40 - تركُ مشابهةِ المُخالفين

عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه، أن النبيَّ ﷺ قال:«لتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن قَبْلَكم، شِبرًا بشِبرٍ، وذراعًا بذراعٍ، حتى لو سَلَكوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلكْتموه»، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: «فمَن؟!»

فقه

1. أخبَر النبيُّ ﷺ أنَّ أُمَّته ستَتَّبع طريق الأمم السابقة وطريقتها في الابتداع في الدين وارتكاب المعاصي اتباعًا تامًّا وتقليدًا أعمى، وقد حصل ذلك بعده ﷺ، فمال كثير من الناس إلى الحِيَل، وإلى أكْل الربا، والتشبُّه بهم في ملابسهم وشعارهم، وإقامة الحدود على الضعفاء دون الأغنياء، وغير ذلك، ومال بعضهم إلى عبادة الصالحين من دون الله تعالى[1]

2, وشبه اتباعهم بقوله: «شبرًا بشبرٍ وذراعًا بذراع» وهو تشبيهٌ يُقَوِّي المعنى؛ حيث إنَّ من أمته ﷺ من يُقلِّد الكفارَ في كل شيءٍ، وقد قال ﷺ: «ليأتينَّ على أُمتي ما أتى على بني إسرائيل حَذْوَ النَّعل بالنعل، حتى إن كان منهم مَن أَتَى أُمَّه علانيةً، لكان في أُمتي مَن يصنع ذلك»[2]، والمراد من ذلك بيان شِدَّة موافقتهم في المعاصي والمخالَفات [3] ، وإخبارُ النبيِّ ﷺ بذلك ليس إقرارًا منه، بل إنَّه ﷺ حذَّر من اتباعهم وأمر في أحاديث كثيرة بمخالفتهم[4]

3. ثُمَّ شبَّه النبيُّ ﷺ ذلك التقليد والاتباع بالأمم السابقة بأنه لوْ دخَل أحدُهم جُحْر الضَّبِّ – وهو حيوانٌ معروفٌ يُشبه الوَرَل[5] – لاتَّبعه كثيرٌ من المسلمين. وإنَّما اختار جُحرَ الضَّبِّ لضِيقِه وخُبثِ رائحته، يريد أنَّهم لو دخلوا مكانًا ضيِّقًا مؤذيًا خبيث الرائحة لاتَّبعتُموه، وذلك حاصلٌ في اتباعهم في المعاصي والخبائث والفواحش التي يأنفُ منها الطَّبْعُ السَّليم[6]

4. فتَساءل الصحابةُ: أتقصدُ اليهودَ والنصارى يا رسولَ الله؟ وهو استفهامٌ يفيد التعجُّب والاستنكار؛ استَعظَم الصحابةُ أن يُقلِّدَ بعضُ هذه الأُمَّة اليهودَ والنصارى على ما هم عليه من الضَّلال، وبعدما مَنَّ اللهُ علينا بالهدى والتوحيد. فأجاب ﷺ بالإثبات؛ إذ لو لم يكُونوا اليهودَ والنصارى فمَن غيرهم.

وهذا الإخبارُ منه ﷺ عامٌّ مخصوصٌ؛ فإنه ليس كلُّ المسلمين يتَّبِعون مَن كان قبلَهم، ففيهم المتمسِّكون، والعلماءُ، وأهل الدِّين والتقوى؛ وإنما المراد: يكون فيكم اتِّباع لِمَن كان قبلَكم[7]

اتباع

1- (1) خاطب النبيُّ ﷺ أصحابه فقال: (لتتبعنّ سنن من قبلكم) مع أن الصحابة كانوا أبعد الناس عن اتباع من قبلهم من يهود ونصارى، وظهر ذلك أكثر فيمن بعدهم شيئًا فشيئًا، ولكنه دليل على وحدة الأمة، وأنه يطلب منها التعاون على إصابة الحق.

2- (1) (2) استخدم النبيُّ ﷺ التشبيهات والصور البيانية التي تُقرِّب المعاني وتؤكِّدها بألطف أسلوب. فينبغي على الدُّعاة والعلماء استعمال تلك الصُّور البديعة التي تأسر العقول وتخطف القلوب.

3- (1) تَرَفَّع النبيُّ ﷺ عن ذكر أسماء الكفار والفُسَّاق، واكتفى بالإشارة إليهم بقوله: «مَن كان قبلكم»، فيُستحَب عدم ذكر أسمائهم إلا لحاجةٍ؛ كأن يُذكَر من قصصهم وأخبارهم ما يتَّعظ به السامع.

