عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ: إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ»[1].

عناصر الشرح

غريب الحديث:

الحياء: هو انقباضُ النَّفْسِ مِن شيءٍ، وتَرْكُه حَذَرًا عن اللَّوْمِ فيه[1]. وقيل: هو "تغيُّر وانكسار يعتري الإنسانَ مِن خوف ما يُعَاب به ويُذَمُّ، ومَحَلُّه الوَجْهُ"[2].

المراجع

  1. "التعريفات" للجُرْجانيِّ (ص 94). 
  2. "التبيان في تفسير غريب القرآن" لابن الهائم (ص 61).

 

المعنى الإجماليُّ للحديث:

يروي أبو مَسْعُودٍ البدريُّ، عن النَّبِيِّ ﷺ أنه قال: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ»؛ أي: بَلغَهم وعَلِموه. «مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ»؛ أي: من حِكَم الأنبياء وشرائعهم التي لم تُنسَخ؛ لاتِّفاق العقول عليها. لذا؛ كان مما اتَّفَق عليه الأنبياءُ جميعُهم، ودَعَوْا إليه. «إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ»؛ أي: إذا لم يكن لَدَيْكَ حياءٌ يَمنَعُكَ من فِعل القبيح. «فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ»؛ أي: افعلْ ما بَدَا لك؛ فإنَّ الله تعالى سيُجازيكَ عليه.

الشرح المفصَّل للحديث:

   إن الحياءَ هو رأسُ الفضائلِ والشِّيم والأخلاق، وهو عِمادُ شُعَب الإيمان، وبه يتمُّ الدين، وهو دليلُ الإيمان، ورائدُ الإنسان إلى الخير والهدى، وإن الحياء خُلُقٌ يَبعَث صاحبَه على اجتناب القَبِيح، ويَمنَع من التقصير في حقِّ ذي الحقِّ.

والحياءُ خُلُق جميل يدعو إلى التحلِّي بالفضائل، والبُعد عن الرذائل.

والحياءُ من الحياة، ومنه الحيا للمطر، وقِلَّةُ الحياءِ من موت القلب والرُّوح، وكلَّما كان القلبُ أحْيا، كان الحياءُ أَتَمَّ.

والحياء: هو انقباض النَّفس مِن شيءٍ، وتَرْكُه حَذَرًا عن اللَّوْمِ فيه[1].

وقيل: هو "تغيُّر وانكسار يعتري الإنسانَ مِن خوف ما يُعَاب به ويُذَمُّ، ومَحَلُّه الوَجْهُ"[2]. 

والحياءُ يَعصِم المرءَ من المعاصي والمنكَرات، ويَحمِله على الاستقامة والطاعة، وبدون الحياء يَغرَق الناسُ في أوحال المعاصي والمنكَرات.

يقول النبيُّ ﷺ:

«إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى»

"يُشير إلى أنّ هذا مأثور عن الأنبياء المتقدِّمين، وأنّ النّاس تداولوه بينهم، وتوارثوه عنهم قَرْنًا بعد قرن، وهذا يدلُّ على أنّ النّبوَّات المتقدِّمة جاءت بهذا الكلام، وأنّه اشتَهَر بين النّاس حتّى وصل إلى أوّل هذه الأمَّة"[3].

و"معنى قوله: «النُّبوَّة الأولى» أن الحياء لم يَزَل أمرُه ثابتًا، واستعمالُه واجبًا منذ زمان النُّبوَّة الأولى، وأنه ما مِن نبيٍّ إلَّا وقد نَدَب إلى الحياء وبُعِث عليه، وأنَّه لم يُنسَخ فيما نُسِخ مِن شرائعهم، ولم يُبَدَّل فيما بُدِّل منها؛ وذلك أنه أمرٌ قد عُلم صوابُه، وبان فضله، واتَّفَقت العقول على حُسنه، وما كان هذا صفتَه، لم يَجُزْ عليه النَّسخ والتبديل"[4].

قوله: «إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ»؛ أي: إذا لم يكن لَدَيْكَ حياءٌ يَمنَعُكَ من فِعل القبيح، «فَاصنعْ مَا شِئْتَ»؛ أي: افعلْ ما بَدَا لك؛ فإنَّ الله تعالى سيُجازيكَ عليه.

وقيل: إن المعنى: إذا كان ما تَفعَلُه ليس مما يُستحيا منه، فافعلْ ما شئتَ؛ أي: لك أن تفعل ما لا يُعاب عليه أو يُذَمُّ.

