97 - حسنُ الكلامِ والمُعاملة

عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الكَعْبيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ» قَالَ: وَمَا جَائِزَتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَالضِّيَافَةُ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ».

عناصر الشرح

غريب الحديث:

ضَيْفَهُ: يقال: ضِفْتُ فلانًا: إذا مِلْتُ إليه ونَزَلت به، وأَضَفْتُه فأنا أُضيفه: إذا أملتَه إليكَ وأنزلتَه عليك؛ ولذلك قيل: هو مضافٌ إلى كذا وكذا؛ أي: هو مُمَالٌ إليه[1].

جَائِزَتَهُ: قيل: ما يَجُوز به ويَكْفِيه في سَفَره يومًا وليلةً بعد ضِيافته، والجائزةُ: العَطِيَّة، وجمعُها جوائزُ، وقيل: حقُّه إذا اجتاز به، وثلاثةَ أيام إذا قَصَد، وقيل: جائزتُه تُحْفَتُه والمبالغةُ في مُكارَمَته، وباقي الثلاثةِ الأيامِ ما حَضَره[2]. 

لِيَصْمُتْ: الصَّمت: معروفٌ، صَمَت يَصمُت صمتًا إذا سَكَت، وأُصمِته أنا إصماتًا إذا أسكَتُّه، ويقال: أَخَذه الصُّمات إذا سكت فلم يتكلَّم[3].


المراجع

  1. "غريب الحديث" للقاسم بن سلَّام (1/ 18).
  2. "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" للقاضي عياض (1/ 164).
  3. "جمهرة اللغة" لأبي بكر الأزديِّ (1/ 400).


المعنى الإجماليُّ للحديث:

يروي أبو شُرَيْحٍ الكَعْبيُّ ، عن النَّبِيِّ ﷺ أنه قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ»؛ أي: من كان يؤمن بالله إيمانًا حقًّا، فليُحسِن إلى جاره، ويتعاهَدْه بالبِرِّ والإكرام، ولا يتعمَّد إيذاءه. «وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ»: قَالَ: وَمَا جَائِزَتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَالضِّيَافَةُ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ»؛ أي: ومن كمال إيمان المؤمن إكرامُ الضيف يومًا وليلة، وهي جائزة الْمُضِيف للضَّيف، وكمالُ الضيافة ثلاثة أيام، وما بعدَ الثلاثة الأيام فهو صَدَقةٌ من الْمُضيف على ضَيفه. «وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»؛ أي: ومن كمال إيمان المؤمن أنه إذا أراد أن يتكلَّم، فلينظر إن كان كلامه خيرًا يُثاب عليه، فلْيَقُلْه، وإلَّا فلْيَصْمُت.

الشرح المفصَّل للحديث:

الإيمانُ يَزيد ويَنقُص، يَزيد بالطاعة ويَنقُص بالمعصية

قال تعالى:

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}

[الأنفال: 2]

وقال تعالى:

{وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا}

[المدثر: ٣١]

لذا؛ حَرَص الشارع الحكيم على توجيه المسلمين إلى فعل الطاعات التي تكون سببًا في زيادة إيمانهم، والبُعد عن المعاصي والسيِّئات التي تكون سببًا في نقصان إيمانهم.

وفي الحديث يُرشد النبيُّ ﷺ إلى بعض خصال الخير، التي تَزيد من إيمان العبد، وتَرفع درجته، ويَكمُل بها إيمانه، ويَستقيم بها حاله، وهي من جملة الآداب والأخلاق الإسلامية، أوَّلُها: الإحسان إلى الجار وإكرامُه، فقال ﷺ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ»؛ أي: من كان يؤمن بالله حقًّا، فليُحسِن إلى جاره، ويتعاهَدْه بالبِرِّ والإكرام، ولا يتعمَّد إيذاءه؛ ولهذا أقسم النبيُّ ﷺ ثلاثًا على عدم كمال إيمان من يُؤذي جاره

عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:

«وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ» قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الَّذِي لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ»[1].

