عن أبي يحيى صهيب بن سنان قال: قال رسول الله ﷺ: «عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له».
عن أبي يحيى صهيب بن سنان قال: قال رسول الله ﷺ: «عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له».
هو: صُهَيْبُ بنُ سِنانِ بنِ مالك، أبو يحيى، من النَّمِر بن قاسط، ويُعرَف بالرُّوميِّ لأنّه أقام في الرّوم مدَّةً، وهو من أهل الجزيرة سُبي من قرية نِينوى من أعمال الْمَوْصِل، وقد كان أبوه أو عمُّه عاملًا لكسرى، ثمّ إنّه جُلب إلى مكّةَ فاشتراه عبدالله بنُ جُدْعانَ، ويُقال: بل هرب فأتى مكّة وحالَف ابنَ جُدْعان. كان من كبار السابقين البدريِّين، فكان إسلامه بعد بضعةٍ وثلاثين رجلًا، وكان من المستضعفين من المؤمنين الّذين كانوا يُعذَّبون في اللّه بمكّة، قال له النبيُّ ﷺ: «رَبِحَ البَيْعُ أبا يحيى، ربح البيع» عندما ترك مالَه أَجْمَعَ لكفَّار قريش ليُخَلُّوا سبيله للهجرة إلى المدينة، وشَهِد صهيب بدرًا وأُحدًا والخندق والمشاهد كلَّها مع رسول اللّه ﷺ، ولَمّا طُعن عمرُ استنابه على الصّلاة بالمسلمين إلى أن يتَّفِق أهل الشّورى على إمام، وكان موصوفًا بالكرم والسّماحة -رضي الله عنه - تُوُفِّيَ سنة (38هـ)، وهو ابن سبعين سنةً بالمدينة، ودُفِنَ بالبقيع[1].
إن المؤمن كلُّ أحواله خير له، وإن "الإيمان نصفان: نصفٌ صبر، ونصفٌ شكر
قال تعالى:
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}
[لقمان: 31]"[1]
وفي الحديث يروي أبو يحيى صُهَيْبِ بنِ سِنانٍ - رضي الله عنه -
عن رسول الله ﷺ أنه قال:
«عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ»
"أي: عجبتُ عَجَبًا لأمر المؤمن وشأنه، وما له في كلِّ الأحوال، فإنّ جميع أموره خيرٌ له في المآل، وإن كان بعضُه شرًّا صُوريًّا في الحال.
"«عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير»؛ أي: إن الرسول ﷺ أظهر العَجَب على وجه الاستحسان «لأمر المؤمن»؛ أي: لشأنه؛ فإن شأنه كلَّه خير، وليس ذلك لأحد إلا المؤمن"[2].
ثم فصَّل الرسول ﷺ هذا الأمر الخير، فقال:
«إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»
"هذه حال المؤمن، وكل إنسان فإنه في قضاء الله وقدَره بين أمرين: مؤمن وغير مؤمن؛ فالمؤمن على كلِّ حال ما قدَّر الله له، فهو خير له، إن أصابته الضرَّاء صبر على أقدار الله، وانتظر الفرج من الله، واحتسب الأجر على الله؛ فكان ذلك خيرًا له، فنال بهذا أجر الصابرين، وإن أصابته سرَّاءُ من نعمة دينية؛ كالعلم والعمل الصالح، ونعمة دنيوية؛ كالمال والبنين والأهل، شَكَر الله، وذلك بالقيام بطاعة الله - عزَّ وجلَّ - فيشكر الله، فيكون خيرًا له، ويكون عليه نعمتان: نعمة الدين، ونعمة الدنيا؛ نعمة الدنيا بالسرَّاء، ونعمة الدين بالشُّكر، هذه حال المؤمن، فهو على خير، سواء أُصِيب بضرَّاءَ أم سرَّاء. وأما الكافر فهو على شرٍّ، إن أصابته الضرَّاء لم يصبر؛ بل يتضجَّر، ودعا بالويل والثُّبور، وسبَّ الدهر، وسبَّ الزمن؛ بل وسبَّ الله - عزَّ وجلَّ - وإن أصابته سرَّاء لم يشكر الله، فكانت هذه السرَّاء عقابًا عليه في الآخرة؛ لأن الكافر لا يأكل أكلة، ولا يشرب إلا كان عليه فيها إثم"[3].
"قوله: «إن أصابته سرَّاء»؛ أي: نَعْماءُ، وسَعَةُ عَيش، ورَخَاء، وتوفيق طاعة من أداء وقضاء، «شَكَر فكان»؛ أي: شُكْرُه «خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاءُ»؛ أي: فَقْرٌ ومرض ومحنة وبَليَّة «صَبَر، فكان»؛ أي: صبرُه «خيرًا له»، وبهذا تبيَّن قول بعض العارفين: إنّه لا يُقال على الإطلاق: إنَّ الفقير الصّابر أفضلُ من الغنيِّ الشّاكر؛ بل حالة التّفويض والتّسليم أَوْلى، والقيامُ بمقتضى الوقت أعلى بحسب اختلاف الأحوال وتفاوت الرّجال... لذا؛ قال عمر - رضي اللّه تعالى عنه -: الفقر والغنى مطيَّتان لا أبالي أيَّتهما أركب. وعلى هذا الاختلاف الواقع بين القوم في طلب طول العمر لطاعة اللّه، أو طلب الموت لخوف الفتنة، أو للاشتياق إلى لقاء اللّه تعالى، ثمّ المعتمَد التّفويض والتّسليم
كما أشار إليه ﷺ في دعائه:
«اللّهمَّ أَحْيِني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفَّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، واجعل الحياة زيادةً لي في كلّ خير، واجعل الموت راحةً لي من كلّ شرّ»
ثمّ وجَّه حصر الخير في كلِّ حال للمؤمن الكامل؛ لأنّ غيره إن أصابته سرَّاءُ شَبِع وبَطَر، وإن أصابته ضرَّاءُ جزع وكَفَر، بخلاف حال المؤمن"[4].