"وَقَوْلُهُ: «إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» في معناه قولان؛ أحدهما: أنّه ليس بمعنى الأمر أن يَصنَع ما شاء؛ ولكنّه على معنى الذّمِّ والنّهي عنه، وأهلُ هذه المقالة لهم طريقان؛ أحدهما: أنّه أمر بمعنى التّهديد والوعيد، والمعنى: إذا لم يكن حياء، فاعمل ما شئت، فاللّه يجازيك عليه

كقوله:

{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ۖ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}

[فصلت: 40]

والطّريق الثّاني: أنّه أمر، ومعناه الخبر، والمعنى: أنّ من لم يستحيِ، صنع ما شاء، فإنّ المانع من فِعل القبائح هو الحياء، فمن لم يكن له حياءٌ، انهمك في كلِّ فحشاء ومنكَر، وما يمتنع من مثله من له حياء

على حدِّ قوله ﷺ:

«من كذب عليّ فليتبوّأ مقعده من النّار»[5]

فإنّ لفظه لفظ الأمر، ومعناه الخبر، وأنّ من كذب عليه تبوَّأ مقعده من النّار"[6].

"وقوله: «فافعل ما شئت» فيه ثلاثةُ أقوال؛ أحدُها: أن يكون معناه الخبرَ وإن كان لفظُه لفظَ الأمر؛ كأنه يقول: إذا لم يَمْنَعْكَ الحياءُ فَعَلْتَ ما شئتَ؛ أي: ما تدعوك إليه نفسُك من القبيح. والثاني: معناه الوعيدُ

كقوله تعالى:

{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}

[فصلت: 40]

والثالث: معناه أن يَنظُر، فإذا كان الشيءُ الذي يريد أن يَفعَله مما لا يُستحى منه، فليفْعَلْه، وإن كان مما يُستحى منه، فلا يَفعَله"[7].

هذا، وقد ذكر النبيُّ ﷺ الحياءَ في أحاديثَ كثيرةٍ، تدلُّ على مكانته بين المكارم والشِّيم؛ منها:

قال النبيُّ ﷺ:

«الْحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ»[8].

وفي حديثٍ آخَرَ: «الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ» أَوْ قَالَ: «الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ»[9].

وحياءُ المؤمن يدلُّ على كمال إيمانه، وحُسْن أَدَبه، ونقاء سَرِيرته

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﷺ قَالَ:

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ - أَوْ: بِضْعٌ وَسِتُّونَ - شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ»[10].

وقد مَرَّ النبيُّ ﷺ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاء، فَقَالَ له: «دَعْهُ؛ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ»[11].

"ثمَّ تَأمَّلْ هَذَا الْخُلق الَّذِي خُصَّ به الإنسانُ دون جَمِيع الْحَيَوَان، وهو خُلق الْحيَاء، الذي هو من أفضل الأخلاق وأجلِّها وأعظمها قدرًا، وأكثرها نفعًا؛ بل هو خَاصَّةُ الإنسانية، فمن لا حَيَاءَ فيه، لَيْسَ مَعَه من الإنسانية إلا اللَّحْم وَالدَّم، وصورتهم الظاهرة، كما أنه ليس معه من الخير شيء، ولولا هذا الخُلقُ، لم يُقْرَ الضَّيْف، وَلم يُوفَ بالوعد، وَلم يؤدَّ أمانة، وَلم يُقْضَ لأحَدٍ حاجة، ولا تحرَّى الرجلُ الْجَمِيل، فآثَرَه، والقبيحَ، فتجنَّبه، ولا ستر له عورة، ولا امتنع من فاحشة، وَكثيرٌ من الناس لولا الحياءُ الذي فيه، لم يؤدِّ شَيْئًا من الأمور المفترَضة عليه، ولم يَرْعَ لمخلوق حَقًّا، ولم يصل له رَحِمًا، ولا برَّ له والدًا؛ فإن الباعث على هذه الأفعال، إِمَّا دينيٌّ، وهو رَجَاء عاقبتها الحميدة، وإِمَّا دُنْيَوِيٌّ عُلويٌّ، وهو حياء فاعلها من الْخَلق، وقد تبيَّن أنه لولا الحياءُ، إِمَّا من الخالق أو من الخلائق، لم يفعلها صاحبها"[12].

