عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: رأيتُ النبيَّ ﷺ يَرْمي على راحلتِهِ يومَ النَّحْرِ، ويقول: «لِتأخُذوا مناسكَكم؛ فإني لا أدْري لعلِّي لا أحُجُّ بعد حَجَّتي هذه.

فوائد الحديث

الفوائد العلمية
  1. في هذا الحديث بيانُ قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهي تقريرُ حُجِّيَّة أفعال النبيِّ ﷺ، وأنها كقوله في الاتِّباع ووجوب الامتثال.

  2. هذا الحديث أصلٌ عظيمٌ في مناسك الْحَجِّ، وهو نَحْوُ قوله ﷺ في الصلاة: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي».

  3. تدور مقاصد الحجِّ حول التعبُّد والطاعة، وتصحيح الاعتقاد، واجتماع المسلمين، ووَحْدة كلمتهم، وتخلية وتحلية وتزكية النُّفوس والقلوب والأرواح والأبدان.

  4. الحجُّ وما فيه من مناسكَ هو تكليف فرديٌّ في ذاته؛ ولكنه فرديٌّ في صورة جماعية، ففيه تظهر قوَّة الأمة الإسلامية، ودين الإسلام، ونظامه، ووَحدته، وجماله، والمساواة بين أفراده، واجتماعه.

  5. اختُلف في وقت ابتداء افتراض الحجِّ، فقيل: قبل الهجرة، وهو شاذٌّ، وقيل: سنةَ خمس، وقيل: سنة تسعٍ، وقيل: سنة عشْر، والجمهور على أنّها سنة ستٍّ؛ لأنّه نزل فيها قوله تعالى:

 ﴿وَأَتِمُّوا ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۚ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ ۖ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْىُ مَحِلَّهُۥ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِۦٓ أَذًى مِّن رَّأْسِهِۦ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍۢ ۚ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ ۚ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٍۢ فِى ٱلْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ۗ ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُۥ حَاضِرِى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ۚ وَٱتَّقُوا ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوٓا أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ﴾

[البقرة: 196] [1].

6. قوله ﷺ: «لتأخذوا مناسككم»؛ أي: هذه الأمور الّتي أتيت بها في حجَّتي من الأقوال والأفعال والهيئات هي أمور الحجِّ وصفته، وهي مناسككم، فخذوها عني، واقبلوها، واحفظوها، واعمَلوا بها، وعلّموها النّاس [2].

7. الحجُّ في اللغة القَصْدُ، وفي الشرع: قَصْدُ البيت على الوجه المخصوص في الزمان المخصوص، وهو شوَّال، وذو القَعْدَة، وعَشْرُ ليالٍ من ذي الحِجَّة [3].

8. إن للحجِّ حِكمًا عالية، ومقاصدَ نافعة، ففيه يتعارف المسلمون، ويَجتمعون فيه على اختلاف شعوبهم وطبقاتهم وأوطانهم وألسنتهم وألوانهم، يلتقي المسلم بإخوانه المسلمين، فتلتقي القلوب، وتزداد المحبة والمودَّة والائتلاف.

9. إن في الحج تذكيرًا بالدَّار الآخرة، وتشبيهًا بها في أمور كثيرة؛ حيث يصوِّر الحج ذلك تصويرًا عجيبًا، فالميت ينتقل من دار الدُّنيا إلى دار الآخرة، والحاج ينتقل من بلادٍ إلى أخرى، والميت يُجرَّد من ثيابه ليُكفَّن في ثياب بيضاء، والحاج يتجرَّد من المخيط ليلبس إزارًا ورداء أبيضين نظيفين، والميت يُغسَّل بعد تجريده من ثيابه، والحاجُّ يغتسل عند ميقاته ويُحرِم، والأموات يُحشرون سواء، وكذا الحجَّاج يقفون سواء دون تمييز، وهلم جرًّا.

10. قوله ﷺ: «لعلّي لا أحجُّ بعد حجَّتي هذه» فيه إشارةٌ إلى توديعهم وإعلامهم بقُرب وفاته ﷺ، وحثِّهم على الاعتناء بالأخذ عنه، وانتهاز الفرصة من ملازمته، وتعلُّم أمور الدّين، وبهذا سُمِّيت حجَّة الوداع [4].

11. الله سبحانه جعل لأهل كل مِلَّة يومًا يتفرَّغون فيه للعبادة، ويتخلَّون فيه عن أشغال الدنيا، فيومُ الجمعة يومُ عبادة، وهو في الأيام كشهر رمضانَ في الشهور، وساعةُ الإجابة فيه كليلة القدر في رمضان؛ ولهذا من صحَّ له يوم جمعته وسَلِم، سَلِمت له سائر جُمعته، ومن صحَّ له رمضان وسلم، سلمت له سائر سنته، ومن صحت له حجته وسلمت له، صحَّ له سائر عمره، فيوم الجمعة ميزان الأسبوع، ورمضان ميزان العام، والحج ميزان العمر [5].

المراجع

1. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (4/ 331، 332).

2. "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 45).

3. "شرح المشكاة = الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1936).

4. "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 45).

5. "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (1/ 386).