وقد "جعل الله - سبحانَه وتعالى - عبادَه المؤمنين بكل منزلة خيرًا منه، فهم دائمًا في نعمة من ربهم، أصابَهم ما يُحِبَّون أو ما يكرهون، وجعل أقضيته وأقداره التي يقضيها لهم ويُقدِّرها عليهم متاجرَ يَربحون بها عليه، وطُرُقًا يصلون منها إليه، كما ثبت في الصحيح عن إمامهم ومتبوعهم، الذي إذا دُعي يوم القيامة كل أناسٍ بإمامهم دُعُوا به - صلواتُ الله وسلامه عليه - أنه قال:
«عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله عجب، ما يقضي الله له من قضاء إلَّا كان خيرًا له، إن أصابته سرَّاءُ شكَرَ فكان خيرًا له، وإن أصابَتْه ضرَّاءُ صَبَر فكان خيرًا له»
فهذا الحديث يَعمُّ جميعَ أَقضيتِه لعبده المؤمن، وأنها خير له إذا صبر على مكروهها، وشكرَ لمحبوبها؛ بل هذا داخلٌ في مسمَّى الإيمان، فإنه كما قال السلف: الإيمان نصفان، نصفٌ صبر، ونصفٌ شكر" [5].
منزلة الشكر:
"وهي من أعلى المنازل، وهي فوق منزلة الرضى، وزيادة؛ فالرضى مندرج في الشكر؛ إذ يستحيل وجود الشكر بدونه، وهو نصف الإيمان كما تقدَّم، والإيمان نصفان: نصف شكر ونصف صبر، وقد أمر الله به، ونهى عن ضدِّه، وأثنى على أهله، ووَصَف به خواصَّ خلقه، وجعله غايةَ خَلقه وأمْرِه، ووَعَد أهله بأحسن جزائه، وجعله سببًا للمزيد من فضله، وحارسًا وحافظًا لنعمته، وأخبر أن أهله هم المنتفعون بآياته، واشتقَّ لهم اسمًا من أسمائه؛ فإنه سبحانه هو الشكور، وهو يوصل الشاكر إلى مشكوره؛ بل يعيد الشاكر مشكورًا، وهو غاية الربِّ من عبده، وأهله هم القليل من عباده"[6].
و"الشكر: اسم لمعرفة النعمة؛ لأنها السبيل إلى معرفة المنعِم؛ ولهذا سمَّى الله تعالى الإسلام والإيمان في القرآن (شُكرًا)، فمعرفة النعمة ركنٌ من أركان الشكر، لا أنها جُملة الشكر؛ فالشكر: الاعتراف بها، والثناء عليه بها، والخضوع له، ومحبَّته، والعمل بما يرضيه فيها؛ لكن لَمَّا كان معرفتها رُكْنَ الشُّكر الأعظم الذي يستحيل وجود الشكر بدونه، جعل أحدَهما اسمًا للآخر. ومعنى أن الشكر هو السبيل إلى معرفة المنعم، يعني: أنه إذا عَرَف النعمة توصَّل بمعرفتها إلى معرفة المنعِم بها، وهذا من جهة معرفة كونها نعمةً، لا من أيِّ جهة عَرَفها بها، ومتى عَرَف المنعِم أحبَّه، وجدَّ في طلبه، فإنَّ من عرف الله أحبَّه لا محالةَ، ومن عَرَف الدنيا أبغضها لا محالة"[7].
والله تعالى "سمَّى نفسه شاكرًا وشَكورًا، وسمَّى الشاكرين بهذينِ الاسمين، فأعطاهم من وصفه، وسمَّاهم باسمه، وحسبُك بهذا محبَّةً للشاكرين وفضلًا، وإعادته للشاكر مشكورًا
كقوله:
{إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا}
[الإنسان: 22]
ورضى الرب عن عبده به
كقوله:
{وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}
[الزمر: 7]
وقلَّة أهله في العالمين تدلُّ على أنهم هم خواصُّه
كقوله:
{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}
[سبأ: 13]
وفي الصحيحين
عن النبيِّ ﷺ أنه قام حتى تورَّمت قدماه، فقيل له: تَفْعَلُ هذا وقد غَفَر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ فقال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا»[8]
وقال لمعاذ:
«والله، يا معاذ إني لأحبك فلا تنس أن تقول في دبر كل صلاة: اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك»[9]"[10].
"والشكر معه المزيد أبدًا
لقوله تعالى:
{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}
[إبراهيم: 7]
فمتى لم تَرَ حالك في مزيد، فاستقبل الشُّكر"[11].
الفرق بين الحمد والشكر:
"الحمد يتضمَّن المدحَ، والثناء على المحمود بذكر محاسنه، سواء كان الإحسان إلى الحامد أو لم يكن، والشكر لا يكون إلا على إحسان المشكور إلى الشاكر، فمن هذا الوجه: الحمد أعمُّ من الشُّكر؛ لأنه يكون على المحاسن والإحسان؛ فإن الله تعالى يُحمَد على ما لَهُ من الأسماء الحسنى، والْمَثَل الأعلى، وما خلقه في الآخرة والأولى... وأما الشكر فإنه لا يكون إلا على الإنعام، فهو أخصُّ من الحمد من هذا الوجه؛ لكنه يكون بالقلب واليد واللسان، والحمد إنما يكون بالقلب واللسان، فمن هذا الوجه الشكر أعمُّ من جهة أنواعه، والحمد أعمُّ من جهة أسبابه"[12].
