عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ:جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، ثَائِرُ الرَّأْسِ، يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ، وَلَا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ، حتَّى دَنَا، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلامِ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي اليوْمِ وَاللَّيْلَةِ»، فَقَالَ: هَلْ عَليَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ».قَالَ رَسُولُ اللهِ : «وَصِيَامُ رَمَضَانَ»، قَالَ: هَلْ عَليَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ».قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ الزَّكَاةَ، قَالَ: هَلْ عَليَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ».قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللهِ، لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلا أَنْقُصُ. قَالَ رَسُولُ اللهِ : «أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ». وفي رِوايةٍ: «دَخَلَ الجَنَّةَ إِنْ صَدَقَ»

فقة

1- دخل أحدُ الأعراب من هَضْبة نجْدٍ – وهي هَضْبة تمتد من الحجاز غربًا إلى اليمامة شرقًا[1] - على النبيِّ ﷺ وهو جالسٌ مع أصحابه، وكان ذلك الأعرابي مُتفرِّقَ الشَّعْرِ، غيرَ مُبالٍ بمظهره، ينادي من بعيد ويتكلَّم بصوت عالٍ، فيَتردد صوتُه ولا يُفهَم ما يقول، فلما اقترب من المجلس فَهِموا كلامه، وإذا هو يَسأل عن شرائع الإسلام[2]

2- فأخبره النبيُّ ﷺ بفَرِيضة الصلاة، وهي الركن الثاني من أركان الإسلام بعد الشهادتينِ، وذكر ﷺ أنَّ عليه في اليوم والليلة خمسَ صلوات، وهي الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء. فسأله الأعرابيُّ: هل يجِب عليَّ شيءٌ غيرها إذا أدَّيتُ تلك الصلوات وأتيتُ بكامل أركانها وواجباتها وهيئاتها؟ فأجاب النبيُّ ﷺ أنه لا يَجِب عليه غير تلك الصلوات، إلا أن يتطوع.

والتَّطَوُّعُ: أن يتقرَّب العبد إلى الله تعالى بما لم يَفرضه عليه من العبادات؛ رَغْبَةً في عُلُوِّ الدرجات يَوْمَ القيامة، وهي أعمالٌ مندوبٌ إليها، يُثَابُ فاعلها، ولا يُعاقَب تَارِكُها[3]

3- ثم ذكَر ﷺ الصيام، وهو الركن الرابع من أركان الإسلام، وهو الإمساكُ عن الطعام والشراب وسائر المفطِّرات من طُلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس ناويًا محتسِبًا[4]، فأخبره ﷺ أنَّ عليه صيام شهر رمضان، فسَأل الأعرابيُّ النبيَّ ﷺ: هل يجب عليَّ صيامُ غير هذا الشهر؟ فأجابه ﷺ كذلك أنَّه لا يجِب صيامُ غير رمضان إلا أن يتطوَّع من نفسه بصيام غيره من الأيام المستحَب صيامها.

4- ثم بيَّن له النبيُّ ﷺ الزكاة، وهي الركن الثالث من أركان الإسلام بعد الشهادتينِ والصلاة، فأخبره بوجوبها، وذكَر له أحكامها.

والزكاةُ: التعبُّدُ لله تعالى بإخراج جزءٍ واجبٍ شرعًا في مالٍ مُعيَّن لطائفةٍ أو جهةٍ مخصوصة"[5]، وإنما سُمِّيت زكاةً لأنها تُزَكِّي النَّفْسَ وتُطَهِّرُهَا من الآثام؛

قال تعالى:

{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}

[التوبة: 103].

فسأل الرجلُ النبيَّ ﷺ: هل يجِب عليَّ في مالي غير تلك الزكاة المفروضة؟ فقال النبيُّ ﷺ: لا، إلا أن تتطوَّع فتَتصدَّق بمالك في وجوه البرِّ.

5- فانصرف الرَّجلُ وهو يقول: «والله لا أزيدُ على هذا ولا أنقُصُ منه» أي: يأتي بها على خير ما يَنبغي من غير زيادةٍ أو نقصان، كما تقول لمن كلَّفك بعمل: لا أزيد عليه ولا أنقُص.

وليس مرادُ الرجل أنَّه يَقتصر على تلك الأوامر دون غيرها مما لم يذكره النبيُّ ﷺ كغضِّ البصر وحِفظ الفَرْج وأداء الأمانة وصِدق الحديث ونحوها؛ فإنَّ ذلك مُنكَرٌ لا يجوز له قوله، ولا يُقِرُّه النبيُّ ﷺ على مثله، بل إنَّه سأل النبيَّ ﷺ عن الأعمال والفرائِض التي تُدخِله الجَنَّة، ولهذا لم يُخبِره ﷺ عن اجتناب المناهي ونحوها.

