عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «لا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الفَأْلُ» قَالُوا: وَمَا الفَأْلُ؟ قَالَ: «كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ» متفق عليه
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «لا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الفَأْلُ» قَالُوا: وَمَا الفَأْلُ؟ قَالَ: «كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ» متفق عليه
﴿قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ18 قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾
[يس (18-19)].
أرسل اللهُ سبحانه نبيَّه محمدًا ﷺ لدعوة الناس إلى عبادة التوحيد، وتخليصها مما يشوبها من أدران الجاهلية واعتقاداتها. وهذا الحديث يُنَبِّه على بعضها:
1- فلا عدوى؛ أي لا تنسبوا انتقال المرض من المريض إلى الصحيح عن طريق المخالطة: للمرض نفسه. فالحديث لا ينفي العدوى، وإنما ينفى أن تكون مؤثِّرة بنفسها وطَبْعها؛ وإنما التأثير بتقدير الله عزَّ وجلَّ، بدليل أنه إن شاء انتقل الداء من المريض إلى الصحيح بالمخالطة، وإن شاء لم يقع ذلك، وبدليل أن المريض الأوَّل جاءه المرض بلا عدوى.
والمسلم مأمور بأخذ الأسباب النافعة، وترك ما قد يؤدي به إلى الضرر، ولذلك أمر ﷺ بالأخذِ بأسباب النجاة والابتعاد عن المُصابين بالأمراض المُعْدِيَة،
فقال ﷺ:
«فِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ»
[1]
وقال ﷺ
«إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا» ،
متفق عليه[2]
وقال:
«لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ»
[3]
أي: لا يؤتى بمريض على صحيح سليم؛ فيكون سبباً في عدواه ومرضه.
فالمسلم يجمع بين تجنب أسباب الخطر،
كما قال تعالى:
﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾
[البقرة: 195]
وبين اعتقاده أنه لا يُصيبُ الإنسانَ إلا ما كتبه الله تعالى عليه،
كما قال تعالى:
﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾
[التوبة: 51].
2- ولا طِيَرَة؛ أي لا تتشاءموا بما ترونه أو تسمعونه؛ كأن يعزم على السَّفر فيرى غرابًا أو يسمع بحادثةٍ أو بموتٍ أو نحو ذلك فيتشاءم عن سفره ذلك ولا يسافر، وربما يسافر وهو مُرتابٌ شاكٌّ.
وإنما سُمِّيت بذلك لأنَّ أهل الجاهلية كانوا يتشاءمون من الطير؛ فإذا أرادوا سفرًا أو نحوه أتوا بطيرٍ فزجروه، فإن طار يمينه تفاءلوا وسافروا، وإن طار يسارًا تشاءموا وقعدوا، وكانوا يتشاءمون من طيورٍ معينة؛ كالبومة والغراب؛ فإذا نعق الغراب فوق بيتٍ زعموا أنه نذيرُ موته فتشاءموا بذلك،
ولهذا قال ﷺ:
«لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ»
[4]
والهامةُ هي ذلك الطائر الذي يتشاءمون به، وصَفَر الشهر المعروف الذي بعد شهر المحرم؛ كانوا يتشاءمون به.
3- ثم أخبر ﷺ أنَّه يُحبُّ الفأل الحسن، وهو الكلمة الطيبة يسمعها الرجلُ فيُسَرُّ بها، كأن يعمل رجلٌ فيسمع شخصًا ينادي أخاه: يا مُوَفَّق، ونحو ذلك.
فالكلمة الطيبة تَسُرُّ النَّفسَ وتُشرح الصدرَ وتبعث النشاطَ في الإنسان، ولذلك أعجبه ﷺ التفاؤل؛ إذ لا يُناقضُ التوحيد ولا يُضعف الإيمانَ في القلب، ولهذا لمَّا جاء سهيلُ بنُ عمرٍو إلى النبيِّ ﷺ يوم الحديبية ليفاوضه في الصُّلْح،
استبشر النبيُّ ﷺوقال:
«قَدْ سَهُلَ أَمْرُكُم»
[5].
1- على المسلم أن يكون قوي النفس، مقدامًا على أسباب الخير، فالأمورُ كلُّها تجري بمقادير، وليس على المرء سوى العمل والتوكل على الله تعالى والأخذ بالأسباب.