منزلة الصبر:
"الصبر في القرآن في نحو تسعين موضعًا، وهو واجب بإجماع الأمَّة، وهو نصف الإيمان؛ فإن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر"[13].
"والصبر في اللغة: الحبس والكفُّ، ومنه: قُتِل فلان صَبْرًا إذا أُمسِك وحُبس
ومنه قوله تعالى:
{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}
[الكهف: 28]
أي: احبس نفسك معهم، فالصبر: حبس النفس عن الجَزَع والتسخُّط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش، وهو ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على امتحان الله، فالأولان: صبر على ما يتعلَّق بالكسب، والثالث: صبر على ما لا كسب للعبد فيه"[14].
و"الصبر جِماع الأمر، ونظام الَحزم، ودِعامة العقل، وبذر الخير، وحيلة من لا حيلة له، وأول درجته الاهتمام، ثم التيقُّظ، ثم التثبُّت، ثم التصبُّر، ثم الصبر، ثم الرضا، وهو النهاية في الحالات"[15].
و"إن الإنسان لا يستغني عن الصبر في حال من الأحوال؛ فإنه بين أمر يجب عليه امتثالُه وتنفيذه، ونهيٍ يجب عليه اجتنابه وتركه، وقَدَر يجري عليه اتِّفاقًا، ونعمةٍ يجب عليه شُكر الْمُنعِم عليها، وإذا كانت هذه الأحوال لا تفارقه، فالصبر لازمٌ له إلى الْمَمات، وكلُّ ما يلقى العبد في هذه الدار لا يخلو من نوعين؛ أحدُهما: يوافق هواه ومُراده، والآخر: يُخالفه، وهو محتاج إلى الصبر في كلٍّ منهما"[16].
"وفي الحديث: الحثُّ على الصبر على الضرَّاء، وأن ذلك من خصال المؤمنين، فإذا رأيتَ نفسك عند إصابة الضرَّاء صابرًا محتسبًا، تنتظر الفرج من الله - سبحانه وتعالى - وتحتسب الأجر على الله، فذلك عُنوان الإيمان، وإن رأيتَ العكس، فلُمْ نفسَكَ، وعدِّلْ مَسِيرك، وتُبْ إلى الله. وفي الحديث أيضًا: الحثُّ على الشُّكر عند السرَّاء؛ لأنه إذا شكر الإنسان ربَّه على نعمة، فهذا من توفيق الله له، وهو من أسباب زيادة النعم
كما قال الله تعالى:
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}
[إبراهيم: 7]
وإذا وفَّق الله الإنسان للشُّكر، فهذه نعمة تحتاج إلى شُكرها مرَّة ثالثة، وهكذا؛ لأن الشكر قلَّ من يقوم به، فإذا منَّ الله عليك وأعانك عليه، فهذه نعمة"[17].
أنواع الصبر:
"والصبر على ثلاثة أنواع: صبر بالله، وصبر لله، وصبر مع الله؛ فالأول: أول الاستعانة به ورؤيته أنه هو المصبِّر، وأن صبر العبد بربِّه لا بنفسه
كما قال تعالى:
{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}
[النحل: 127]
يعني: إن لم يصبِّرك هو لم تَصبِر، والثاني: الصبر لله، وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبَّةَ الله، وإرادة وجهه، والتقرُّب إليه، لا لإظهار قوَّة النفس، والاستحماد إلى الخلق، وغير ذلك من الأعراض، والثالث: الصبر مع الله، وهو دوران العبد مع مراد الله الدينيِّ منه، ومع أحكامه الدينية صابرًا نفسَه معها، سائرًا بسيرها، مُقِيمًا بإقامتها، يتوجَّه معها أين توجَّهت ركائبها، وينزل معها أين استقلَّت مَضَارِبها، فهذا معنى كونه صابرًا مع الله؛ أي: قد جعل نفسه وَقْفًا على أوامره ومَحابِّه، وهو أشدُّ أنواع الصبر وأصعبها، وهو صبر الصدِّيقين"[18].
"وقد أمر الله - سبحانه وتعالى - في كتابه بالصبر الجميل، والصفح الجميل، والهجر الجميل، فالصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه ولا معه، والصفح الجميل هو الذى لا عتاب معه، والهجر الجميل هو الذي لا أذى معه"[19].
مراتب الصابرين:
"هي خمس مراتب: صابر، ومصطبرِ، ومتصبِّر، وصَبور، وصبَّار؛ فالصابر: أعمُّها، والمصطبر: المكتسب الصبرَ المليء به، والمتصبِّر: المتكلِّف حامل نفسه عليه، والصَّبور: العظيم الصبر، الذي صبره أشدُّ من صبر غيره، والصبَّار: الكثير الصبر؛ فهذا في القَدْر والكمِّ، والذي قبلَه في الوصف والكَيف. وقال عليُّ بنُ أبي طالب - رضي الله عنه -: الصبر مطيَّةٌ لا تكبو"[20].
