عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا».

عناصر الشرح

المعنى الإجماليُّ للحديث:

يروي عَبْدُ اللَّهِ بنُ مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،

عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنه قَالَ:

«إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي»؛ أي: يُوصِل «إِلَى البِرِّ»؛

أي: العمل الصالح الخالص من كلِّ ذَمٍّ، والبرُّ اسم جامع لكلِّ خير.

«وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ»؛ أي: يعتاد الصدق في كلِّ أمر «حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا»؛ أي: يصير الصِّدْقُ صفةً ذاتية له، فيَدخُل في زُمرة الصِّدِّيقين، ويستحقُّ ثوابهم. «وَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ»؛ أي: الْمَيل عن الاستقامة إلى الفساد، والانطلاق إلى المعاصي، والفجور: اسمٌ جامع لكلِّ شرٍّ. «وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ»؛ أي: يُحكَم له «عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا»؛ أي: يصير الكذب صفةً ملازمة له.

الشرح المفصَّل للحديث:

لقد أمر الإسلام بالصِّدق، وحثَّ عليه في جميع المعاملات التي يقوم بها المسلم، وقد أمر الله سبحانه أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين

يقول الله - عزَّ وجلَّ -:

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}

[التوبة: 119]

وعن أبي سفيان في حديثه الطويل في قصة هِرَقْلَ عظيمِ الروم: قال هرقلُ: فماذا يأمركم؟ - يعني النبيَّ ﷺ - قال أبو سفيانَ: قلتُ: "يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والصدقة، والعفاف، والصلة"[1].

ومنزلة الصدق هي المنزلة العظمى في الدين؛ فالصدق هو "الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين، والطريق الأَقْوَم الذي من لم يَسِرْ عليه فهو من المنقطِعين الهالكين، وبه تميَّز أهل النفاق من أهل الإيمان، وسكَّان الجنان من أهل النيران، وهو سيف الله في أرضه، الذي ما وُضع على شيء إلا قطعه، ولا واجَه باطلًا إلا أَرْداه وصَرَعه، مَن صال به لم تُردَّ صَوْلته، ومن نَطَق به، عَلَت على الخصوم كلمته، فهو رُوح الأعمال، ومَحَكُّ الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، وهو أساس بناء الدين، وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية لدرجة النبوَّة، التي هي أرفع درجات العالمين، ومن مساكنهم في الجنَّات، تُجرى العيون والأنهار إلى مساكن الصدِّيقين، كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار مدد متَّصِل ومَعِين، وقد أمر الله سبحانه أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين، وخصَّ الْمُنعَمَ عليهم بالنبيِّين والصِّديقين والشهداء والصالحين

فقال تعالى:

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}

[التوبة: 119]"[2]

و"إنَّ الله - جلَّ وعلا - فضَّل اللسان على سائر الجوارح، ورفع درجته، وأبان فضيلتَه، بأن أنطقه من بين سائر الجوارح بتوحيده، فلا يجب للعاقل أن يعوِّد آلةً خَلَقها الله للنُّطق بتوحيده بالكذب؛ بل يجب عليه المداوَمة برعايته بلزوم الصدق، وما يَعُود عليه نفعه في دارَيْهِ؛ لأنَّ اللسان يقتضي ما عُوِّد؛ إن صدقًا فصدقًا، وإن كذبًا فكذبًا"[3].

وفي حديث الباب يروي عَبْدُ اللَّهِ بنُ مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنه قَالَ: «إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي»؛ أي: يُوصِل «إِلَى البِرِّ»؛ أي: العمل الصالح الخالص من كلِّ ذَمٍّ، والبرُّ اسم جامع لكلِّ خير. «وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ»؛ أي: يعتاد الصدق في كلِّ أمر «حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا»؛ أي: يصير الصِّدْقُ صفةً ذاتية له، فيَدخُل في زُمرة الصِّدِّيقين، ويستحقُّ ثوابهم. «وَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ»؛ أي: الْمَيل عن الاستقامة إلى الفساد، والانطلاق إلى المعاصي، والفجور: اسمٌ جامع لكلِّ شرٍّ. «وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ»؛ أي: يُحكَم له «عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا»؛ أي: يصير الكذب صفةً ملازمة له.