"والحياءُ نوعان؛ أحدهما: غَريزيٌّ، وهو خُلُقٌ يمنحُه الله العبدَ ويجبُلُه عليه، فيكُفُّه عن ارتكاب القبائح والرذائل، ويحثُّه على فعل الجميل، وهو من أعلى مواهب الله للعبد، فهذا من الإيمان باعتبار أنه يؤثِّر ما يؤثِّره الإيمان من فعل الجميل، والكَفِّ عن القبيح، وربما ارتقى صاحبُه بعده إلى درجة الإيمان... والنوع الثاني: أن يكون مُكتَسَبًا، إما من مقام الإيمان؛ كحياء العبد من مقامه بين يدَيِ الله يوم القيامة، فيوجِب له ذلك الاستعدادَ للقائه، أو من مقام الإحسان؛ كحياء العبد من اطِّلاع الله عليه وقُربه منه؛ فهذا من أعلى خصال الإيمان[13].

ويكفي الحياءَ شرفًا أنه من صفات الله تعالى

قال النبيُّ ﷺ:

«إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَرْفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ، فَيَرُدَّهُمَا صِفْرًا – أَوْ قال: خَائِبَتَيْنِ»[14].

"وأمَّا حياءُ الربِّ تعالى من عبده، فنوعٌ آخَر، لا تُدركه الأفهام، ولا تُكيِّفه العقول؛ فإنه حياءُ كرمٍ وبِرٍّ وجودٍ، فإنه تبارك وتعالى حيِيٌّ كريم يَستَحيي من عبده إذا رَفَع إليه يديه أن يَرُدَّهما صِفرًا، ويستحيي أن يُعذِّب ذا شَيْبةٍ شابت في الإسلام، وكان يحيى بنُ معاذ يقول: سبحان من يُذنب عبدُه ويستحيي هو. وفي أثر: من استحيا من الله استحيا الله منه"[15].

والحياءُ من خُلق النبيِّ ﷺ وصفاته

فقد وَصَفه أبو سعيدٍ الخُدريُّ - رضي الله عنه - بقوله:

«كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ»[16]. 

والحياءُ من خُلُقِ الملائكة والأنبياء

قال النبيُّ ﷺ في عثمانَ - رضي الله عنه -:

«أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلاَئِكَةُ؟!»[17].

وقال النبيُّ ﷺ:

«إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلاً حَيِيًّا سِتِّيرًا، لاَ يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ؛ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ»[18].

"وأول الحياء وأوْلاه: الحياءُ من الله تعالى، وهو ألَّا يراك حيث نهاك، وذلك لا يكون إلا عن معرفة بالله تعالى كاملة، ومُراقبة له حاصلة، وهي المعبَّر عنها بقوله: «أن تعبُدَ اللهَ كأنك تراه؛ فإن لم تكُنْ تراه فإنه يراكَ»[19]"[20]. 

وهو ما أراده النبيُّ ﷺ بجعله من شُعَب الإيمان

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ:

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ». قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: «لَيْسَ ذَاكَ؛ وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرِ المَوْتَ وَالبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ»[21].

ومن أعظم فضائل الحياء أنه يُفضي إلى جنةٍ عَرْضُها السماوات والأرض

قال النبيُّ ﷺ:

«الْحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ، وَالإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَالْبَذَاءُ مِنَ الْجَفَاءِ، وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ»[22]

وأخيرًا: إن الحياء زينةُ الأخلاق

قال النبيُّ ﷺ:

«مَا كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَيْءٍ إِلَّا شَانَه»[23].

المراجع

  1. "التعريفات" للجُرْجانيِّ (ص 94).
  2. "التبيان في تفسير غريب القرآن" لابن الهائم (ص 61).
  3. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 497).
  4. "معالم السنن" للخطابيِّ (4/ 109، 110).
  5. رواه البخاريّ (1291)، ومسلم (3).
  6. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 497، 498).
  7. "معالم السنن" للخطابيِّ (4/ 109، 110).
  8. رواه البخاريُّ (6117)، ومسلم (37).
  9. رواه مسلم (61).
  10. رواه البخاريُّ (9)، ومسلم (35).
  11. رواه البخاريُّ (6118).
  12. "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/ 277).
  13. انظر: "فتح الباري" لابن رجب (1/ 102).
  14. رواه ابن ماجه (3865)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الجامع" (2070).
  15. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 261).
  16. رواه البخاريُّ (3562)، ومسلم (67).
  17. رواه مسلم (36).
  18. رواه البخاريُّ (3404).
  19. رواه البخاريُّ (50)، ومسلم (8).
  20. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/135).
  21. رواه الترمذيُّ (2458)، وحسَّنه النوويُّ في "خلاصة الأحكام" (2/ 894)، والألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2/ 319).
  22. رواه أحمد (10512)، والترمذيُّ (2009)، وابن ماجه (4184)، وقال الترمذيُّ: هذا حديث حسن صحيح، وقال الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2628): حسن صحيح.
  23. رواه الترمذيُّ (1974)، والبخاريُّ في الأدب المفرد (601)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الأدب المفرد".