الفوائد الفقهية

12. في الحديث دليل لما قاله الشّافعيُّ وموافقوه أنّه يُستحبُّ لمن وصل منًى راكبًا أن يرميَ جمرة العقبة يوم النّحر راكبًا، ولو رماها ماشيًا جاز، وأمّا من وصلها ماشيًا فيرميها ماشيًا، وهذا في يوم النّحر، وأمّا اليومان الأوّلان من أيّام التّشريق، فالسُّنّة أن يرميَ فيهما جميع الجمرات ماشيًا، وفي اليوم الثّالث يرمي راكبًا، ويَنفِر، هذا كلُّه مذهب مالك والشّافعيِّ وغيرهما [1].

13. قال أحمدُ وإسحاقُ: يُسْتَحَبُّ يوم النحر أن يرميَ ماشيًا. قال ابن المنذر: وكان ابن عمر وابن الزُّبَير وسالِمٌ يَرْمُون مُشَاةً [2].

14. ذهب أبو حنيفة ومحمّد - رحمهما اللّه – إلى أن الرّميَ كلَّه راكبًا أفضلُ؛ لأنّه رُوي ركوبه ﷺ فيه كلِّه [3].

15. أَجْمَع العلماء على أن الرَّمْيَ يُجْزِئه على أيِّ حالٍ رَمَاهُ إذا وَقَع في الْمَرْمى، غيرَ أنهم اختلفوا في الأفضل [4].

16. يجوز تأخيرُ البيان إلى وقت الحاجة؛ فإن النبيَّ ﷺ لم يُعلِم أصحابه شيئًا من مناسك الحج وأفعاله حتى خرج بهم حاجًّا، فأمرهم حينها أن يتعلَّموا منه [5].

17. أمرُ النبيِّ ﷺ أوكدُ من فِعله؛ فإن فِعله قد يشمل المندوب، والمباح، والواجب، وما هو من خصائصه ﷺ، بخلاف أمره [6].

المراجع

1. "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 45).

2.  "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 45).

3. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (5/ 1814).

4. "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 45).

5. انظر: "عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي" لابن العربي (1/ 259).

6. انظر: "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (2/ 154).



الفوائد الحديثية

18. مسند جابر بن عبد الله بلغ ألفًا وخمسمِائة وأربعين حديثًا، اتَّفَق له الشيخان على ثمانية وخمسين حديثًا، وانفرد له البخاريُّ بستة وعشرين حديثًا، ومسلمٌ بمائة وستة وعشرين حديثًا [1].

المراجع

    1. "سير أعلام النبلاء" للذهبيِّ (3/194).



    الفوائد العقدية

    19. من مظاهر الربوبية لله عزَّ وجلَّ تعظيم ما يشاء من الخلق والأيام والأوقات والأماكن التي يختارها سبحانه، فاختيار الحج زمانًا ومكانًا، وتخصيصه بالمزايا والفضائل، هو اختيار ربَّانيٌّ، وتخصيص إلهيٌّ؛ حيث ينفرد سبحانه بتعظيم ما يشاء من خلقه، وما يختار من الزمان والمكان، فهو الذي يفعل ما يشاء لحكمة يعلمها سبحانه.

    الفوائد التربوية

    20. على الداعية أو الإمام أن يجهَر ببعض العبادات التي يأخُذُها عنه الناس.

    21. قد يُغني الفعل والأمر بالاقتداء عن شرح العبادات، وتفاصيلها بالقول.

    22. لا بدَّ أن يتصدَّر الدعاةُ والعلماءُ الأمورَ الدينية؛ فيتوافر في المحافل، والوفود، والأسفار، ونحو ذلك، مَن يُعلِّم الناسَ أمورَ دينهم، ويُفتيهم في مسائلهم.

    الفوائد اللغوية

    23. قوله ﷺ: «لتأخذوا مناسككم»: هذه اللّام لام الأمر، ومعناه: خُذوا مناسككم، ويجوز أن تكون اللّام للتّعليل، والْمُعلَّل محذوف، و(لعلَّي) مستأنف؛ أي: يقول: إنّما فعلتُ لتأخذوا عنّي مناسككم.

    24. الْمَنْسك هو المتعبَّد، ويقع على المصدر والزمان والمكان، ثم سُمِّيت أمور الحجِّ كلها مناسك [1]

    25. قوله: «فإنّي لا أدري» مفعوله محذوف؛ أي: لا أعلم ماذا يكون، ولا أدري ما يفعل بي؛ أي: أظن أني لا أحجُّ، ويُحتمَل أن يكون للتحقيق، كما يقع في كلام الله تعالى كثيرًا [2].

    26. الحَجُّ بفتح الحاء، وهو المصدر، وبالفتح والكسر هو الاسم منه، وأصله القصد، ويُطلق على العمل أيضًا، وعلى الإتيان مرّةً بعد أخرى، وأصل العمرة: الزّيارة. وقال الخليل: الحجُّ كثرة القصد إلى معظَّم [3].

    27. «لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي» بفتح الحاء، وهي مُحْتمَل أن يكون مصدرًا، وأن يكون بمعنى السَّنة (هذه)؛ أي: التي أنا فيها" [4].

    المراجع

    1. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (5/ 48).

    2. "شرح المشكاة = الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1998).

    3. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (4/ 331).

    4. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (5/ 1814، 1815).



    مشاريع الأحاديث الكلية