عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ»
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ»
تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي: أي: عَفَا عنهم، مِن: جَازَه يَجُوزه، إذا تَعدَّاه وعَبَر عليه[1].
يروي أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنه قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ»؛ أي: إن الله تعالى تجاوز بفضله ورحمته عن أمَّة محمَّدٍ ﷺ، بعدم مؤاخذته لعباده بما حدَّثوا به أنفسهم، ما لم تَنطِق به ألسنتهم، أو تَعمَله جوارحهم، ورَفَع الحساب والعقاب عن وساوس الصدر، وخواطر النفس من الشرِّ، ما لم يتعدَّ ذلك إلى الفعل، فهذه الخواطر مَعْفُوٌّ عنها.
الشرح المفصَّل للحديثإن الشريعة الإسلامية الغرَّاء مَبْنيَّة على رفع الحرج، والتيسير على المؤمنين في العبادات والمعاملات
قال تعالى:
{ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ }
[الحج: 78]
وقال تعالى:
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}
[البقرة: 185]
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه،
أن النبيَّ صلي الله عليه وسلم قال: «إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ»
[1]،
وهذا التيسير والتخفيف مبنيٌّ على مراعاة ضعف الإنسان، وكثرة أعبائه وأشغاله
قال تعالى:
{ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا }
[النساء: 28]
كما أنها تجاوزت عن الأخطاء التي قد يقع فيها المسلمون دون تعمُّد أو قصد
قال تعالى:
{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَٰكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}
[الأحزاب: 5].
وفي هذا الحديث الشريف يبيِّن النبيُّ ﷺ مَظهَرًا من مظاهر رحمة الله تعالى بعباده، وفضله على أمَّة محمَّدٍ ﷺ، ألا وهو عدم مؤاخذته لعباده بما حدَّثوا به أنفسهم، ما لم تنطق به ألسنتهم، أو تَعمَله جوارحهم، ورفع الحساب والعقاب عن وساوس الصدر، وخواطر النفس من الشرِّ ما لم يتعدَّ ذلك إلى الفعل، وأن هذه الخواطر من الأمور الْمَعْفُوِّ عنها، فلا يترتَّب عليها إثمٌ أو عقاب، فـ"الخواطر وحديث النفس إذا لم يستقِرَّ ويستمِرَّ عليه صاحبُه، فمَعفوٌّ عنه باتِّفاق العلماء؛ لأنه لا اختيار له في وقوعه، ولا طريقَ له إلى الانفكاك عنه، وهذا هو المراد بما ثبت في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إن الله تجاوز لأمَّتي ما حدَّثت به أنفسَها ما لم تتكلَّم به أو تعمل». قال العلماء: المراد به الخواطرُ التي لا تستقِرُّ، قالوا: وسواءٌ كان ذلك الخاطر غِيبةً أو كُفْرًا أو غيرَه، فمن خطر له الكفرُ مجرَّد خَطَرانٍ من غير تعمُّد لتحصيله، ثم صَرَفه في الحال، فليس بكافر، ولا شيء عليه، وفي الحديث الصحيح أنهم قالوا: يا رسولَ الله، يجدُ أحدُنا ما يتعاظمُ أن يتكلَّمَ به، قال: «ذلكَ صريحُ الإيمان»[2]"[3]. وفي ذلك تخفيفٌ ورحمة بالأمَّة المحمَّدية
قال تعالى:
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}
[التوبة: 128]
فإذا مرَّت الفكرة على خاطر الإنسان دون استقرار، لم يَأثَم؛ بَيْدَ أنه لو عَزَم على فعل معصية، وعَقَد النيَّة على ذلك، أَثِم على نيَّته وعَزْمِه؛
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ،
فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً»
[4]،
فـ"لو أنه حدَّث نفسَه بمعصية، لم يؤاخذ، فأما إذا عزم على المعصية، فإنه يَخرُج عن تحديث النفس، ويصير من أعمال القلب؛ فإنَّ عَقْدَ النيَّة على الفعل من عمل القلب، فحينئذ يَأثَم بنيَّة السرِّ"[5].
وقد أُوحِيَ إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم في بداية التشريع أن المؤمنين مؤاخَذون بما تُخفيه نفوسُهم، وما تُضمِره صدورهم، فلما اشتدَّ ذلك على الصحابة - رضوان الله عليهم – وخافوا؛ لعدم استطاعتهم التحرُّز من ذلك، أوحى الله إلى نبيِّه ﷺ أنه لا يكلِّف نفسًا فوق استطاعتها، فهَدَأت نفوس الصحابة بذلك وسَكَنت، وفَرِحوا فَرَحًا شديدًا؛
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ۖ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [البقرة: 284] قَالَ: فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ ﷺ ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ، فَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللهِ، كُلِّفْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ، الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ، وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا نُطِيقُهَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ»، قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ، ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِي إِثْرِهَا: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285] فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ، نَسَخَهَا اللهُ تَعَالَى فَأَنْزَلَ اللهُ - عزَّ وجلَّ -: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ} [البقرة: 286] قَالَ: «نَعَمْ» {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286] قَالَ: «نَعَمْ» {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ} [البقرة: 286] قَالَ: «نَعَمْ» {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286] قَالَ: «نَعَمْ»
[6].