"وإذا اعتبر العبدُ الدِّينَ كلَّه، رآه يَرجِعُ بجُملته إلى الصبر والشكر، وذلك؛ لأن الصبر ثلاثة أقسام: صبر على الطاعة حتى يفعلَها؛ فإن العبد لا يكاد يفعل المأمورَ به إلَّا بعد صبر ومُصابرة، ومجاهدةٍ لعدوِّه الظاهر والباطن، فبحسب هذا الصبر يكون أداؤُه للمأمورات، وفِعلُه للمستحبَّات. النوع الثاني: صبرٌ عن المنهيِّ حتى لا يفعلَه؛ فإنّ النفسَ ودواعيَها وتزيين الشيطان وقُرَناء السوء تأمرُه بالمعصية، وتُجَرِّئُه عليها، فبحسب قوَّة الصبر، يكون تركُه لها. قال بعض السَّلَف: أعمالُ البِرِّ يَفعلُها البَرُّ والفاجر، ولا يَقدِرُ على ترك المعاصي إلَّا صِدِّيق. النوع الثالث: الصبر على ما يُصِيبُه بغير اختيارِه من المصائب، وهي نوعان: نوع لا اختيارَ للخلقِ فيه؛ كالأمراضِ وغيرِها من المصائب السماوية، فهذه يَسهُل الصبر فيها؛ لأن العبْدَ يشهدُ فيها قضاءَ اللهِ وقدَرَه، وأنه لا مدخلَ للناس فيها، فيصبر إمّا اضطرارًا وإمَّا اختيارًا، فإن فتحَ الله على قلبه بابَ الفِكرة في فوائدها، وما في حَشْوِها من النِّعَم والألطاف، انتقل من الصبر عليها إلى الشكر لها، والرضا بها، فانقلبت حينئذٍ في حقِّه نعمةً، فلا يزالُ ترديد قلبِه ولسانِه فيها: "ربِّ أَعِنِّي على ذكرِك وشكرك وحسنِ عبادتك"، وهذا يَقْوى ويَضعُف بحسب قوَّة محبَّة العبد لله وضعفِها. النوع الرابع: ما يَحصُل له بفعل الناس في ماله أو عِرضِه أو نفسِه، فهذا النوع يَصعُب الصبرُ عليه جدًّا؛ لأنّ النفس تستشعِرُ الْمُؤذيَ لها، وهي تكره الغَلَبة، فتَطلبُ الانتقام، فلا يَصبِر على هذا النوع إلاّ الأنبياء والصدِّيقون.
وكان نبيُّنا ﷺ إذا أُوذِيَ يقول:
«يَرحمُ اللهُ موسى، لقد أُوذِي بأكثر من هذا فصَبر»[21].
ويُعِينُ العبدَ على هذا الصبر عدَّةُ أشياءَ؛ أحدها: أن يشهدَ أن الله - سبحانه وتعالى - خالقُ أفعالِ العباد، حركاتِهم وسَكَناتِهم وإراداتِهم، فما شاءَ الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يتحرَّك في العالم العُلْوِيِّ والسُّفليِّ ذرَّة إلَّا بإذنه ومشيئتِه، فالعباد آلة، فانظر إلى الذي سَلَّطَهم عليك، ولا تَنظُرْ إلى فِعلِهم بك، تَسْتَرِحْ من الهمِّ والغَمِّ. الثاني: أن يَشْهَد ذُنُوبَه، وأنّ الله إنما سلَّطهم عليه بذنبه
كما قال تعالى:
{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}
[الشورى: 30]
فإذا شَهِد العبدُ أن جميع ما يناله من المكروه فسببُه ذنوبُه، اشتغلَ بالتوبة والاستغفار من الذنوب التي سلَّطهم عليه بسببها، عن ذَمِّهم ولَومِهم والوقيعةِ فيهم، وإذا رأيتَ العبدَ يقع في الناس إذا آذَوْه، ولا يَرجع إلى نفسِه باللوم والاستغفار، فاعلمْ أن مصيبتَه مصيبةٌ حقيقية، وإذا تاب واستغفر وقال: هذا بذنوبي، صارتْ في حقّهِ نعمةً. قال علي بن أبي طالب -كرَّمَ الله وجهَه- كلمةً من جواهرِ الكلام: لا يَرجُوَنَّ عبدٌ إلَّا ربَّه، ولا يَخافَنَّ عبدٌ إلاّ ذنبَه. ورُوِي عنه وعن غيرِه: ما نزلَ بلاءٌ إلَّا بذنبٍ، ولا رُفِع إلَّا بتوبة. الثالث: أن يشهد العبدُ حُسْنَ الثواب الذي وعده الله لمن عَفَا وصَبَر
كما قال تعالى:
{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}
[الشورى: ٤٠]" [22]
وقد اقترن الصبر "بمقامات الإسلام والإيمان كما قرنه الله سبحانه باليقين، وبالإيمان، وبالتقوى، والتوكُّل، وبالشُّكر، والعمل الصالح، والرحمة؛ ولهذا كان الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبرَ له، كما أنه لا جسد لمن لا رأس له"[23].
"والشكوى إلى الله - عزَّ وجلَّ - لا تنافي الصبر؛ فإن يعقوب - عليه السلام - وَعَد بالصبر الجميل، والنبيُّ إذا وَعَد لا يُخلِف
ثم قال:
{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}
[يوسف: 86]
وكذلك أيوب أخبر الله عنه أنه وَجَده صابرًا
مع قوله:
{أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}
[الأنبياء: 83]
وإنما ينافي الصبرَ شكوى الله، لا الشكوى إلى الله"[24].
قال الملا علي القاري رحمه الله: "«عجبًا»؛ أي: عجبتُ عَجَبًا «لأمر المؤمن»؛ أي: لشأنه، وما له في كلِّ حالِه «إنّ أمره كلَّه» بالنَّصب، ويجوز رفعُه؛ أي: جميع أموره «له خير»؛ أي: خيرٌ له في المآل، وإن كان بعضُه شرًّا صُوريًّا في الحال، وقُدِّم الظّرف اهتمامًا، «وليس ذلك لأحد إلّا للمؤمن»، قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "مَظهَر وقع موقع الْمُضمَر ليُشعِر بالعليَّة" انتهى. وفيه أنّ الإظهار والإضمار مستويانِ في الإشعار بالعليَّة، ولعلَّ النُّكتة هي إظهار الإشعار على وجه التَّصريح؛ فإنّه آكَد من طريق التَّلويح، ثمّ بيَّنه على وجه التّوضيح بقوله: «إن أصابته سرَّاء»"[1].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "«عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير»؛ أي: إن الرسول ﷺ أظهر العَجَب على وجه الاستحسان «لأمر المؤمن»؛ أي: لشأنه؛ فإن شأنه كلَّه خير، وليس ذلك لأحد إلا المؤمن"[2].