وأنه لا يدخل الجنَّة

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ:

«لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»[2]

فـ"حِفْظُ الجار من كمال الإيمان، وكان أهل الجاهلية يحافظون عليه، ويَحصُل امتثال الوصيَّة به بإيصال ضُروب الإحسان إليه بحسَب الطاقة؛ كالهدية والسلام وطلاقة الوجه عند لقائه، وتفقُّد حاله، ومعاونته فيما يحتاج إليه، إلى غير ذلك، وكفِّ أسباب الأذى عنه على اختلاف أنواعه، حسِّيةً كانت أو معنويةً"[3]، وليس المقصود نفيَ الإيمان عمَّن لم يتَّصِف بالصفات الثلاث المذكورة في الحديث؛ وإنما ذلك من باب التشجيع والترغيب والحثِّ على فِعلها والتخلُّق بها.

و"ظاهر الحديث انتفاء الإيمان عمن لم يتَّصِف بما ذُكر، وليس مرادًا؛ بل أُريد به المبالغة، كما يقول القائل: إن كنتَ ابني فأَطِعْني؛ تهييجًا له على الطاعة، لا أنه بانتفاء طاعته ينتفي كونُه ابنَه"[4].

وثانيها: إكرام الضيف والإحسان إليه

فقال ﷺ:

«وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ»: قَالَ: وَمَا جَائِزَتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَالضِّيَافَةُ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ»

أي: من كمال إيمان المؤمن إكرامُ الضيف يومًا وليلة، وهي جائزة الضَّيف، وهديَّة الْمُضيف وعطيَّته له، وكمال الضيافة ثلاثة أيام، وما بعد ذلك فضلٌ وإحسان، وليس بواجب عليه، فما زاد على ذلك فهو صَدَقة من الْمُضيف على ضَيفه، والقيامُ بحقِّ الضيافة خُلق من أخلاق المسلمين، ينبغي للمسلم أن لا يَعدِل عنه؛ لِما فيه من ثواب عظيم، وقيام بحقِّ المسافر، وتخفيفِ بعضٍ من الْمَشاقِّ التي تقابله، "وقد أفاد هذا الحديث أنَّها من أخلاق المؤمنين، ومما لا ينبغي لهم أن يتخلَّفوا عنها؛ لِمَا يَحصُل عليها من الثواب في الآخرة، ولِمَا يترتَّب عليها في الدنيا من إظهار العمل بمكارم الأخلاق، وحُسن الأحدوثة الطيِّبة، وطِيب الثناء، وحصول الرَّاحة للضَّيف المتعوب بمشقَّات السَّفر، المحتاج إلى ما يخفِّف عليه ما هو فيه من المشقَّة، والحاجة، ولم تزل الضيافة معمولًا بها في العرب من لَدُنْ إبراهيمَ ﷺ؛ لأنَّه أول من ضَيَّف الضَّيف، وعادة مستمِرَّة فيهم، حتى إنَّ من تركها يُذَمُّ عُرْفًا، ويُبَخَّلُ ويُقَبَّحُ عليه عادة، فنحن وإن لَمْ نقل: إنَّها واجبة شرعًا، فهي متعيِّنة لِمَا يحصل منها من المصالح، ويندفع بها من الْمَضَارِّ عادَةً وعُرفًا"[5]، وثالثها: التكلُّم بطِيب الأقوال، أو السُّكوت عما لا فائدةَ تُرجى منه

فقال ﷺ:

«وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»

أي: من أراد أن يتكلَّم، فلينظر في كلامه، إن كان فيه خيرٌ يُثاب عليه، أجراه، وإن كان فيه ضررٌ على نفسه أو غيره، أو كان يَحتمِل الأمرين، سَكَت عنه. فـ"معناه أنه إذا أراد أن يتكلَّم، فإن كان ما يتكلَّم به خيرًا محقَّقًا، يُثاب عليه، واجبًا أو مندوبًا، فليتكلَّم، وإن لم يَظهَر له أنه خيرٌ يُثاب عليه، فليُمسِكْ عن الكلام، سواءٌ ظَهَر له أنه حرامٌ أو مكروه، أو مباحٌ مستوي الطَّرفينِ، فعلى هذا يكون الكلام المباح مأمورًا بتركه، مندوبًا إلى الإمساك عنه؛ مخافةً من انجراره إلى المحرَّم أو المكروه، وهذا يقع في العادة كثيرًا أو غالبًا