النقول:

قال الخطابيُّ رحمه الله: "قال الشَّيخ: معنى قوله: «النُّبوَّة الأولى» أنَّ الحَيَاء لم يَزَل أمرُه ثابتًا، واستعمالُه واجبًا منذ زمان النُّبوَّة الأولى، وأنه ما مِن نبيٍّ إلَّا وقد نَدَب إلى الحَيَاء وبُعِث عليه، وأنَّه لم يُنسَخ فيما نُسِخ مِن شرائعهم، ولم يُبَدَّل فيما بُدِّل منها؛ وذلك أنه أمر قد عُلم صوابُه، وبان فضله، واتَّفَقت العقول على حُسنه، وما كان هذا صفتَه، لم يَجُزْ عليه النَّسخ والتبديل. وقوله: «فافعل ما شئت» فيه ثلاثةُ أقوال؛ أحدُها: أن يكون معناه الخبرَ وإن كان لفظُه لفظَ الأمر؛ كأنه يقول: إذا لم يَمْنَعْكَ الحياءُ فَعَلْتَ ما شئتَ؛ أي: ما تدعوك إليه نفسُك من القبيح. وإلى نحوٍ من هذا ذَهَب أبو عُبيد القاسمُ بنُ سلام - رحمة الله عليه - وقال أبو العبَّاس أحمدُ بنُ يحيى: معناه الوعيدُ

كقوله تعالى:

{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ۖ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}

[فصلت: 40]

وقال أبو إسحاقَ المروزيُّ فقيهُ الشافعية: معناه أن يَنظُر فإذا كان الشيءُ الذي يريد أن يَفعَله مما لا يُستحى منه، فافْعَلْه، يُريد أن ما يُستحى منه، فلا يَفعَله"[1].

قال ابن رجب رحمه الله: "فَقَوْلُهُ ﷺ: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى» يُشير إلى أنّ هذا مأثور عن الأنبياء المتقدِّمين، وأنّ النّاس تداولوه بينهم، وتوارثوه عنهم قَرْنًا بعد قرن، وهذا يدلُّ على أنّ النّبوَّات المتقدِّمة جاءت بهذا الكلام، وأنّه اشتَهَر بين النّاس حتّى وصل إلى أوّل هذه الأمَّة"[2].

قال ابن حجر رحمه الله: "الحَياءُ: خُلُقٌ يَبعَث صاحبَه على اجتناب القَبِيح، ويَمنَع مِن التقصير في حقِّ ذي الحقِّ"[3].

قال ابن رجب رحمه الله: "وَقَوْلُهُ: «إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» في معناه قولان؛ أحدهما: أنّه ليس بمعنى الأمر أن يَصنَع ما شاء؛ ولكنّه على معنى الذّمِّ والنّهي عنه، وأهلُ هذه المقالة لهم طريقان؛ أحدهما: أنّه أمر بمعنى التّهديد والوعيد، والمعنى: إذا لم يكن حياء، فاعمل ما شئت، فاللّه يجازيك عليه

كقوله:

{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ۖ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}

[فصلت: 40]

والطّريق الثّاني: أنّه أمر، ومعناه الخبر، والمعنى: أنّ من لم يستحيِ، صنع ما شاء، فإنّ المانع من فِعل القبائح هو الحياء، فمن لم يكن له حياءٌ، انهمك في كلِّ فحشاءَ ومنكَر، وما يمتنع من مثله من له حياء

على حدِّ قوله ﷺ:

«من كذب عليّ فليتبوّأ مقعده من النّار»[4]

فإنّ لفظه لفظ الأمر، ومعناه الخبر، وأنّ من كذب عليه تبوَّأ مقعده من النّار"[5]. 