قال ابن القيم رحمه الله: "ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين: منزلة الشكر، وهي من أعلى المنازل، وهي فوق منزلة الرضى، وزيادة؛ فالرضى مندرج في الشكر؛ إذ يستحيل وجود الشكر بدونه، وهو نصف الإيمان كما تقدَّم، والإيمان نصفان: نصف شكر ونصف صبر، وقد أمر الله به، ونهى عن ضدِّه، وأثنى على أهله، ووَصَف به خواصَّ خلقه، وجعله غايةَ خَلقه وأمْرِه، ووَعَد أهله بأحسن جزائه، وجعله سببًا للمزيد من فضله، وحارسًا وحافظًا لنعمته، وأخبر أن أهله هم المنتفعون بآياته، واشتقَّ لهم اسمًا من أسمائه؛ فإنه سبحانه هو الشكور، وهو يوصل الشاكر إلى مشكوره؛ بل يعيد الشاكر مشكورًا، وهو غاية الربِّ من عبده، وأهله هم القليل من عباده"[3].
قال ابن القيم رحمه الله: "والشكر على نِعَمه يتضمَّن رؤية كلِّ ما منه نعمةً وإحسانًا وإن ساء عبدَه"[4].
قال الملا علي القاري رحمه الله: "قوله: «إن أصابته سرَّاء»؛ أي: نَعْماءُ، وسَعَةُ عَيش، ورَخَاء، وتوفيق طاعة من أداء وقضاء، «شَكَر فكان»؛ أي: شُكْرُه «خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاءُ»؛ أي: فَقْرٌ ومرض ومحنة وبَليَّة «صَبَر، فكان»؛ أي: صبرُه «خيرًا له»، وبهذا تبيَّن قول بعض العارفين: إنّه لا يُقال على الإطلاق: إنَّ الفقير الصّابر أفضلُ من الغنيِّ الشّاكر؛ بل حالة التّفويض والتّسليم أَوْلى، والقيامُ بمقتضى الوقت أعلى بحسب اختلاف الأحوال وتفاوت الرّجال... لذا؛ قال عمر - رضي اللّه تعالى عنه -: الفقر والغنى مطيَّتان لا أبالي أيَّتهما أركب. وعلى هذا الاختلاف الواقع بين القوم في طلب طول العمر لطاعة اللّه، أو طلب الموت لخوف الفتنة، أو للاشتياق إلى لقاء اللّه تعالى، ثمّ المعتمَد التّفويض والتّسليم
كما أشار إليه ﷺ في دعائه:
«اللّهمَّ أَحْيِني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفَّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، واجعل الحياة زيادةً لي في كلّ خير، واجعل الموت راحةً لي من كلّ شرّ»
ثمّ وجَّه حصر الخير في كلِّ حال للمؤمن الكامل؛ لأنّ غيره إن أصابته سرَّاءُ شَبِع وبَطَر، وإن أصابته ضرَّاءُ جزع وكَفَر، بخلاف حال المؤمن"[5].
قال ابن القيم رحمه الله: "وسمى نفسه شاكرًا وشكورًا، وسمَّى الشاكرين بهذينِ الاسمين، فأعطاهم من وصفه، وسمَّاهم باسمه، وحسبُك بهذا محبَّةً للشاكرين وفضلًا، وإعادته للشاكر مشكورًا
كقوله:
{إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا}
[الإنسان: 22]
ورضى الرب عن عبده به
كقوله:
{وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}
[الزمر: 7]
وقلَّة أهله في العالمين تدلُّ على أنهم هم خواصُّه
كقوله:
{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}
[سبأ: 13]
وفي الصحيحين
عن النبيِّ ﷺ أنه قام حتى تورَّمت قدماه، فقيل له: تَفْعَلُ هذا وقد غَفَر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ فقال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا»[6]
وقال لمعاذ:
«والله، يا معاذ إني لأحبك فلا تنس أن تقول في دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك»[7]"[8].
قال ابن عثيمين رحمه الله:
"ثم فصَّل الرسول ﷺ هذا الأمر الخير، فقال:
«إن أصابته سرَّاءُ شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له»
هذه حال المؤمن. وكل إنسان فإنه في قضاء الله وقدَره بين أمرين: مؤمن وغير مؤمن؛ فالمؤمن على كلِّ حال ما قدَّر الله له، فهو خير له، إن أصابته الضراء صبر على أقدار الله، وانتظر الفرج من الله، واحتسب الأجر على الله؛ فكان ذلك خيرًا له، فنال بهذا أجر الصابرين، وإن أصابته سرَّاءُ من نعمة دينية؛ كالعلم والعمل الصالح، ونعمة دنيوية؛ كالمال والبنين والأهل، شَكَر الله، وذلك بالقيام بطاعة الله - عزَّ وجلَّ - فيشكر الله، فيكون خيرًا له، ويكون عليه نعمتان: نعمة الدين، ونعمة الدنيا؛ نعمة الدنيا بالسرَّاء، ونعمة الدين بالشُّكر، هذه حال المؤمن، فهو على خير، سواء أُصِيب بضرَّاءَ أم سرَّاء. وأما الكافر فهو على شرٍّ - والعياذ بالله - إن أصابته الضرَّاء لم يصبر؛ بل يتضجَّر، ودعا بالويل والثُّبور، وسبَّ الدهر، وسبَّ الزمن؛ بل وسبَّ الله - عزَّ وجلَّ - ونعوذ بالله، وإن أصابته سرَّاء لم يشكر الله، فكانت هذه السرَّاء عقابًا عليه في الآخرة؛ لأن الكافر لا يأكل أكلة، ولا يشرب إلا كان عليه فيها إثم"[9].