وقد قال الله تعالى:

{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}

[ق: 18]"[6]

فالسكوت غنيمةٌ إذا كان الكلام مُفْضِيًا إلى معصية أو إثم محقَّق، فلربما كلمة ارتقت بصاحبها في درجات الجنة، وأخرى أَوْدَت بصاحبها إلى دركات النار

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:

«إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ»[7]

فالصمتُ نجاةٌ للعبد من المهالك

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، قَالَ:

قَالَ رَسُولُ ﷺ: «مَنْ صَمَتَ نَجَا»[8]

والواجب على المسلم أن يعمِّر وقته وحياته في الطاعات، ولا ينشغِل بغير ذكر الله - عزَّ وجلَّ - حتى لا يتحسَّر على ما فاته يومَ القيامة، "قال بعض السَّلَف: يُعرَض على ابن آدم يومَ القيامة ساعاتُ عُمُره، فكلُّ ساعة لم يَذكُر الله فيها، تتقطَّع نفسُه عليها حسرات، فمن هنا يُعلَم أن ما ليس بخير من الكلام، فالسكوتُ عنه أفضلُ من التكلُّم به، اللهمَّ إلَّا ما تدعو إليه الحاجة مما لابدَّ منه"[9].

هذا وإن "جِمَاع آداب الخير يتفرَّع من أربعة أحاديث:

قول النبيِّ ﷺ:

«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمُت»

وقوله ﷺ:

«من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»

وقوله ﷺ للذي اختصر له الوصية: «لا تغضب»

وقوله ﷺ:

«لا يؤمن أحدكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه»"[10].

وقد "اشتمل حديث الباب من الطريقين على أمور ثلاثة، تَجمَع مكارم الأخلاق الفعلية والقولية"، و"هذا الحديث من جوامع الكَلِم؛ لأن القول كلَّه إمَّا خيرٌ، وإما شرٌّ، وإمَّا آيِلٌ إلى أحدهما، فدَخَل في الخير كلُّ مطلوب من الأقوال، فرضِها ونَدْبِها، فأَذِن فيه على اختلاف أنواعه، ودَخَل فيه ما يؤول إليه، وما عدا ذلك مما هو شرٌّ أو يَؤُول إلى الشرِّ، فأمر عند إرادة الخوض فيه بالصمت"[11].

المراجع

  1. رواه البخاريُّ (6016).
  2. رواه مسلم (46).
  3. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (10/ 442).
  4. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (10/ 533).
  5. "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" للقرطبيِّ (5/ 197).
  6. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 19).
  7. رواه البخاريُّ (6478)، ومسلم (2988).
  8. رواه أحمد (6481) والترمذيُّ (2501)، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2874).
  9. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 338).
  10. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 19).
  11. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (10/ 446).


النقول:

قال أبو محمد بن أبي جمرة  رحمه الله: "حِفْظُ الجار من كمالِ الإيمان، وكان أهلُ الجاهلية يحافظون عليه، ويَحصُل امتثال الوصيَّة به بإيصال ضُروب الإحسان إليه بحسَبِ الطاقة؛ كالهَدِيَّة، والسلام، وطَلاقة الوجه عند لقائه، وتفقُّد حاله، ومعاونته فيما يحتاج إليه، إلى غير ذلك، وكفِّ أسباب الأذى عنه، على اختلاف أنواعه، حسيَّةً كانت أو معنوية"[1].

قال الطوفيُّ  رحمه الله: "ظاهر الحديث انتفاء الإيمان عمن لم يتَّصِف بما ذُكر، وليس مرادًا؛ بل أُريد به المبالغة، كما يقول القائل: إن كنتَ ابني فأَطِعْني؛ تهييجًا له على الطاعة، لا أنه بانتفاء طاعته ينتفي كونُه ابنَه"[2].

