عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: رأيتُ النبيَّ ﷺ يَرْمي على راحلتِهِ يومَ النَّحْرِ، ويقول: «لِتأخُذوا مناسكَكم؛ فإني لا أدْري لعلِّي لا أحُجُّ بعد حَجَّتي هذه.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: رأيتُ النبيَّ ﷺ يَرْمي على راحلتِهِ يومَ النَّحْرِ، ويقول: «لِتأخُذوا مناسكَكم؛ فإني لا أدْري لعلِّي لا أحُجُّ بعد حَجَّتي هذه.
في هذا الحديث بيانُ لقاعدةٍ عظيمةٍ من قواعد الإسلام؛ وهي أنَّ أفعالَ النبيِّ ﷺ حُجَّةٌ، وأنَّها كقولِه في الاتِّباع والامتثال.
1. أخبر جابرٌ رضي الله عنه أنَّه رأى النبيَّ ﷺ يَرمي جَمْرة العقبة يوم عيد الأضحى راكبًا على ناقته؛ ليَرى أصحابُه كيف يؤدِّي ﷺ شعائرَ الحجِّ، ويبيِّن لهم كيف يرمي الجمرات، وما يقوله حين يَرميها، ونحو ذلك، وليُبيِّن لهم أنَّ الرميَ يجوز ماشيًا وراكبًا [1].
2. ثم أمَر ﷺ أن نأخذ عنه شعائرَ الحجِّ وأفعالَه، فنَقتدي به في فِعْلِ ما فَعَلَ وتَرْكِ ما تَرَكَ، وتَقْدِيمِ ما قَدَّمَ وتأخيرِ ما أخَّر.
وأفعالُ النبيِّ ﷺ التي تكون بيانًا لأمرٍ مُجمَلٍ من واجبات الدِّين وفُروضه -كالصلاة والزكاة والحَجِّ ونحو ذلك- واجبةُ التَّأسِّي بها؛
كقوله ﷺ:
«صَلُّوا كما رأيتُموني أُصلي»
[2]،
إلا ما دلَّ الدليلُ على عدمِ الوجوب [3].
وقد قال ﷺ ذلك يوم النَّحر بعد انتهاء أهمِّ فرائضِ الحجِّ وواجباته وأركانِه؛ كأنه يقول: هذه الأمورُ التي أتيتُ بها في حَجَّتي من الأقوال والأفعال والهيئات هي أمور الحجِّ وصِفته، وهي مناسكُكم فخُذوها عني، واقْبَلوها، واحفَظوها، واعملوا بها، وعلِّموها الناسَ [4].
3. وقد علَّل النبيُّ ﷺ ذلك الأمرَ بالاقتداء بأنَّه يَغلِب على ظنِّه - إن لم يكن أيقَنَ – أنَّه لا يحُجُّ بعد ذلك العامِ مرةً أخرى.
وقد جاءه ﷺ من المُنَبِّئات ما يدلُّ على قُرب موته ﷺ، منها أنه نزَل عليه يومَ عرفة قوله تعالى:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}
[المائدة: 3]،
وما روَته فاطمة رضي الله عنها أنَّه ﷺ أسَرَّ إليها في مرض موته:
«إن جِبريل كان يُعارِضُني القرآن كلَّ سَنة مرةً، وإنه عارضَني العام مرتينِ، ولا أراه إلا حضَر أَجَلي»
[5].
فلعلَّه ﷺ قال ذلك بناءً على تلك المُرَجِّحات إنْ لم يكن قد أخبَره ربُّه جلَّ وعلا بذلك.
وهذه الحَجَّة التي حجَّها النبيُّ ﷺ هي حَجَّته الوحيدة بعد الهجرة وبعد ما فُرِض الحج، وسُمِّيتْ حَجَّةَ الوداع لأنَّه ﷺ كان يُوَدِّع فيها أصحابَه بقولِه: «لعلي لا أحُجُّ بعد حَجَّتي هذه».
(1) على الداعية والمُعلِّم والمُرَبِّي أن يَجهَر ببعض العبادات ويَعملها أمام الناس؛ حتى يأخذَها الناسُ عنه، ويتعلَّموها منه.
(1) لا بدَّ للعلماء والدعاة أن يتصدَّروا المشاهِد والوفود؛ حتى يتسنَّى للنَّاس أن يَستفتوهم ويأخُذوا عنهم الأحكامَ.
(1) قد يُغني بيانُ الشيء بالفعلِ والأمرِ بالتقليد عن شَرحه بالقول.
(2) على الدَّاعية أن يَهتمَّ بقضايا الواقع المعاصِر ويؤخِّر بيان ما لا يحتاجه الناسُ الآن؛ فالنبيُّ ﷺ لم يَذكر تفاصيل الحجِّ وأحكامَه حتى خرج بالنَّاسِ حاجًّا.
(2) على المسلم أن يحرِص دائمًا على اتِّباع النبيِّ ﷺ في أقواله وأفعاله، فأحسنُ الهَدْيِ هَدْيُه ﷺ.
(3) على الداعية والمُعلِّم أن يُحفِّز طُلَّابَه ومُستمِعيه بأن يبادروا إلى الأخذ عنه والتلقِّي منه، قبل أن يَنشغِلوا أو يَقضي اللهُ أمرًا.
(3) يجوز للإنسانِ أن يتنبَّأ بأمرٍ مُستقبليٍّ إذا كان ذلك مبنيًّا على وقائعَ وأحداثٍ تُمَهِّد للأمرِ، من غير أن يَجزِم بذلك أو يعتقِد أنَّه يَعلم الغيب، وإنما يعتقد أنَّ ذلك مِن حُسن الظنِّ والربط بين الأمور، والأمرُ للهِ أولًا وآخرًا.
قال الشاعر:
يَا رَاحِلِينَ إِلَى مِنًى بِقِيَادِي = هَيَّجْتُمُ يَوْمَ الرَّحِيلِ فُؤَادِي
سِرْتُمْ وَسَارَ دَلِيلُكُمْ يَا وَحْشَتِي = الشَّوْقُ أَقْلَقَنِي وَصَوْتُ الْحَادِي
وَحَرَمْتُمُ جَفْنِي الْمَنَامَ بِبُعْدِكُمْ = يَا سَاكِنِينَ الْمُنْحَنَى وَالْوَادِي
1. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (3/ 400)، "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (3/ 312).
2. رواه البخاري (6008).
3. انظر: "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (10/ 345)، "المفهم" للقرطبيِّ (3/ 399).
4. "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 45).
5. رواه البخاريُّ (3624)، ومسلم (2450).