قال ابن القيم رحمه الله: "والشكر معه المزيد أبدًا
لقوله تعالى:
{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}
[إبراهيم: 7]
فمتى لم تَرَ حالك في مزيد، فاستقبل الشُّكر"[10].
قال ابن القيم رحمه الله: "الشكر: اسم لمعرفة النعمة؛ لأنها السبيل إلى معرفة المنعِم؛ ولهذا سمَّى الله تعالى الإسلام والإيمان في القرآن (شُكرًا)، فمعرفة النعمة ركنٌ من أركان الشكر، لا أنها جُملة الشكر؛ فالشكر: الاعتراف بها، والثناء عليه بها، والخضوع له، ومحبَّته، والعمل بما يرضيه فيها؛ لكن لَمَّا كان معرفتها رُكْنَ الشُّكر الأعظم الذي يستحيل وجود الشكر بدونه، جعل أحدَهما اسمًا للآخر. قوله: لأنه السبيل إلى معرفة المنعم يعني: أنه إذا عَرَف النعمة توصَّل بمعرفتها إلى معرفة المنعِم بها، وهذا من جهة معرفة كونها نعمةً، لا من أيِّ جهة عَرَفها بها، ومتى عَرَف المنعِم أحبَّه، وجدَّ في طلبه، فإنَّ من عرف الله أحبَّه لا محالةَ، ومن عَرَف الدنيا أبغضها لا محالة"[11].
قال ابن تيمية: "الحمد يتضمَّن المدحَ، والثناء على المحمود بذكر محاسنه، سواء كان الإحسان إلى الحامد أو لم يكن، والشكر لا يكون إلا على إحسان المشكور إلى الشاكر، فمن هذا الوجه: الحمد أعمُّ من الشُّكر؛ لأنه يكون على المحاسن والإحسان؛ فإن الله تعالى يُحمَد على ما لَهُ من الأسماء الحسنى، والْمَثَل الأعلى، وما خلقه في الآخرة والأولى... وأما الشكر فإنه لا يكون إلا على الإنعام، فهو أخصُّ من الحمد من هذا الوجه؛ لكنه يكون بالقلب واليد واللسان، والحمد إنما يكون بالقلب واللسان، فمن هذا الوجه الشكر أعمُّ من جهة أنواعه، والحمد أعمُّ من جهة أسبابه"[12].
قال ابن القيم رحمه الله: "ومعاني الشكر ثلاثة أشياء: معرفة النعمة، ثم قبول النعمة، ثم الثناء بها"[13].
قال ابن القيم رحمه الله: "والصبر في اللغة: الحبس والكفُّ، ومنه: قُتِل فلان صَبْرًا إذا أُمسِك وحُبس
ومنه قوله تعالى:
{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}
[الكهف: 28]
أي: احبس نفسك معهم، فالصبر: حبس النفس عن الجَزَع والتسخُّط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش، وهو ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على امتحان الله، فالأولان: صبر على ما يتعلَّق بالكسب، والثالث: صبر على ما لا كسب للعبد فيه"[14].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "وفيه أيضًا: الحثُّ على الصبر على الضرَّاء، وأن ذلك من خصال المؤمنين، فإذا رأيتَ نفسك عند إصابة الضرَّاء صابرًا محتسبًا، تنتظر الفرج من الله - سبحانه وتعالى - وتحتسب الأجر على الله، فذلك عُنوان الإيمان، وإن رأيتَ العكس، فلُمْ نفسَكَ، وعدِّلْ مَسِيرك، وتُبْ إلى الله. وفي الحديث أيضًا: الحثُّ على الشُّكر عند السرَّاء؛ لأنه إذا شكر الإنسان ربَّه على نعمة، فهذا من توفيق الله له، وهو من أسباب زيادة النعم
كما قال الله تعالى:
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}
[إبراهيم: 7]
وإذا وفَّق الله الإنسان للشُّكر، فهذه نعمة تحتاج إلى شُكرها مرَّة ثالثة، وهكذا؛ لأن الشكر قلَّ من يقوم به، فإذا منَّ الله عليك وأعانك عليه، فهذه نعمة"[15].
قال ابن القيم رحمه الله: "وهو على ثلاثة أنواع: صبر بالله، وصبر لله، وصبر مع الله؛ فالأول: أول الاستعانة به ورؤيته أنه هو المصبِّر، وأن صبر العبد بربِّه لا بنفسه
كما قال تعالى:
{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}
[النحل: 127]
يعني: إن لم يصبِّرك هو لم تَصبِر، والثاني: الصبر لله، وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبَّةَ الله، وإرادة وجهه، والتقرُّب إليه، لا لإظهار قوَّة النفس، والاستحماد إلى الخلق، وغير ذلك من الأعراض، والثالث: الصبر مع الله، وهو دوران العبد مع مراد الله الدينيِّ منه، ومع أحكامه الدينية صابرًا نفسَه معها، سائرًا بسيرها، مُقِيمًا بإقامتها، يتوجَّه معها أين توجَّهت ركائبها، وينزل معها أين استقلَّت مَضَارِبها، فهذا معنى كونه صابرًا مع الله؛ أي: قد جعل نفسه وَقْفًا على أوامره ومَحابِّه، وهو أشدُّ أنواع الصبر وأصعبها، وهو صبر الصدِّيقين. قال الجُنَيد: الْمَسِير من الدنيا إلى الآخرة سهل هيِّن على المؤمن، وهجران الخلق في جَنْب الله شديد، والْمَسير من النفس إلى الله صعب شديد، والصبر مع الله أشدُّ. وسُئل عن الصبر فقال: تجرّع المرارة من غير تعبُّس.