قال القرطبيُّ  رحمه الله: "وقد أفاد هذا الحديث أنَّها من أخلاق المؤمنين، ومما لا ينبغي لهم أن يتخلَّفوا عنها؛ لِمَا يَحصُل عليها من الثواب في الآخرة، ولِمَا يترتَّب عليها في الدنيا من إظهار العمل بمكارم الأخلاق، وحُسن الأحدوثة الطيِّبة، وطِيب الثناء، وحصول الرَّاحة للضَّيف المتعوب بمشقَّات السَّفر، المحتاج إلى ما يخفِّف عليه ما هو فيه من المشقَّة، والحاجة، ولم تزل الضيافة معمولًا بها في العرب من لَدُنْ إبراهيمَ ﷺ؛ لأنَّه أول من ضَيَّف الضَّيف، وعادة مستمِرَّة فيهم، حتى إنَّ من تركها يُذَمُّ عُرْفًا، ويُبَخَّلُ ويُقَبَّحُ عليه عادة، فنحن وإن لَمْ نقل: إنَّها واجبة شرعًا، فهي متعيِّنة لِمَا يحصل منها من المصالح، ويندفع بها من الْمَضَارِّ عادَةً وعُرفًا"[3].

قال النوويُّ  رحمه الله: "معناه أنه إذا أراد أن يتكلَّم، فإن كان ما يتكلَّم به خيرًا محقَّقًا، يُثاب عليه، واجبًا أو مندوبًا، فليتكلَّم، وإن لم يَظهَر له أنه خيرٌ يُثاب عليه، فليُمسِكْ عن الكلام، سواءٌ ظَهَر له أنه حرامٌ أو مكروه، أو مباحٌ مستوي الطَّرفينِ، فعلى هذا يكون الكلام المباح مأمورًا بتركه، مندوبًا إلى الإمساك عنه؛ مخافةً من انجراره إلى المحرَّم أو المكروه، وهذا يقع في العادة كثيرًا أو غالبًا

وقد قال الله تعالى:

{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}

[ق: 18]"[4]

قال ابن رجب  رحمه الله: "قال بعض السَّلَف: يُعرَض على ابن آدم يومَ القيامة ساعاتُ عُمُره، فكلُّ ساعة لم يَذكُر الله فيها، تتقطَّع نفسُه عليها حسرات، فمن هنا يُعلَم أن ما ليس بخير من الكلام، فالسكوتُ عنه أفضلُ من التكلُّم به، اللهمَّ إلَّا ما تدعو إليه الحاجة مما لابدَّ منه"[5].

قال عبد الله بن أبي زيد المغربيُّ  رحمه الله: "جِمَاعُ آداب الخير يتفرَّع من أربعة أحاديث:

قول النبيِّ ﷺ:

«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمُت»

وقوله ﷺ:

«من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»

وقوله ﷺ للذي اختصر له الوصية: «لا تغضب»

وقوله ﷺ:

«لا يؤمن أحدكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه»"[6].

قال ابن حجر  رحمه الله: "اشتمل حديث الباب من الطريقين على أمور ثلاثة، تَجمَع مكارم الأخلاق الفعلية والقولية... هذا الحديث من جوامع الكلم؛ لأن القول كلَّه إمَّا خيرٌ، وإما شرٌّ، وإمَّا آيِلٌ إلى أحدهما، فدَخَل في الخير كلُّ مطلوب من الأقوال، فرضِها ونَدْبِها، فأَذِن فيه على اختلاف أنواعه، ودَخَل فيه ما يؤول إليه، وما عدا ذلك مما هو شرٌّ أو يَؤُول إلى الشرِّ، فأمر عند إرادة الخوض فيه بالصمت"[7].