ومعنى الحديث "أنّ الصّدق يهدي إلى العمل الصّالح الخالص من كلِّ مذموم، والبرَّ اسم جامع للخير كلِّه، وقيل: البرُّ الجنَّة، ويجوز أن يتناول العمل الصّالح والجنّة، وأمّا الكذب فيُوصِل إلى الفجور، وهو الميل عن الاستقامة، وقيل: الانبعاث في المعاصي.

قوله ﷺ:

«وإنّ الرّجل ليصدق حتّى يكتب عند اللّه صدِّيقًا، وإنّ الرّجل ليكذب حتّى يكتب عند اللّه كذَّابًا»

وفي رواية: «ليتحرَّى الصّدق، وليتحرَّى الكذب»، وفي رواية: «عليكم بالصّدق؛ فإنّ الصّدق يهدي إلى البرِّ، وإيّاكم والكذبَ»، قال العلماء: هذا فيه حثٌّ على تحرِّي الصِّدق، وهو قصدُه، والاعتناء به، وعلى التّحذير من الكذب والتّساهل فيه؛ فإنّه إذا تساهَل فيه كَثُر منه، فعُرِف به، وكتبه اللّه لمبالغته صدِّيقًا إن اعتاده، أو كذَّابًا إن اعتاده، ومعنى (يُكتَب) هنا: يُحكَم له بذلك، ويستحقُّ الوصف بمنزلة الصِّدِّيقين وثوابهم، أو صفة الكذَّابين وعقابهم، والمراد إظهار ذلك للمخلوقين، إمَّا بأن يكتبه في ذلك ليشتهر بحظِّه من الصّفتين في الملأ الأعلى، وإمّا بأن يُلقيَ ذلك في قلوب النّاس وألسنتهم، كما يوضَع له القبول والبغضاء، وإلّا فقَدَرُ اللّه تعالى وكتابه السابق قد سبق بكلِّ ذلك"[4].

و"مصداق حديث عبد الله في كتاب الله: 

{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ 13 وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}

[الانفطار: 13 – 14]

والصدقُ أرفع خلال المؤمنين

ألا ترى قوله:

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}

[التوبة: 119]

فجعل الصدق مقارنًا للتقوى، وقيل للقمان الحكيم: ما بلغ بك ما نرى؟ قال: صدق الحديث، وأداءُ الأمانة، وتركي ما لا يَعنيني

وروى مالكٌ عن صفوانَ بنِ سليمٍ أنه قيل للنبيِّ ﷺ:

أيكون المؤمن كذَّابًا؟ قال: «لا»[5]

وظاهر هذا معارِض لحديث عبد الله، والتأويلُ الجامع بينهما أن معنى حديث صفوانَ لا يكون المؤمن المستكمِل لأعلى درجات الإيمان كذَّابًا حتى يَغلِب عليه الكَذِب؛ لأن (كذَّاب) وزنُه (فعَّال)، وهو من أبنية المبالغة لمن يَكثُر منه الكذب، ويكرّر حتى يُعرَف به، ومثالُه الكَذُوب أيضًا، ويبيِّن هذا قوله عليه السلام: «إن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صدوقًا»؛ يعني: لا يزال يتكرَّر الصدق منه حتى يستحقَّ اسم المبالغة في الصدق، وكذلك قوله: «إن الرجل يكذب حتى يكتب عند الله كذابًا»؛ يعني: لا يزال يتكرَّر الكذب منه حتى يغلب عليه، وهذه الصفة ليست صفةَ علية المؤمنين؛ بل هي من صفات المنافقين وعلاماتهم"[6].

واعلم أنه "متى طَهُر اللسان من الكذب، طَهُر من غيره من الكلام السيِّئ المحرَّم، واستقام حال العبد كلُّه، ومتى لم يستقم اللسان، فَسَد حال العبد كلُّه. وربَّما يعبَّر عن صدق اللسان باستقامة المقال كلِّه

كما في قوله تعالى:

{وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ}

[الشعراء: 84]

وقوله تعالى:

{وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّ}

[مريم: 50]

يريد الثَّناء عليهم بحقٍّ.