قال ذو النون المصريُّ: الصبر: التباعد من المخالفات، والسكون عند تجرُّع غُصَص البَليَّة، وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة. وقيل: الصبر: الوقوف مع البلاء بحُسن الأدب. وقيل: هو الفناء في البلوى بلا ظهور ولا شكوى. وقيل: تعويد النفس الهجومَ على المكاره. وقيل: الْمُقام مع البلاء بحُسن الصُّحبة كالْمُقام مع العافية. وقال عمرو بن عثمان: هو الثبات مع الله، وتلقِّي بلائه بالرَّحب والدَّعَة. وقال الخوَّاص: هو الثبات على أحكام الكتاب والسنَّة. وقال يحيى بن معاذ: صبر المحبِّين أشدُّ من صبر الزاهدين، واعَجبا! كيف يصبرون؟! وقيل: الصبر هو الاستعانة بالله. وقيل: هو ترك الشكوى"[16].
قال ابن تيمية رحمه الله: "جعل الله - سبحانَه وتعالى - عبادَه المؤمنين بكل منزلة خيرًا منه، فهم دائمًا في نعمة من ربهم، أصابَهم ما يُحِبَّون أو ما يكرهون، وجعل أقضيته وأقداره التي يقضيها لهم ويُقدِّرها عليهم متاجرَ يَربحون بها عليه، وطُرُقًا يصلون منها إليه، كما ثبت في الصحيح عن إمامهم ومتبوعهم، الذي إذا دُعي يوم القيامة كل أناسٍ بإمامهم دُعُوا به - صلواتُ الله وسلامه عليه - أنه قال: «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله عجب، ما يقضي الله له من قضاء إلَّا كان خيرًا له، إن أصابته سرَّاءُ شكَرَ فكان خيرًا له، وإن أصابَتْه ضرَّاءُ صَبَر فكان خيرًا له»، فهذا الحديث يَعمُّ جميعَ أَقضيتِه لعبده المؤمن، وأنها خير له إذا صبر على مكروهها، وشكرَ لمحبوبها؛ بل هذا داخلٌ في مسمَّى الإيمان، فإنه كما قال السلف: الإيمان نصفان، نصفٌ صبر، ونصفٌ شكر
كقوله تعالى:
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}
[لقمان: 31]" [17]
قال ابن القيم رحمه الله: "وقيل: مراتب الصابرين خمسة: صابر، ومصطبرِ، ومتصبِّر، وصَبور، وصبَّار؛ فالصابر: أعمُّها، والمصطبر: المكتسب الصبرَ المليء به، والمتصبِّر: المتكلِّف حامل نفسه عليه، والصَّبور: العظيم الصبر، الذي صبره أشدُّ من صبر غيره، والصبَّار: الكثير الصبر؛ فهذا في القَدْر والكمِّ، والذي قبلَه في الوصف والكَيف. وقال عليُّ بنُ أبي طالب - رضي الله عنه -: الصبر مطيَّةٌ لا تكبو"[18].
قال ابن تيمية رحمه الله: "وإذا اعتبر العبدُ الدِّينَ كلَّه، رآه يَرجِعُ بجُملته إلى الصبر والشكر، وذلك؛ لأن الصبر ثلاثة أقسام: صبر على الطاعة حتى يفعلَها؛ فإن العبد لا يكاد يفعل المأمورَ به إلَّا بعد صبر ومُصابرة، ومجاهدةٍ لعدوِّه الظاهر والباطن، فبحسب هذا الصبر يكون أداؤُه للمأمورات، وفِعلُه للمستحبَّات. النوع الثاني: صبرٌ عن المنهيِّ حتى لا يفعلَه؛ فإنّ النفسَ ودواعيَها وتزيين الشيطان وقُرَناء السوء تأمرُه بالمعصية، وتُجَرِّئُه عليها، فبحسب قوَّة الصبر، يكون تركُه لها. قال بعض السَّلَف: أعمالُ البِرِّ يَفعلُها البَرُّ والفاجر، ولا يَقدِرُ على ترك المعاصي إلَّا صِدِّيق. النوع الثالث: الصبر على ما يُصِيبُه بغير اختيارِه من المصائب، وهي نوعان: نوع لا اختيارَ للخلقِ فيه؛ كالأمراضِ وغيرِها من المصائب السماوية، فهذه يَسهُل الصبر فيها؛ لأن العبْدَ يشهدُ فيها قضاءَ اللهِ وقدَرَه، وأنه لا مدخلَ للناس فيها، فيصبر إمّا اضطرارًا وإمَّا اختيارًا، فإن فتحَ الله على قلبه بابَ الفِكرة في فوائدها، وما في حَشْوِها من النِّعَم والألطاف، انتقل من الصبر عليها إلى الشكر لها، والرضا بها، فانقلبت حينئذٍ في حقِّه نعمةً، فلا يزالُ هِجِّيرا قلبِه ولسانِه فيها: "رب أَعِنِّي على ذكرِك وشكرك وحسنِ عبادتك"، وهذا يَقْوى ويَضعُف بحسب قوَّة محبَّة العبد لله وضعفِها. النوع الرابع: ما يَحصُل له بفعل الناس في ماله أو عِرضِه أو نفسِه، فهذا النوع يَصعُب الصبرُ عليه جدًّا؛ لأنّ النفس تستشعِرُ الْمُؤذيَ لها، وهي تكره الغَلَبة، فتَطلبُ الانتقام، فلا يَصبِر على هذا النوع إلاّ الأنبياء والصدِّيقون.