4- (1) على الإنسانِ أن يَحذَر مِن اتباع غير المسلمين فيما اختُصُّوا به من شؤون حياتهم من مأكل ومَلْبَس ونحو ذلك، فضلًا عن العبادات والطقوس والعادات الدينية، بل يخالفهم ما استطاع.

5- (1) اطمئن بمثل هذا الحديث فإنه يقوِّي قلب المؤمن، لما فيه من من دلائل نبوته ﷺ؛ فقد وقع ذلك بين المسلمين باتِّباع الكافرين في أمور دينهم ودُنياهم. وهذا مما يزيدنا إيمانًا باللهِ جل وعلا وبرسوله ﷺ.

6- (1) لقد حذَّر النبيُّ r من اتِّباع سَنَن من قبلنا، وفي التحذير من التقليد واتباع السَّنن تكثيرٌ للطائفة الظاهرة المنصورة، وتثبيتٌ لها، وتقويةٌ لإيمانها؛ ففي أيِّ الطائفتين تريد أن تكون؟!

7- (1) في الحديث إشارةٌ إلى بلاء التقليد، وسوء مغبَّته، وكم جرَّ التقليد على المسلمين من بلاءات ووَيْلات وَنَكَبات، وضياع هُوِيَّة الأجيال، وذَوَبانهم في هُوِيَّات الضلال والانحلال!

8- (2) دلَّ تشبيه الاتِّباع بدخول جُحر الضبِّ أنَّ مِن أفعالهم ما تُنكره الفِطرة ويأباه العقلُ، ومع ذلك يُقلِّدهم أُناس من المسلمين. فالحمدُ لله على نعمة العقل والإيمان.

9- (2) دلَّ الكتاب والسُّنَّة على أنه لا يزال في هذه الأمة طائفة متمسِّكة بالحقِّ إلى قيام الساعة[8]، وأنَّ الله لا يزال يَغرِس في هذا الدين غَرْسًا يستعملهم فيه بطاعته[9]، وأنهم لا يجتمعون على ضَلالة [10]، فينبغي للمسلم أن يحرص أن يكون منهم.

10.(3) استنكر الصحابةُ رضوان الله عليهم من تقليد اليهود والنصارى واتِّباعهم، وقد اتضح الدليلُ على ضلالِهم وغيِّهم. فلا شكَّ أنَّ المُقَلِّدَ لهم أجهلُ منهم وأضل؛ لأنه اتبع أهل الضلال والغواية، بعدما تبين له الحقُّ والهداية.

11- قال الشاعر:

وَمَنْ يَبْتَغِ الْإِسْلَامَ دِينًا يَكُنْ لَهُ = نَصِيبٌ مِنَ الدَّارَيْنِ يَبْقَى وَلَا يَفْنَى

وَمَنْ يَبْتَغِ الأهواءَ فاعجبْ لحالِه = فَقَدْ خَسِرَتْ يُمْنَاهُ إِنْ طَفَّفَ الْوَزْنَا

لَنَا سُنةٌ نُحْيِي ذُرَاهَا وَنَتَّقِي = حِمَاهَا وندري أنَّ في ظِلَّها الحُسنى


المراجع

  1.  انظر: "فيض القدير" للمناوي (5/ 261)، "تحفة الأحوذي" للمباركفوري (6/ 340).
  2.  رواه الترمذي (2641).
  3.  انظر: "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيِّ (16/ 43)، "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (5/ 421).
  4. انظر: "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 494)، وكتاب السنن والآثار في النهي عن التشبه بالكفار، لسهيل حسن عبدالغفار.
  5.  انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميريِّ (2/ 107).
  6. انظر: "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيِّ (16/ 44)، "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلاني (5/ 422).
  7.  انظر: "القول المفيد على كتاب التوحيد" (1/ 464).
  8.  رواه مسلم (4988): عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ».
  9.  روى أحمد (17787)، والبخاريُّ في "التاريخ الكبير" (9/61)، وحسَّنه الألبانيُّ في صحيح الجامع (7692): عن أبي عِنَبةَ الخَوْلانِّي قال: سمعتُ النبيَّ  ﷺ يقول: «لا يزال الله يغرس في هذا الدِّينِ غَرْسًا يَسْتَعْمِلُهُمْ فِيهِ بِطَاعَتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
  10.  روى أحمد في "المسند" (27224)، والترمذيُّ (2167)، وصحَّحه الألباتيُّ دون «ومن شذ»: عن ابن عمرَ أن رسول الله  ﷺقال: «إن الله لا يجمع أمتي - أو قال: أمة محمد ﷺ- على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ إلى النار».


مشاريع الأحاديث الكلية