وكما تنقسم الأعمال إلى صِدق وغيرِ صدق - والمراد بالصِّدق ما له نفعٌ ودَوَام - فكذلك أقوال الصِّدق، قد يراد بها ما هو حقٌّ، له نفعٌ وثبات

وجاء من حديث أنس مرفوعًا:

«لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ»[7].

ويُروى من حديث أبي سعيد رَفَعه:

«إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ، فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا، فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا»[8]"[9].

وقد أمر الله تعالى بالصدق، وحثَّ على هذا الخُلُق النبيل كثيرًا في القرآن الكريم

فقال الله تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}

[التوبة: 119]

"أي: اصدُقوا، والزموا الصدق، تكونوا مع أهله، وتنجوا من المهالك، ويجعل لكم فرجًا من أموركم ومخرجًا"[10]. 

وقال تعالى:

{قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ۚ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}

[المائدة: 119]

"أي: ينفع الصادقين في الدنيا صِدْقُهم في الآخرة، ولو كَذَبوا، خَتَم الله على أفواههم، ونَطَقت به جوارحهم، فافتُضِحوا"[11].

ووصف الله به نفسه فقال:

{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}

[النساء: 87]

{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا}

[النساء: 122]

ووعد أهل الطاعة بأنهم سيكونون مع الصدِّيقين فقال:

{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا}

[النساء: 69]

"قوله: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ) كلام مستأنَف لبيان فضل طاعة الله والرسول، والإشارة بقوله: (فَأُولَئِكَ) إلى الْمُطِيعين، كما تُفيده مَن (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) بدخول الجنة، والوصول إلى ما أعدَّ الله لهم، والصدِّيق المبالِغ في الصدق، كما تفيده الصِّيغة، وقيل: هم فضلاء أتباع الأنبياء، والشهداء: من ثبتت لهم الشهادة، والصالحين: أهل الأعمال الصالحة"[12]. 

وقال تعالى:

{ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا }

[الأحزاب: 35]

"(أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ)؛ أي: لهؤلاء الموصوفين بتلك الصفات الجميلة، والمناقب الجليلة، التي هي ما بين اعتقادات، وأعمال قلوب، وأعمال جوارح، وأقوال لسان، ونفع متعدٍّ وقاصر، وما بين أفعال الخير، وترك الشرِّ، الذي من قام بهنَّ، فقد قام بالدين كلِّه، ظاهرِه وباطنه، بالإسلام والإيمان والإحسان. فجازاهم على عملهم بالمغفرة لذنوبهم؛ لأن الحسناتِ يُذهِبن السيئاتِ. (وَأَجْرًا عَظِيمًا) لا يَقدُر قَدْرَه، إلا الذي أعطاه، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، نسأل الله أن يجعلنا منهم"[13].
وغير ذلك من الآيات، وكذلك السنَّة

فعن الحسنِ بنِ عليِّ بنِ أبي طالب - رضي الله عنهما - قال:

حفظتُ من رسول الله ﷺ: «دعْ ما يَريبكَ إلى ما لا يَريبكَ؛ فإن الصدقَ طمأنينةٌ، وإن الكذبَ ريبةٌ»[14]

أي: اترك ما تشكُّ في كونه حسنًا أو قبيحًا، أو حلالًا أو حرامًا، واعْدِل عنه إلى ما لا شكَّ فيه، مما تيقَّنْتَ حُسْنَه وحِلَّه؛ فإنَّ الصدق محلُّ الطمأنينة أو سبب الطمأنينة، يطمئنُّ إليه القلب ويَسكُن، وإنَّ الكذب ريبة وقلق للقلب، فإذا وجدتَ نفسك ترتاب في الشيء فاتركه؛ فإنَّ المؤمنَ - ذا النفس الشريفة المطهَّرة عن دَنَس الذنوب، ووَسَخ العيوب – تطمئنُّ نفسه إلى الصدق وترتاب من الكذب، فارتيابك من الشيء مُنبئ عن كونه مَظِنَّة للباطل، فاحذره، وطمأنينتك للشيء إشعار بحقيقته، فتمسَّك به.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قَالَ:

قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ»، قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: «هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَدَ»[15].

