو بإخلاصهم أو نحو ذلك مما مرَّ"[12]
قال الصنعانيُّ رحمه الله: "ونَهاه بقوله: إذا أصابَه شيءٌ من حصول ضَرَر أو فَوَات نفع عن أن يقول: (لو). قال بعض العلماء: هذا إنّما هو لمن قال معتقدًا ذلك حتمًا، وأنّه لو فعل ذلك لم يُصبه قطعًا، فأمّا من ردَّ ذلك إلى مشيئة اللّه، وأنّه لا يصيبه إلّا ما شاء اللّه، فليس من هذا. واستَدلَّ له بقول أبي بكر في الغار: «ولو أنّ أحدهم رفع رأسه لرآنا»، وسكوتُه ﷺ قال القاضي عياض: لا حُجَّة فيه؛ لأنّه إنّما أخبر عن أمر مستقبَل، وليس فيه دعوى لردِّ قَدَر بعد وقوعه. قال: وكذا جميع ما ذكره البخاريُّ في باب: ما يجوز من اللَّوْ كحديث: «لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِك بِالْكُفْرِ» الْحَدِيثَ، و«لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ»، وَ«لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي»، وشَبِيهُ ذلك، فكلُّه مستقبَل، ولا اعتراضَ فيه على قَدَر، فلا كراهيةَ فيه؛ لأنّه إنّما أَخبَر عن اعتقاده فيما كان يفعل لولا المانعُ، وعمّا هو في قدرته، فأمّا ما ذهب، فليس في قُدرته. قال القاضي: فالّذي عندي في معنى الحديث أنّ النّهيَ على ظاهره وعمومه؛ لكن نهي تنزيه، ويدلُّ عليه قوله ﷺ: «فإنّ لو تفتح عمل الشّيطان» قال النّوويُّ: وقد جاء من استعمال "لو" في الماضي. قوله ﷺ : «لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ ما سُقْتُ الهَدْيَ»[13]، وغير ذلك، فالظّاهر أنّ النّهيَ إنّما هو عن إطلاق ذلك فيما لا فائدة فيه، فيكون نهيَ تنزيه لا تحريم، وأمّا من قاله تأسُّفًا على ما فاته من طاعة اللّه، وما هو متعذِّر عليه من ذلك، ونحو هذا، فلا بأس به، وعليه يُحمَل أكثر الاستعمال الموجود في الأحاديث"[14].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "قال ﷺ: «فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا» ويعني: بعد أن تحرص وتَبذُل الجهد، وتستعين بالله، وتستمرَّ، ثم يَخرُج الأمر على خلاف ما تريد، فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا؛ لأن هذا أمر فوق إرادتك، أنت فعلتَ الذي تُؤمَر به؛ ولكن الله - عزَّ وجلَّ - غالب على أمره. ونضرب مثالًا لذلك: إذا سافر رجل يريد العمرة؛ ولكنه في أثناء الطريق تعطَّلت السيارة، ثم رجع فقال: لو أني أخذتُ السيارة الأخرى، لكان أحسنَ، ولَمَا حصل التعطُّل، نقول: لا تقل هكذا؛ لأنك أنت بذلت الجهد، ولو كان الله - عزَّ وجلَّ - أراد أن تَبلُغ العمرة، ليسَّر لك الأمر؛ ولكن الله لم يُرد ذلك؛ فالإنسان إذا بذل ما يستطيع مما أمر ببذله، وأخلفت الأمور؛ فحينئذ يفوِّض الأمر إلى الله؛ لأنه فعل ما يَقدِر عليه؛ ولهذا قال: «إن أصابك شيء» يعني: بعد بذل الجهد والاستعانة بالله - عزَّ وجلَّ - «فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكَذا». وجزى الله عنا نبيَّنا خير الجزاء؛ فقد بيَّن لنا الحكمة من ذلك، حيث قال: «فإن لو تفتح عمل الشيطان»؛ أي: تفتح عليك الوساوس والأحزان والندم والهموم، حتى تقول: لو أني فعلت لكان كذا. فلا تقل هكذا، والأمر انتهى، ولا يمكِن أن يتغيَّر عمَّا وقع، وهذا أمر مكتوب في اللوح المحفوظ قبل أن تُخلَق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وسيكون على هذا الوضع مهما عَمِلتَ؛ ولهذا قال: «ولكن قل: قَدَرُ الله»؛ أي: هذا قَدَرُ الله؛ أي: تقدير الله وقضاؤه، وما شاء الله - عزَّ وجلَّ –
فعله؛ ﱠخَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ
لا أحد يمنعه أن يفعل في ملكه ما يشاء، ما شاء فعل - عزَّ وجلَّ - ولكن يجب أن نعلم أنه - سبحانه وتعالى - لا يفعل شيئًا إلا لحِكمةٍ خَفِيت علينا أو ظَهَرت لنا، والدليل على هذا
قوله تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًاﱠ
فبيَّن أن مشيئته مقرونة بالحكمة والعلم، وكم من شيء كَرِه الإنسان وقوعه، فصار في العاقبة خيرًا له؛ كما
قال تعالى:ﱠ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ
فأنت إذا بذلت الجهد، واستعنت بالله، وصار الأمر على خلاف ما تريد، لا تندم، ولا تقل: لو أني فعلت لكان كذا، إذا قلتَ هذا، انفتح عليك من الوساوس والندم والأحزان ما يُكدِّر عليك الصَّفْوَ، فقد انتهى الأمر وراح، وعليك أن تسلِّم الأمر للجبَّار - عزَّ وجلَّ - قل: قَدَرُ الله وما شاء فعل"[15]
قال ابن تيميَّة رحمه الله: "فأمَرَه بالحِرص على ما يَنفَعُه، والاستعانة باللّه، ونهاه عن العجز الّذي هو الاتِّكال على القَدَر، ثمّ أمره إذا أصابه شيء أن لا ييئس على ما فاته؛ بل ينظر إلى القَدَر ويسلِّم الأمر للّه؛ فإنّه هنا لا يقدر على غير ذلك كما قال بعض العقلاء: الأمور أمران: أمر فيه حيلة، وأ لا حيلة فيه، فما فيه حيلة لا يُعجَز عنه، وما لا حيلة فيه، لا يُجزَع منه"[16]
قال أبو العبَّاس القرطبيُّ رحمه الله: "وقوله: ﷺ «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ واستعنْ بالله، ولا تعجِزْ»؛ أي: استعمل الحرصَ والاجتهادَ في تحصيل ما تنتفعُ به في أمر دينك ودنياك التي تَستعينُ بها على صيانة دينكَ، وصيانة عيالكَ، ومكارم أخلاقكَ، ولا تفرِّطْ في طلب ذلك، ولا تتعاجزْ عنه متَّكِلًا على القدر، فتُنسَب للتقصير، وتُلام على التفريط شرعًا وعادةً، ومع إنهاء الاجتهاد نهايته، وإبلاغ الحرص غايته، فلا بدَّ من الاستعانة بالله، والتوكُّل عليه، والالتجاء في كلِّ الأمور إليه، فمَن سلكَ هذين الطريقين، حصل على خير الدارين[17]
قال ابن عثيمين رحمه الله: "فإذا قال قائل: كيف أحتجُّ بالقدر؟ كيف أقول: قدر الله وما شاء فعل؟ والجواب أن نقول: نعم؛ هذا احتجاج بالقدر؛ ولكن الاحتجاج بالقدر في موضعه لا بأس به؛
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ۗ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
فبيَّن له أن شِركهم بمشيئته، والاحتجاج بالقدر على الاستمرار في المعصية، هذا حرام لا يجوز؛ لأن الله
قال: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا ۗ قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [الأنعام: 148]
لكن الاحتجاج بالقدر في موضعه، هذا لا بأس به. فالاحتجاج بالقدر ممنوع إذا أراد الإنسان أن يستمرَّ على المعصية؛ ليَدفَع اللَّوم عن نفسه، نقول مثلًا: يا فلان، صلِّ مع الجماعة، فيقول: والله لو هداني الله لصلَّيتُ، فهذا ليس بصحيح. يقال لآخر: أَقلِعْ عن حلق اللحية، يقول: لو هداني الله لأقلعتُ، وأقلع عن الدخان، يقول: لو هداني الله لأقلعتُ، فهذا ليس بصحيح؛ لأن هذا يحتجُّ بالقدر؛ ليستمرَّ في المعصية والمخالفة؛ لكن إن وقع الإنسان في خطأ وتاب إلى الله، وأناب إلى الله وندم وقال: إن هذا الشيء مقدَّر عليَّ؛ ولكن أستغفر الله وأتوب إليه. نقول: هذا صحيح، إن تاب واحتجَّ بالقدر، فليس هناك مانع" [18]
1- "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 215).
2- "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 76-78).
3- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 157).
4- "حاشية السنديِّ على سنن ابن ماجه" (1/ 41، 42).
5- "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/78 -82).
6- رواه البخاريُّ (6363).
7- "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 690).
8- رواه البخاريّ (7229)، ومسلم (1211).
9- "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 215، 216).
10- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 157، 158).
11- رواه البخاريُّ (2896).
12- "فيض القدير" للمناويِّ (1/ 83).
13- رواه البخاريّ (7229)، ومسلم (1211).
14- "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 690).
15- "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/82-84).
16- "مجموع الفتاوى" (8/ 285).
17- "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (6/ 682).
18- "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/85، 86).