كما أنَّ مَن كان في المحافظة على ما أُمِر به بهذه المنزلة، فإنه متى وَرَد عليه أمرٌ لله تعالى أو لرسوله، فإنه يُبادِر إليه، ولا يتوقَّف عنه، فَرضًا كان أو سُنَّةً[6]

فأخبر ﷺ أنَّ الرَّجل إنْ أوفى بذلك وصدَق، فقد أفلح وفاز وأصاب كلَّ خير.

وإنما لم يَذكر النبيُّ ﷺ الشهادتينِ؛ لأنَّه عَلِمَ أنَّه يعلمها، أو لأنَّه جاء يسأله عن شرائع الإسلام العَملية، كما أنَّه ﷺ لم يُخِبره بالحَجِّ لأنَّه لم يكن فُرض بعدُ، أو ربما لم يكن واجبًا عليه، أو كان قد ذكَره ﷺ واختصره الراوي[7]

اتباع

1- (1) تحمَّل النبيُّ ﷺ فظاظةَ الأعرابيِّ ورفعَ صوته عليه، وفي ذلك بيانٌ للداعية والمُعَلِّم والمُرَبِّي أنَّه ينبغي عليه أن يكون صَبورًا محتملًا مشاقَّ الدعوة؛ فقد يتعرض للمخالفة والأذى؛ فينبغي عليه الصبر والتحمل والاقتداء بالنبيِّ ﷺ.

2- (1) على الدَّاعيةِ ووَليِّ الأمرِ والفقيه والمُرَبِّي أن يراعي الفوارق العقلية بين النَّاس، فلا يجعل معاملة جميع النَّاس واحدةً؛ فالنبيُّ ﷺ لم يَعِب على الرجل الأعرابيِّ رفعَ صوته ولا آخَذه بذلك.

3- (2) حَرَص الرجلُ على سؤال النبيِّ ﷺ على ما ينفعه دون حياءٍ منه، فكلَّما أمره بأمرٍ قال: «هل عليَّ غيرها؟»؛ فينبغي أن يحرص الإنسانُ على طلب العلم، وألا يمنعه الحياءُ أو الكِبرُ عن السؤال.

4- (2) في الحديثِ إشارةٌ إلى أن الفرائضَ وحدها إذا الْتَزمها صاحِبُها على الوجه الذي يَرضاه الخالقُ سبحانه، فهو من الناجين يومَ القيامة وإن تَرَكَ غيرها من النوافل؛ فإنَّ الله سبحانه بَيَّن أنه ما تَقَرَّب إليه العبدُ بشيءٍ أحبَّ إليه مما افترضه عليه، على أن ترك النوافل يفوت عليه الكثيرَ من الخَيرِ؛ فالعبدُ إذا كان مفلحًا ناجيًا بأداء الفرائض فحسبُ؛ فلا شكَّ أن أداءَه للنَّوافل تأكيدٌ للفلاح ورفعٌ للدرجات، وإعلاءٌ للمنزلة.

5- (2) نوافل الصلاة كثيرة، وأهمُّها وأرفعُها مقامًا السنن المؤكَّدات التي تكون مع الصلوات، وهي ركعتان قبل الفجر، وأربعٌ قبل الظهر، وركعتان بعده، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء

قال ﷺ:

«مَنْ صَلَّى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ»[8]

ومنها صلاة الضحى، وقيام الليل، والوتر، وغير ذلك من النوافل التي قال تعالى فيها في الحديث القدسي:

« وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ»[9]

6- (3) التطوع بالصِّيام من أفضل التطوع، وقد أعدَّ اللهُ تعالى له الجزاءَ العظيم؛ فصيام يوم عَرَفة يكفِّر سنةً ماضيةً وسَنةً مستقبَلةً[10]، وصيام عاشوراء يُكفِّر سنةً ماضيةً[11]، ومن أَتْبع رمضان بستٍّ من شوال كان كصيام الدَّهر كله[12]

7- (4) ذكر النبيُّ ﷺ الزكاةَ لأنَّها دليلٌ على إيمان العبد؛ فإنه لا يؤدِّي زكاةَ ماله طيِّبةً بها نفسُه إلَّا مؤمنٌ، وسببُ هذا أنَّ المال تحبُّه النُّفوس وتَبخَل به، فإذا سَمَحت بإخراجه لله عزَّ وجلَّ دلَّ ذلك على صحَّة إيمانها بالله تعالى، ووَعْده ووعيده؛ فعلى العبد أن يختبر إيمانَه ببذل الزكاة والصدقات وتمرينها على ذلك؛ فإنَّ ما عند الله خيرٌ وأبقى.