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -

أن رسول الله ﷺ قال:

«أربع إذا كنَّ فيك فلا عليك ما فاتك في الدنيا: حِفْظُ أمانة، وصدق حديث، وحُسن خليقة، وعفَّة في طُعمة»

[16].

واعلم أن "حقيقة الصِّدق أن يَصدُق العبد في موطن يَرى أنه لا يُنجيه فيه إلا الكذب"[17].

قال تعالى:

{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}

[الجاثية: 7]

"أي: كذَّاب في مَقَاله، أَثِيم في فِعَاله، وأخبر أنَّ له عذابًا أليمًا، وأنَّ مِن وَرَائِهِمْ جَهَنَّم تكفي في عقوبتهم البليغة"[18].

وقال ابن مسعود: "إِنَّ الكذب لا يَصلُح في جِدٍّ ولا هَزْل.

ثم تلا قوله تعالى:

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}

[التوبة: 119]" [19]

وقال رسول الله ﷺ:

«كفى بالمرء كذبًا أن يحدِّث بكلِّ ما سمع»[20]

و"فيه تأويلان؛ أحدُهما: أن يَرويَ ما يَعلَمه كذبًا، ولا يبيِّنه؛ فهو أحدُ الكاذبين، والثاني: أن يكون المعنى: بحسب المرء أن يكذَّب؛ لأنَّه ليس كلُّ مسموع يصدَّق به، فينبغي تحديث الناس بما تحتمله عقولهم"[21].

ومن أشدِّ أنواع الكذب افتراءُ الكذب على الله تعالى بالتحليل والتحريم بالهوى

قال الله تعالى:

{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ 116 مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}

[النحل: 116 – 117]

{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ}

أي: لا تحرِّموا وتحلِّلوا من تلقاء أنفسكم، كَذِبًا وافتراء على الله، وتقوُّلاً عليه

{لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ}

لا في الدنيا، ولا في الآخرة، ولا بدَّ أن يُظهِر الله خِزْيَهم وإن تمتَّعوا في الدنيا فإنه

{مَتَاعٌ قَلِيلٌ}ﱠ

ومصيرهم إلى النار

{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}ﱠ

فالله تعالى ما حرَّم علينا إلا الخبيثاتِ تفضُّلاً منه، وصيانةً عن كلِّ مستقذَر"[22]. 

وإن من أوضح علامات النفاق الكذب

قال النبيُّ ﷺ:

«أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ»[23].


وقال ﷺ:

«آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذَبَ، وإذا وعَدَ أخلَفَ، وإذا اؤتمنَ خانَ»[24].

المراجع

  1. رواه البخاريُّ (7)، ومسلم (1773).
  2. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 257).
  3. "روضة العقلاء" لأبي حاتم (ص 51).
  4. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 160).
  5. رواه مالك في "الموطَّأ" (772)، وضعفه الألبانيُّ في "ضعيف الترغيب والترهيب" (1752).
  6. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (9/ 280، 281).
  7. رواه أحمد (13079)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2554).
  8. رواه الترمذيُّ (2407)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2871).
  9. "مجموع رسائل ابن رجب" (1/ 357).
  10. "تفسير ابن كثير" (4/230).
  11. "معالم التنزيل" للبغويِّ (3/123).
  12. "فتح القدير" للشوكانيِّ (2/172).
  13. "تيسير الكريم الرحمن" للسعدي (664).
  14. رواه الترمذيُّ (2518)، والنسائيُّ (5711)، وقال الترمذيُّ: حديث صحيح، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الجامع الصغير وزيادته" (1/ 637).
  15. رواه ابن ماجه (4216)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الجامع" (3291).
  16. رواه أحمد (6652)، والبيهقيُّ في "شعب الإيمان" (6/449)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1718).
  17. "مجموع رسائل ابن رجب" (1/ 356).
  18. "تفسير السعديِّ" (ص: 775).
  19. "مجموع رسائل ابن رجب" (1/ 356).
  20. رواه مسلم (4).
  21. "كشف المشكل من حديث الصحيحين" (1/340).
  22. "تفسير السعديِّ" (ص: 451).
  23. رواه البخاريُّ (34)، ومسلم (58).
  24. رواه البخاريُّ (33)، ومسلم (59).
النقول:

