عن أبي هُرَيرة رضي الله عنه، قال: خطَبَنا رسولُ الله ﷺ، فقال: «أيُّها الناسُ، قد فرَضَ اللهُ عليكم الحجَّ؛ فحُجُّوا»، فقال رجُلٌ: أكلَّ عامٍ يا رسولَ الله؟ فسكَتَ حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله ﷺ: «لو قلتُ: نَعمْ، لوجَبتْ، ولَمَا استطعتم». ثم قال: «ذَروني ما تركتُكم؛ فإنما هلَك مَن كان قبلَكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتُكم بشيءٍ فأْتوا منه ما استطعتم، وإذا نَهيتكم عن شيء فدَعوه»

هدايات الحديث

1. إن الحج صورة مصغَّرة عن يوم الحشر، كلُّ واحد من الحجيج مشغول بنفسه، يدعو ويذكر ويلبِّي، والقلوبُ متعلِّقة بربها، وعنت الوجوه والجوارح للحيِّ القيُّوم، والنُّفوس تسمو في سماء الطاعة، وشخصت الأبصار في اتجاه السماء، وتلهج الألسنة والقلوب والأرواح: لبَّيكَ اللهمَّ لبَّيك؛ فما أعظمَه من موقف، وما أروعَه من مشهد!

2. من صحَّت له حَجَّته وسلمت له، صحَّ له سائر عمره [1].

3. الحج ميزان العمر[2].

4. إياك وحقوقَ العباد؛ فإن كلَّ الذنوب في حقِّ الله تعالى، مهما كانت، فهي في مشيئته تعالى، يغفرها إن شاء، أما حقوق العباد فلا تسقط أبدًا، إما الأداء أو الترضية.

5. احرص على مكارم الأخلاق؛ فإنها سببٌ في قَبول العمل وردِّه.

6. اعلم أنه كما أن للأبدان حَجًّا فللقلوب حجًّا؛ فإنها تنهض بأقدام العزائم، وتمتطي غواربَ الشوق، وتفارق كل محبوب للنفْس، وتُصابر في الطريق شدَّة الجهد، وتَرِدُ مناهل الوفاء لا غُدْرَان الغدر، فإذا وصلت إلى ميقات الوصل، نزعت مَخِيط الآمال الدنيوية، واغتسلت من عَيْنِ العَيْنِ، ونزلت بعرفات العِرْفان، ولَبَّتْ إذ لَبَّتْ من لُبَاب اللُّبِّ، ثم طافت حول الإجلال، وسعَتْ بين صفا الصفا ومروة المروءة، فرمت جِمارَ الهوى بأحجار، فوصلت إلى قُرب الحبيب [3].

7. إذا كان الحجُّ المبرورُ جزاؤه الجنةُ، فآيةُ ذلك أن يرجِع الحاجُّ زاهدًا في الدنيا راغبًا في الآخرة [4].

8. إذا كان جزاءُ الحج المغفرةَ، فآيةُ ذلك أن يَدَع الحاجُّ سيِّئَ ما كان عليه من العمل [5].

9. إن للحجِّ حِكمًا عالية، ومقاصدَ نافعة، ففيه يتعارف المسلمون، ويَجتمعون فيه على اختلاف شعوبهم وطبقاتهم وأوطانهم وألسنتهم وألوانهم، يلتقي المسلم بإخوانه المسلمين، فتلتقي القلوب، وتزداد المحبة والمودَّة والائتلاف.

10. إن في الحج تذكيرًا بالدَّار الآخرة، وتشبيهًا بها في أمور كثيرة؛ حيث يصوِّر الحج ذلك تصويرًا عجيبًا، فالميت ينتقل من دار الدُّنيا إلى دار الآخرة، والحاج ينتقل من بلادٍ إلى أخرى، والميت يُجرَّد من ثيابه ليُكفَّن في ثياب بيضاء، والحاج يتجرَّد من المخيط ليلبس إزارًا ورداء أبيضين نظيفين، والميت يُغسَّل بعد تجريده من ثيابه، والحاجُّ يغتسل عند ميقاته ويُحرِم، والأموات يُحشرون سواء، وكذا الحجَّاج يقفون سواء دون تمييز، وهلم جرًّا.

11. يجب أن تقف عند نواهي الرسول ، وتجتنب كلَّ ما حُظر عليك فعله، فلا يسوغ لك الإتيان بشيء منه.

12. ينبغي على العاقل ألَّا يستقبل الكُلَفَ الخارجة عن وُسْعِه، وألَّا يسأل عن شيءٍ إن يُبْدَ له ساءه [6].

13. لا ينبغي للعبد أن يتعرَّض للسّؤال عمّا إن بدا له ساءه؛ بل يستعفي ما أَمكَنه، ويأخذ بعفو اللّه.

14. لا ينبغي للعبد أن يسأل ربَّه أن يُبديَ له من أحواله وعاقبته ما طواه عنه وسَتَره؛ فلعلّه يسوءه إن أُبدِيَ له، فالسّؤال عن جميع ذلك تعرُّضٌ لِما يَكرَهه اللّه؛ فإنّه سبحانه يكره إبداءها؛ ولذلك سَكَت عنها.

15. وَمَا زَالَ وَفْدُ اللَّهِ يَقْصِدُ مَكَّةً = إِلَى أَنْ بَدَا الْبَيْتُ الْعَتِيقُ وَرُكْنَاهُ

فَضَجَّتْ ضُيُوفُ اللَّهِ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَا = وَكَبَّرَتِ الْحُجَّاجُ حِينَ رَأَيْنَاهُ

وَقَدْ كَادَتِ الأَرْوَاحُ تَزْهَقُ فَرْحَةً = لِمَا نَحْنُ مِنْ عُظْمِ السُّرُورِ وَجَدْنَاهُ

تُصَافِحُنَا الأَمْلاكُ مَنْ كَانَ رَاكِبًا = وَتَعْتَنِقُ الْمَاشِي إِذَا تَتَلَقَّاهُ

16. وَيَلُوحُ لِي مَا بَيْنَ زَمْزَمَ وَالصَّفَا = عِنْدَ الْمَقَامِ سَمِعْتُ صَوْتَ مُنَادِ

وَيَقُولُ لِي: يَا نَائِمًا جِدَّ السُّرَى = عَرَفَاتُ تَجْلُو كُلَّ قَلْبٍ صَادِ

مَنْ نَالَ مِنْ عَرَفَاتِ نَظْرَةَ سَاعَةٍ = نَالَ السُّرُورَ وَنَالَ كُلَّ مُرَادِ

17. أمَا وَالذِي حَجَّ الْمُحِبُّونَ بَيْتَهُ = وَلبُّوا لهُ عندَ الْمَهَلِّ وَأحْرَمُوا

وقدْ كَشفُوا تِلكَ الرُّؤوسَ توَاضُعًا = لِعِزَّةِ مَن تعْنو الوُجوهُ وتُسلِمُ

يُهلُّونَ بالبيداءِ لبَّيْكَ ربَّنا = لكَ الْمُلْكُ والحَمْدُ الذي أنتَ تَعْلَمُ

دعاهُمْ فلبَّوْهُ رِضًا ومَحَبَّةً = فلمَّا دَعَوهُ كان أقربَ منهمُ

المراجع

1. "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (1/ 386).
2. "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (1/ 386).
3. "التبصرة" لابن الجوزي (2/ 262).
4. "لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 62). 
5. "لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 62). 
6. "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاوي (2/ 120).



مشاريع الأحاديث الكلية