قال ابن القيِّم رحمه الله: "ثمَّ تَأمَّلْ هَذَا الْخُلق الَّذِي خُصَّ به الإنسانُ دون جَمِيع الْحَيَوَان، وهو خُلق الْحيَاء، الذي هو من أفضل الأخلاق وأجلِّها وأعظمها قدرًا، وأكثرها نفعًا؛ بل هو خَاصَّةُ الإنسانية، فمن لا حَيَاءَ فيه، لَيْسَ مَعَه من الإنسانية إلا اللَّحْم وَالدَّم، وصورتهم الظاهرة، كما أنه ليس معه من الخير شيء، ولولا هذا الخُلقُ، لم يُقْرَ الضَّيْف، وَلم يُوفَ بالوعد، وَلم يؤدَّ أمانة، وَلم يُقْضَ لأحَدٍ حاجة، ولا تحرَّى الرجلُ الْجَمِيل، فآثَرَه، والقبيحَ، فتجنَّبه، ولا ستر له عورة، ولا امتنع من فاحشة، وَكثيرٌ من الناس لولا الحياءُ الذي فيه، لم يؤدِّ شَيْئًا من الأمور المفترَضة عليه، ولم يَرْعَ لمخلوق حَقًّا، ولم يصل له رَحِمًا، ولا برَّ له والدًا؛ فإن الباعث على هذه الأفعال، إِمَّا دينيٌّ، وهو رَجَاء عاقبتها الحميدة، وإِمَّا دُنْيَوِيٌّ عُلويٌّ، وهو حياء فاعلها من الْخَلق، وقد تبيَّن أنه لولا الحياءُ، إِمَّا من الخالق أو من الخلائق، لم يفعلها صاحبها"[6].

قال ابن رجب رحمه الله: "والحياءُ نوعان؛ أحدهما: غَريزيٌّ، وهو خُلُقٌ يمنحُه الله العبدَ ويجبُلُه عليه، فيكُفُّه عن ارتكاب القبائح والرذائل، ويحثُّه على فعل الجميل، وهو من أعلى مواهب الله للعبد، فهذا من الإيمان باعتبار أنه يؤثِّر ما يؤثِّره الإيمان من فعل الجميل، والكَفِّ عن القبيح، وربما ارتقى صاحبُه بعده إلى درجة الإيمان... والنوع الثاني: أن يكون مُكتَسَبًا، إما من مقام الإيمان؛ كحياء العبد من مقامه بين يدَيِ الله يوم القيامة، فيوجِب له ذلك الاستعدادَ للقائه، أو من مقام الإحسان؛ كحياء العبد من اطِّلاع الله عليه وقُربه منه؛ فهذا من أعلى خصال الإيمان[7].

قال ابن القيِّم رحمه الله: "وأمَّا حياءُ الربِّ تعالى من عبده، فنوعٌ آخَر، لا تُدركه الأفهام، ولا تُكيِّفه العقول؛ فإنه حياءُ كرمٍ وبِرٍّ وجودٍ، فإنه تبارك وتعالى حيِيٌّ كريم يَستَحيي من عبده إذا رَفَع إليه يديه أن يَرُدَّهما صِفرًا، ويستحيي أن يُعذِّب ذا شَيْبةٍ شابت في الإسلام، وكان يحيى بنُ معاذ يقول: سبحان من يُذنب عبدُه ويستحيي هو. وفي أثر: من استحيا من الله استحيا الله منه"[8].

قال أبو العبَّاس القرطبيُّ رحمه الله: "وأول الحياء وأوْلاه: الحياءُ من الله تعالى، وهو ألَّا يراك حيث نهاك، وذلك لا يكون إلا عن معرفة بالله تعالى كاملة، ومُراقبة له حاصلة، وهي المعبَّر عنها بقوله: «أن تعبُدَ اللهَ كأنك تراه؛ فإن لم تكُنْ تراه فإنه يراكَ»[9]"[10].

المراجع

  1. "معالم السنن" للخطابيِّ (4/ 109، 110).
  2. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 497).
  3. "فتح الباري" لابن حجر (1/ 52).
  4. رواه البخاريّ (1291)، ومسلم (3).
  5. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 497، 498).
  6. "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/ 277).
  7. انظر: "فتح الباري" لابن رجب (1/ 102).
  8. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 261).
  9. رواه البخاريُّ (50)، ومسلم (8).
  10. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/135).


مشاريع الأحاديث الكلية