وكان نبيُّنا ﷺ إذا أُوذِيَ يقول:
«يَرحمُ اللهُ موسى، لقد أُوذِي بأكثر من هذا فصَبر»[19].
ويُعِينُ العبدَ على هذا الصبر عدَّةُ أشياءَ؛ أحدها: أن يشهدَ أن الله - سبحانه وتعالى - خالقُ أفعالِ العباد، حركاتِهم وسَكَناتِهم وإراداتِهم، فما شاءَ الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يتحرَّك في العالم العُلْوِيِّ والسُّفليِّ ذرَّة إلَّا بإذنه ومشيئتِه، فالعباد آلة، فانظر إلى الذي سَلَّطَهم عليك، ولا تَنظُرْ إلى فِعلِهم بك، تَسْتَرِحْ من الهمِّ والغَمِّ. الثاني: أن يَشْهَد ذُنُوبَه، وأنّ الله إنما سلَّطهم عليه بذنبه
كما قال تعالى:
{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}
[الشورى: 30]
فإذا شَهِد العبدُ أن جميع ما يناله من المكروه فسببُه ذنوبُه، اشتغلَ بالتوبة والاستغفار من الذنوب التي سلَّطهم عليه بسببها، عن ذَمِّهم ولَومِهم والوقيعةِ فيهم، وإذا رأيتَ العبدَ يقع في الناس إذا آذَوْه، ولا يَرجع إلى نفسِه باللوم والاستغفار، فاعلمْ أن مصيبتَه مصيبةٌ حقيقية، وإذا تاب واستغفر وقال: هذا بذنوبي، صارتْ في حقّهِ نعمةً. قال علي بن أبي طالب -كرَّمَ الله وجهَه- كلمةً من جواهرِ الكلام: لا يَرجُوَنَّ عبدٌ إلَّا ربَّه، ولا يَخافَنَّ عبدٌ إلاّ ذنبَه. ورُوِي عنه وعن غيرِه: ما نزلَ بلاءٌ إلَّا بذنبٍ، ولا رُفِع إلَّا بتوبة. الثالث: أن يشهد العبدُ حُسْنَ الثواب الذي وعده الله لمن عَفَا وصَبَر
كما قال تعالى:
{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}
[الشورى: ٤٠]" [20]
قال ابن القيم رحمه الله: "وقد أمر الله - سبحانه وتعالى - في كتابه بالصبر الجميل، والصفح الجميل، والهجر الجميل، فسمعتُ شيخ الاسلام ابن تيمية - قدَّس الله روحه – يقول: الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه ولا معه، والصفح الجميل هو الذى لا عتاب معه، والهجر الجميل هو الذي لا أذى معه"[21].
قال أبو حاتم رحمه الله: "الصبر على ضروب ثلاثة: فالصبر عن المعاصي، والصبر على الطاعات، والصبر عند الشدائد المصيبات، فأفضلها الصبر عن المعاصي، فالعاقلُ يدبِّر أحواله بالتثبُّت عند الأحوال الثلاثة التي ذكرناها بلزوم الصبر على المراتب التي وصفناها قبلُ، حتى يرتقيَ بها إلى درجة الرضا عن الله - جل وعلا - في حال العُسر واليُسر معًا"[22].
قال ابن القيم رحمه الله: "قال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -: الصبر في القرآن في نحو تسعين موضعًا، وهو واجب بإجماع الأمَّة، وهو نصف الإيمان؛ فإن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر"[23].
قال ابن القيم رحمه الله: "اقترانه بمقامات الإسلام والإيمان كما قرنه الله سبحانه باليقين، وبالإيمان، وبالتقوى، والتوكُّل، وبالشُّكر، والعمل الصالح، والرحمة؛ ولهذا كان الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبرَ له، كما أنه لا جسد لمن لا رأس له"[24].
قال ابن القيم رحمه الله: "والشكوى إلى الله - عزَّ وجلَّ - لا تنافي الصبر؛ فإن يعقوب - عليه السلام - وَعَد بالصبر الجميل، والنبيُّ إذا وَعَد لا يُخلِف
ثم قال:
{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}
[يوسف: 86]
وكذلك أيوب أخبر الله عنه أنه وَجَده صابرًا
مع قوله:
{أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}
[الأنبياء: 83]
وإنما ينافي الصبرَ شكوى الله، لا الشكوى إلى الله"[25].
قال أبو حاتم رحمه الله: "الصبر جِماع الأمر، ونظام الَحزم، ودِعامة العقل، وبذر الخير، وحيلة من لا حيلة له، وأول درجته الاهتمام، ثم التيقُّظ، ثم التثبُّت، ثم التصبُّر، ثم الصبر، ثم الرضا، وهو النهاية في الحالات"[26].
قال ابن القيم رحمه الله: "إن الإنسان لا يستغني عن الصبر في حال من الأحوال؛ فإنه بين أمر يجب عليه امتثالُه وتنفيذه، ونهيٍ يجب عليه اجتنابه وتركه، وقَدَر يجري عليه اتِّفاقًا، ونعمةٍ يجب عليه شُكر الْمُنعِم عليها، وإذا كانت هذه الأحوال لا تفارقه، فالصبر لازمٌ له إلى الْمَمات، وكلُّ ما يلقى العبد في هذه الدار لا يخلو من نوعين؛ أحدُهما: يوافق هواه ومُراده، والآخر: يُخالفه، وهو محتاج إلى الصبر في كلٍّ منهما"[27].