قال ابن حجر  رحمه الله: "واسم الجار يَشمَل المسلم والكافر، والعابد والفاسق، والصّديق والعدوَّ، والغريب والبلديَّ، والنّافع والضّارَّ، والقريب والأجنبيَّ، والأقربَ دارًا والأبعد، وله مراتبُ بعضها أعلى من بعض، فأعلاها من اجتمعت فيه الصّفات الأُوَل كلُّها، ثمّ أكثرها، وهلمَّ جرًّا، إلى الواحد، وعكسُه من اجتمعت فيه الصّفات الأخرى كذلك، فيُعطى كلٌّ حقَّه بحسَبِ حاله. وقد تتعارض صفتان فأكثرُ، فيرجِّح أو يساوي، وقد حمله عبد اللّه بن عمرو - أحد من روى الحديث - على العموم، فأَمَر لَمّا ذُبِحت له شاة أن يُهدى منها لجاره اليهوديِّ، أخرجه البخاريُّ في "الأدب المفرد"، والتّرمذيُّ وحسَّنه، وقد وردت الإشارة إلى ما ذكرتُه في حديث مرفوع أخرجه الطّبرانيُّ من حديث جابر رفعه: «الجيران ثلاثة: جار له حقٌّ، وهو المشرِك له حقُّ الجِوار، وجار له حقَّان، وهو المسلم له حقُّ الجوار وحقُّ الإسلام، وجار له ثلاثة حقوق، مسلم له رحم، له حقُّ الجوار والإسلام والرّحم». قال القرطبيُّ: الجار يُطلَق ويُراد به الدّاخل في الجوار، ويُطلَق ويراد به المجاوِر في الدّار، وهو الأغلب، والّذي يظهر أنّه المراد به في الحديث الثّاني؛ لأنّ الأوّل كان يَرِث ويورَث، فإن كان هذا الخبر صدر قبل نسخ التّوريث بين المتعاقدينِ، فقد كان ثابتًا، فكيف يُترجَّى وقوعه وإن كان بعد النّسخ؛ فكيف يظنُّ رجوعه بعد رفعه؟! فتعيَّن أنّ المراد به المجاور في الدّار"[8]. 

قال السعديُّ  رحمه الله: " ﱡ ﲔ  ﲕ ﲖ ﱠ؛ أي: الجار القريب الذي له حقَّانِ: حقُّ الجِوار وحقُّ القَرابة، فله على جاره حقٌّ وإحسان راجع إلى العرف. (و) كذلك ﱡ ﲗ ﲘ ﱠ؛ أي: الذي ليس له قَرَابةٌ، وكلَّما كان الجارُ أقربَ بابًا، كان آكَدَ حقًّا، فينبغي للجار أن يتعاهَدَ جارَه بالهَدية والصَّدَقة والدعوة واللطافة بالأقوال والأفعال، وعدم أذيَّته بقول أو فعل"[9].

قال ابن حجر رحمه الله: "وقد نفى ﷺ الإيمان عمَّن لم يأمن جاره بوائقه؛ كما في الحديث الّذي يليه، وهي مبالغة تُنبئ عن تعظيم حقِّ الجار، وأنّ إضراره من الكبائر. قال: ويفترق الحال في ذلك بالنّسبة للجار الصّالح وغير الصّالح، والّذي يشمل الجميعَ إرادةُ الخير له، وموعظتُه بالحسنى، والدّعاءُ له بالهداية، وتركُ الإضرار له إلّا في الموضع الّذي يجب فيه الإضرار له بالقول والفعل، والّذي يخصُّ الصّالح هو جميعُ ما تقدَّم، وغير الصّالح كفُّه عن الّذي يرتكبه بالحسنى على حسَبِ مراتب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكَر، ويَعِظُ الكافرَ بعرض الإسلام عليه، ويبيِّن محاسنه، والتّرغيب فيه برِفق، ويَعِظ الفاسق بما يناسبه بالرّفق أيضًا، ويَستُر عليه زَلَلـه عن غيره، وينهاه برفق، فإن أفاد فبِهِ، وإلّا فيهجره قاصدًا تأديبَه على ذلك مع إعلامه بالسّبب ليكُفَّ"[10].

المراجع

  1. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 442).
  2. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (10/ 533).
  3. "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" للقرطبيِّ (5/ 197).
  4. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 19).
  5. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 338).
  6. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 19).
  7. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (10/ 446).
  8. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 441، 442).
  9. "تفسير السعديِّ" (ص: 178).
  10. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 442).


مشاريع الأحاديث الكلية