2- الأخذُ بالأسبابِ التي تَقي الإنسانَ الأمراضَ مشروع، ولا يتعارض مع اليقين بالله وأنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه؛ فعلى المسلم أن يؤدي ما عليه، ويعلم أن الأمرَ أولًا وآخرًا بيدِ الله تعالى وحده.
3- حقيقة التوكُّل على الله تستلزم الرضا بما قضى والتسليم بما أمر وشرع. قال بشرٌ الحافي رحمه الله: يقول أحدهم: توكَّلت على الله، يَكذِب على الله؛ لو توكَّل على الله، رَضِيَ بما يفعل الله [6]
4- متى وقع وباء عام كالطاعون فعلى المسلم أن يلتزم بالحجر، فلا يقدم على هذا البلد، ولا يخرج منه إن كان فيه، ويسلم لله تعالى، فعن عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الطَّاعُونِ،
فَأَخْبَرَهَا نَبِيُّ اللَّه ﷺ:
«أَنَّهُ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ، فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ، إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ»
[7]
5- كما أمر ﷺ بالحذر من الأمراض المُعدية، فكذلك أمر بأن يقي الإنسان نفسَه من الأخلاق الفاسدة التي تُعدي مخالطيها كذلك، فنهى النبيُّ ﷺ أن يُجالسَ الرجلُ ذوي الأخلاق السيئة، وشبَّه الجليس السوء بالذي ينفخ في النَّار فقال:
«مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ، كَحَامِلِ المِسْكِ وَنَافِخِ الكِيرِ، فَحَامِلُ المِسْكِ: إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الكِيرِ: إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً»
[8]
6- من عادات بعض الشعوب التشاؤم ببعض الحيوانات أو الأشكال أو الأرقام أو الأحداث، وقد تنتشر في بيئات مسلمة عبر أفلام وقصص، وقد يوسوس الشيطان إن وقع الشر موافقًا لها يومًا ما، فعلى العاقل أن يحذر من تسرُّب هذه الأفكار ويحذِر منها.
7- التشاؤم كما أنه مخالف لمقتضى التسليم لله تعالى والإيمان بقضائه وقدره، فهو شرٌّ يُمرض القلبَ ويصدُّ الإنسانُ عن مقصده، وإن لم يصدَّه عنه جعله مرتبكًا مضطربًا لا يطمئن باله إلى أنَّه لن يصيبه إلا ما كتبه الله له، وعلاجه أن يعرض عنه، ويعظم في قلبه الثقة بالله والتسليم له، ويمضي لحاجته.
8- قد يقع في قلب الإنسان تطير من شيء لسبب معين وبغير قصد منه، فهذا لا يلام عليه، ولكن اللوم إن رضي به وتابعه، قال ابن مسعود رضي الله عنه :
"الطِّيرةُ شركٌ ، وما مِنَّا إلَّا ولكنَّ اللهَ يذهبُهُ بالتوكلِ"[9]
9- للمسلم أن يتفاءل بما يسمعه من كلمة طيبة، كما لو قال له رجل : أبشر، أو سمع باسمٍ حسن، والتفاؤل لا يدفع القَدَرَ وإنَّما يُريحُ النَّفسَ ويطيب القلب ويبعث على النشاط، وقد كان النبي ﷺ يعجبه التفاؤل.
10- قال حافظ الحكمي رحمه الله:
فَكُلُّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرْ ... والكُلُّ في أُمِّ الكِتَابِ مُسْتَطَرْ
لا نَوْءَ لا عَدْوَى ولا طِيَرَ وَلا ... عَمَّا قَضَى الله تَعَالى حِوَلاَ
لاَ غَوْلَ لاَ هَامَةَ لاَ ولا صَفَرْ ... كَمَا بذَا أخْبَرَ سَيِّدُ الْبَشَرْ
البخاري (5728)، ومسلم (2218)، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما
مسلم (2221)، عن أبي هريرة رضي الله عنه
البخاري (5757)، ومسلم (2220)، عن أبي هريرة
(إمتاع الأسماع" للمقريزي (12/ 175)، " سبل الهدى والرشاد" للصالحي (5/ 48).
"مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 114).
البخاري (5734).
البخاري (5534)، ومسلم (2628)، عن أبي موسى الأشعري