8- (5) قال الأعرابيُّ: «واللهِ لا أزيدُ على هذا ولا أنقص منه»، وهذا حينما عَلم أنَّ أداء الفرائض كافٍ في دخول الجنَّة؛ فلا بد أن يكون الإنسانُ حازمًا نشيطًا في كلِّ خيرٍ يعمله ويرجو ثوابه، ولا يَتقاعس أو تضعف هِمَّتُه بعد البدء فيه، سواءً في ذلك أعمال الآخرة والدنيا؛ فلا يَكسل طالبُ العلم عن مذاكرة دروسه، ولا يَفتُر الجنديُّ عن حراسة ثَغْره، ولا تغيبُ يدُ الإتقان عن العامل والصانع حتى ينتهي من عمله.

9- (6) تعقيب النبيِّ ﷺ على كلام الرجل دليلٌ على أنَّ ذلك ليس قاصرًا عليه، بل هو عامٌّ في حقِّ كل مسلم؛ فمن أدَّى الفرائض حقَّ الأداء، وانتهى عن النواهي والمحارم، كفاه ذلك في النجاة من النَّار ودخول الجَنَّة، إلَّا أنَّ للجنة درجاتٍ ومنازلَ، أعلاها وأفضلها أن يكون العبدُ في زُمرة الأنبياء والمرسلين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، ولا ريبَ أنَّ تلك المنزلة لا يُكتفى فيها بمجرد الفرائض، فكلُّ امرئٍ وعملُه! وكلُّ إنسانٍ وما تَطمَح إليه نفسُه من المنازل في الآخرة!

10- في الحديث مراعاةُ النَّبيِّ ﷺ لحال المدعوِّ والسائل؛ حيث لم يخبره بأكثر من الفرائض والأركان التي لا يستقيم إسلامُ أحدٍ بدونها. فعلى الداعية والعالم والفقيه أن يكون فَطِنًا يحسِن إجابةَ السائل ودعوةَ المدعوِّ بما يليق مع حاله.

11- قال الشاعر:

ارْتِفَاعُ الأَذَان فَوْقَ الْمَآذِنْ = فِي انْبِلَاجِ الصَّبَاحِ وَاللَّيْلُ سَاكِنْ

دَعْوَةٌ تَحْمِلُ الْحَيَاةَ إِلَى الْكَوْ = نِ وَسُكَّانِهِ قُرًى وَمَدَائِنْ

وَنِدَاءٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْ = ضِ إِلَى ظَاهِرٍ عَلَيْهَا وَبَاطِنْ

وَلِقَاءٌ بَيْنَ الْمَلائِكِ وَالإِيـ = ـمَانِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ آذِنْ

وَانْطِلاقٌ إِلَى الْفَلاحِ إِلَى الْخَيْـ = ـرِ إِلَى الْحَقِّ وَالْهُدَى وَالْمَحَاسِنْ

12- وقال غيره:

يا مَنْ تَصَدَّقَ مالُ اللهِ تَبْذلـُهُ = في أوجُـهِ الخير ِما لِلمال نُقصانُ

كَمْ ضاعَفَ اللهُ مالًا جادَ صاحِبُهُ = إنَّ السَّخاءَ بِحُكْم ِاللهِ رضــوانُ

الشُّـحُّ يُـفْضي لِسُقْمٍ لا دَواءَ لَهُ = مالُ البَخيل ِغَدا إرْثًا لِمَنْ عانوا

إنَّ التَّصَدُّقَ إسعادٌ لِمَنْ حُرِموا = أهلُ السَّخاءِ إذا ما احْتجْتَهُمْ بانوا


المراجع

  1.  انظر: "أطلس الحديث النبوي" شوقي أبو خليل (ص: 365)، وتضم الآن الرياض والقصيم والأفلاج من مناطق السعودية.
  2.  انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 106).
  3.  انظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربينيِّ (2/ 182).
  4.  انظر: "الشرح الممتع على زاد المستقنع" ابن عثيمين (3/ 5).
  5.  "الشرح الممتع على زاد المستقنع" لابن عثيمين (6/ 13).
  6.  "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 104- 105).
  7.  انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 107).
  8.  رواه مسلم (728).
  9.  رواه البخاري (6502).
  10.  رواه مسلم (1162).
  11.  رواه مسلم (1162).
  12.  رواه مسلم (1164).


مشاريع الأحاديث الكلية