قال النوويُّ رحمه الله: "قال العلماء: معناه: أنّ الصِّدق يهدي إلى العمل الصّالح الخالص من كلِّ مذموم، والبرَّ اسم جامع للخير كلِّه، وقيل: البرُّ الجنَّة، ويجوز أن يتناول العمل الصّالح والجنّة، وأمّا الكذب فيُوصِل إلى الفجور، وهو الميل عن الاستقامة، وقيل: الانبعاث في المعاصي. قوله ﷺ: «وإنّ الرّجل ليصدق حتّى يكتب عند اللّه صدِّيقًا، وإنّ الرّجل ليكذب حتّى يكتب عند اللّه كذَّابًا»، وفي رواية: «ليتحرَّى الصّدق، وليتحرَّى الكذب»، وفي رواية: «عليكم بالصّدق؛ فإنّ الصّدق يهدي إلى البرِّ، وإيّاكم والكذبَ»، قال العلماء: هذا فيه حثٌّ على تحرِّي الصِّدق، وهو قصدُه، والاعتناء به، وعلى التّحذير من الكذب والتّساهل فيه؛ فإنّه إذا تساهَل فيه كَثُر منه، فعُرِف به، وكتبه اللّه لمبالغته صدِّيقًا إن اعتاده، أو كذَّابًا إن اعتاده، ومعنى (يُكتَب) هنا: يُحكَم له بذلك، ويستحقُّ الوصف بمنزلة الصِّدِّيقين وثوابهم، أو صفة الكذَّابين وعقابهم، والمراد إظهار ذلك للمخلوقين، إمَّا بأن يكتبه في ذلك ليشتهر بحظِّه من الصّفتين في الملأ الأعلى، وإمّا بأن يُلقيَ ذلك في قلوب النّاس وألسنتهم، كما يوضَع له القبول والبغضاء، وإلّا فقَدَرُ اللّه تعالى وكتابه السابق قد سبق بكلِّ ذلك، واللّه أعلم"[1].

قال ابن بطَّال رحمه الله:

"مصداق حديث عبد الله في كتاب الله:

{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ 13 وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}

[الانفطار: ١٣ – ١٤]

والصدقُ أرفع خلال المؤمنين

ألا ترى قوله:

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}

[التوبة: 119]

فجعل الصدق مقارنًا للتقوى، وقيل للقمان الحكيم: ما بلغ بك ما نرى؟ قال: صدق الحديث، وأداءُ الأمانة، وتركي ما لا يَعنيني

وروى مالكٌ عن صفوانَ بنِ سليمٍ أنه قيل للنبيِّ ﷺ:

أيكون المؤمن كذَّابًا؟ قال: «لا»[2]

وظاهر هذا معارِض لحديث عبد الله، والتأويلُ الجامع بينهما أن معنى حديث صفوانَ لا يكون المؤمن المستكمِل لأعلى درجات الإيمان كذَّابًا حتى يَغلِب عليه الكَذِب؛ لأن (كذَّاب) وزنُه (فعَّال)، وهو من أبنية المبالغة لمن يَكثُر منه الكذب، ويكرّر حتى يُعرَف به، ومثالُه الكَذُوب أيضًا، ويبيِّن هذا قوله عليه السلام: «إن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صدوقًا»؛ يعني: لا يزال يتكرَّر الصدق منه حتى يستحقَّ اسم المبالغة في الصدق، وكذلك قوله: «إن الرجل يكذب حتى يكتب عند الله كذابًا»؛ يعني: لا يزال يتكرَّر الكذب منه حتى يغلب عليه، وهذه الصفة ليست صفةَ علية المؤمنين؛ بل هي من صفات المنافقين وعلاماتهم"[3].