قال ابن بطَّال رحمه الله: "قوله: «إن الله تجاوز عن أمتى ما حدَّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلَّم»، فجعل ما لم يَنطِق به اللسانُ لَغوًا لا حُكم له، حتى إذا تكلَّم به، يقع الجزاء عليه، ويَلزَم المتكلِّم"[1].
قال النوويُّ رحمه الله: "الخواطر وحديث النفس إذا لم يستقِرَّ ويستمِرَّ عليه صاحبُه، فمَعفوٌّ عنه باتِّفاق العلماء؛ لأنه لا اختيار له في وقوعه، ولا طريقَ له إلى الانفكاك عنه، وهذا هو المراد بما ثبت في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إن الله تجاوز لأمَّتي ما حدَّثت به أنفسَها ما لم تتكلَّم به أو تعمل». قال العلماء: المراد به الخواطرُ التي لا تستقِرُّ، قالوا: وسواءٌ كان ذلك الخاطر غِيبةً أو كُفْرًا أو غيرَه، فمن خطر له الكفرُ مجرَّد خَطَرانٍ من غير تعمُّد لتحصيله، ثم صَرَفه في الحال، فليس بكافر، ولا شيء عليه، وفي الحديث الصحيح أنهم قالوا: يا رسولَ الله، يجدُ أحدُنا ما يتعاظمُ أن يتكلَّمَ به، قال: «ذلكَ صريحُ الإيمان»[2]"[3].
قال ابن الجوزيِّ رحمه الله: "لو أنه حدَّث نفسَه بمعصية، لم يؤاخذ، فأما إذا عزم على المعصية، فإنه يَخرُج عن تحديث النفس، ويصير من أعمال القلب؛ فإنَّ عَقْدَ النيَّة على الفعل من عمل القلب، فحينئذ يَأثَم بنيَّة السرِّ"[4].
قال الصنعانيُّ رحمه الله: " وحديث النّفس يَخرُج عن الوُسْع، نعم الاسترسال مع النّفس في باطل أحاديثها يُصيِّر العبدَ عازمًا على الفعل، فيُخاف منه الوقوع فيما يَحرُم، فهو الّذي ينبغي أن يسارع بقطعه إذا خَطَر"[5].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "الحمد لله، رَفَع الحرج عن كلِّ ما حدَّثت به نفسك؛ لكنك ما رَكَنْتَ إليه، ولا عَمِلْتَ، ولا تكلَّمت، فهو معفوٌّ عنه، حتى ولو كان أكبرَ من الجبال؛ فاللهمَّ لك الحمد، حتى إن الصحابة - رضي الله عنهم - قالوا: يا رسول الله، نجد في نفوسنا ما نحبُّ أن نكون حمَمَةً – يعني: فحمة محترقة - ولا نتكلَّم به، قال: «ذاك صريح الإيمان»؛ يعني: ذاك هو الإيمان الخالص؛ لأن الشيطان لا يُلقي مثلَ هذه الوساوس في قلب خَرِب، في قلب فيه شكٌّ؛ إنما يتسلَّط الشيطان - أعاذنا الله منه - على قلبٍ مؤمن خالصٍ ليُفسده.
ولَمَّا قيل: إن اليهود إذا دخلوا في الصلاة لا يُوَسْوَسون، قال: وما يصنع الشيطان بقلب خرب؛ فاليهود كفَّار، قلوبُهم خَرِبة، فالشيطانُ لا يُوَسْوِس لهم عند صلاتهم؛ لأنها باطلة من أساسها، إنما الشيطان يوسوس للمسلم الذي صلاتُه صحيحة مقبولة؛ ليُفسدها، فيأتي للمؤمن صريحِ الإيمان ليُفسِد هذا الإيمان الصريح؛ ولكن - والحمد لله - من أعطاه الله تعالى طبَّ القلوب والأبدان، محمَّد ﷺ وصَف لنا لهذا طبًّا ودواءً، فأرشد إلى الاستعاذة بالله والانتهاء، فإذا أحسَّ الإنسان بشي من هذه الوساوس الشيطانية، فإنه يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ولْيَنْتَهِ ويُعرِض عنها ولا يَلتفِت إليها، ويمضي فيما هو عليه، فإذا رأى الشيطان أنه لا سبيل إلى فساد هذا القلب المؤمن الخالص، نَكَص على عَقِبَيْهِ ورجع"[6].