قال ابن رجب رحمه الله: "ومتى طَهُر اللسان من الكذب، طَهُر من غيره من الكلام السيِّئ المحرَّم، واستقام حال العبد كلُّه، ومتى لم يستقم اللسان، فَسَد حال العبد كلُّه. وربَّما يعبَّر عن صدق اللسان باستقامة المقال كلِّه

كما في قوله تعالى:

{وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ}

[الشعراء: ٨٤]

وقوله تعالى:

{وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّ}

[مريم: ٥٠]

يريد الثَّناء عليهم بحقٍّ.

وكما تنقسم الأعمال إلى صِدق وغيرِ صدق - والمراد بالصِّدق ما له نفعٌ ودَوَام - فكذلك أقوال الصِّدق، قد يراد بها ما هو حقٌّ، له نفعٌ وثبات

وجاء من حديث أنس مرفوعًا:

«لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ»[4]

أخرَّجه الإمام أحمد. ويُروى من حديث أبي سعيد رَفَعه: «إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ، فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا، فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا»[5].

وقال مطرّف: من صفا عملُه صفا لسانُه، ومن خلَّط خُلِّط له. وقال يونسُ بنُ عبيد: ما رأيت أحدًا لسانُه منه على بال، إلا رأيت ذلك صلاحًا في سائر عمله"[6].

قال ابن كثير رحمه الله:

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}

[التوبة: 119]

أي: اصدُقوا، والزموا الصدق، تكونوا مع أهله، وتنجوا من المهالك، ويجعل لكم فرجًا من أموركم ومخرجًا"[7]. 

قال الشوكانيُّ رحمه الله: "قوله: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ) كلام مستأنَف لبيان فضل طاعة الله والرسول، والإشارة بقوله: (فَأُولَئِكَ) إلى الْمُطِيعين، كما تُفيده مَن (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) بدخول الجنة، والوصول إلى ما أعدَّ الله لهم، والصدِّيق المبالِغ في الصدق، كما تفيده الصِّيغة، وقيل: هم فضلاء أتباع الأنبياء، والشهداء: من ثبتت لهم الشهادة، والصالحين: أهل الأعمال الصالحة"[8]. 

قال البغويُّ رحمه الله:

{قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ۚ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}

[المائدة: 119]

أي: ينفع الصادقين في الدنيا صِدْقُهم في الآخرة، ولو كَذَبوا، خَتَم الله على أفواههم، ونَطَقت به جوارحهم، فافتُضِحوا"[9].

قال السعديُّ رحمه الله:

"قوله تعالى:

{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}

[الأحزاب: 35]

(أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ)؛ أي: لهؤلاء الموصوفين بتلك الصفات الجميلة، والمناقب الجليلة، التي هي ما بين اعتقادات، وأعمال قلوب، وأعمال جوارح، وأقوال لسان، ونفع متعدٍّ وقاصر، وما بين أفعال الخير، وترك الشرِّ، الذي من قام بهنَّ، فقد قام بالدين كلِّه، ظاهرِه وباطنه، بالإسلام والإيمان والإحسان. فجازاهم على عملهم بالمغفرة لذنوبهم؛ لأن الحسناتِ يُذهِبن السيئاتِ. (وَأَجْرًا عَظِيمًا) لا يَقدُر قَدْرَه، إلا الذي أعطاه، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، نسأل الله أن يجعلنا منهم"[10].

قال أبو حاتم رحمه الله: "إنَّ الله - جلَّ وعلا - فضَّل اللسان على سائر الجوارح، ورفع درجته، وأبان فضيلتَه، بأن أنطقه من بين سائر الجوارح بتوحيده، فلا يجب للعاقل أن يعوِّد آلةً خَلَقها الله للنُّطق بتوحيده بالكذب؛ بل يجب عليه المداوَمة برعايته بلزوم الصدق، وما يَعُود عليه نفعه في دارَيْهِ؛ لأنَّ اللسان يقتضي ما عُوِّد؛ إن صدقًا فصدقًا، وإن كذبًا فكذبًا"[11].

قال ابن القيم رحمه الله: "ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الصدق، وهي منزلة القوم الأعظمِ، الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين، والطريق الأَقْوَم الذي من لم يَسِرْ عليه فهو من المنقطِعين الهالكين، وبه تميَّز أهل النفاق من أهل الإيمان، وسكَّان الجنان من أهل النيران، وهو سيف الله في أرضه، الذي ما وُضع على شيء إلا قطعه، ولا واجَه باطلًا إلا أَرْداه وصَرَعه، مَن صال به لم تُردَّ صَوْلته، ومن نَطَق به، عَلَت على الخصوم كلمته، فهو رُوح الأعمال، ومَحَكُّ الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، وهو أساس بناء الدين، وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية لدرجة النبوَّة، التي هي أرفع درجات العالمين، ومن مساكنهم في الجنَّات، تُجرى العيون والأنهار إلى مساكن الصدِّيقين، كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار مدد متَّصِل ومَعِين، وقد أمر الله سبحانه أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين، وخصَّ الْمُنعَمَ عليهم بالنبيِّين والصِّديقين والشهداء والصالحين

فقال تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}

[التوبة: 119]" {12}

قال السعديُّ رحمه الله:

{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ}

أي: لا تحرِّموا وتحلِّلوا من تلقاء أنفسكم، كَذِبًا وافتراء على الله، وتقوُّلاً عليه

{لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ}

لا في الدنيا، ولا في الآخرة، ولا بدَّ أن يُظهِر الله خِزْيَهم وإن تمتَّعوا في الدنيا فإنه

{مَتَاعٌ قَلِيلٌ }

ومصيرهم إلى النار

{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}

فالله تعالى ما حرَّم علينا إلا الخبيثاتِ تفضُّلاً منه، وصيانةً عن كلِّ مستقذَر"[13].

قال ابن القيم رحمه الله: "إياك والكَذِبَ؛ فإنه يُفسِد عليك تصوُّر المعلومات على ما هي عليه، ويُفسِد عليك تصويرها وتعليمها للناس"[14].  

قال السعديُّ رحمه الله:

{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}

[الجاثية: 7]

أي: كذَّاب في مَقَاله، أَثِيم في فِعَاله، وأخبر أنَّ له عذابًا أليمًا، وأنَّ مِن وَرَائِهِمْ جَهَنَّم تكفي في عقوبتهم البليغة"[15].

قال ابن الجوزيِّ رحمه الله:

"قوله ﷺ:

«كفى بالمرء كذبًا أن يحدِّث بكلِّ ما سمع»[16].

فيه تأويلان؛ أحدُهما: أن يَرويَ ما يَعلَمه كذبًا، ولا يبيِّنه؛ فهو أحدُ الكاذبين، والثاني: أن يكون المعنى: بحسب المرء أن يكذَّب؛ لأنَّه ليس كلُّ مسموع يصدَّق به، فينبغي تحديث الناس بما تحتمله عقولهم"[17].

المراجع

  1. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 160).
  2. رواه مالك في "الموطَّأ" (772)، وضعفه الألبانيُّ في "ضعيف الترغيب والترهيب" (1752).
  3. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (9/ 280، 281).
  4. رواه أحمد (13079)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2554).
  5. رواه الترمذيُّ (2407)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2871).
  6. "مجموع رسائل ابن رجب" (1/ 357).
  7. "تفسير ابن كثير" (4/230).
  8. "فتح القدير" للشوكانيِّ (2/172).
  9. "معالم التنزيل" للبغويِّ (3/123).
  10. "تيسير الكريم الرحمن" للسعدي (664).
  11. "روضة العقلاء" لأبي حاتم (ص 51).
  12. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 257).
  13. "تفسير السعديِّ" (ص: 451).
  14. "الفوائد" لابن القيم (ص 135).
  15. "تفسير السعديِّ" (ص: 775).
  16. رواه مسلم (4).
  17. "كشف المشكل من حديث الصحيحين" (1/340).

مشاريع الأحاديث الكلية