عن النُّعْمانِ بنِ بَشيرٍ – رضي الله عنهما - قال: سمعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقول - وأَهْوى النُّعمانُ بإصْبَعَيْهِ إلى أُذُنَيْهِ -: «إنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ، وإنَّ الحَرامَ بَيِّنٌ، وبَيْنَهُما مُشْتَبِهاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ،  فَمَنِ اتَّقى الشُّبُهاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ، ومَن وقَعَ في الشُّبُهاتِ وقَعَ في الحَرامِ، كالرَّاعِي يَرْعى حَوْلَ الحِمى، يُوشِكُ أنْ يَرْتَعَ فِيهِ، ألا وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا وإنَّ حِمى اللهِ مَحارِمُهُ، ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ».

فقه:

هذا الحديث من أهم أحاديث الدِّين ؛ حتى قال جماعة من أهل العلم: هذا الحديث ثُلُثُ الإسلام، وإن الإسلام يَدُور عليه وعلى حديث «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ»، وحديثِ «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المرء تركه ما لا يَعْنِيه». وقال أبو داود: يَدور الإسلام على أربعة أحاديثَ: أولها حديث: «الحلال بيّن والحرام بيِّن»[1].

1- يذكر النبيُّ ﷺ في الحديث أنَّ أحكامَ الشريعة ظاهرةٌ واضحةٌ؛ فالحلالُ الذي أحلَّه اللهُ تعالى وأباحه واضحٌ لا اشتباه فيه، وكذا الحرامُ الذي نهى الله تعالى عنه وحظَره ظاهرٌ واضحٌ، لا يخفى على أحدٍ ممن بلغته دعوة الإسلام ودخل فيها. 

فمِن الحلال الواضح الأكلُ من الطيِّبات التي أحلَّها الله في كتابه، والاستمتاع بزينة الحياة الدنيا من الزوجات، ولُبْس أنواع الثياب الطاهرة التي أحلَّها اللهُ.
ومن الحرام البَيِّن: الشِّرك بالله وأسبابه ووسائله الموصلة إليه، وأكل النجاسات والميتة والخنزير، وشُرب المسكرات، وظلم الناس وأكل أموالهم بالباطل، ونحو ذلك.

2- وبيْن تلك المرتبتينِ من الحلال الواضح والحرام الواضح أمورٌ تشتبه على كثيرٍ من النَّاس، فلا يَدْرون أهي من الحلال أم من الحرام. وليس ذلك لأنَّ الشرع لم يبينها ؛ فإنَّ الله تعالى قد أرسلَ نبيَّه ﷺ ليُبَيِّنَ أحكام الشرع بيانًا تامًّا

قال تعالى:

{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}

[المائدة: 3]

وإنما قد يغيب حُكمُها عن كثيرٍ من النَّاسِ؛ لنقص علمهم، وقد تغيب عن بعض أهل العلم لأمر عارضٍ عليهم، لكن يبقى من أهل العلم من اتَّضح لديهم حكمُها بدليلها من الكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ والقياسِ[2].

3- فمَن اجتنب تلك الأمور المشتَبِه في حُكمها وتورَّع عنها، حصلت له البراءة لدِينه، فسَلِم من الذَّمِّ والعقوبة، ولعِرْضِه فكفَّ ألسنةَ الناس عن الطعن فيه.
والورع هو من هذا، فالورع اتِّقاء الشُّبهات وترك ما يُخشى ضررُه في الآخرة ، وأما الزُّهد فهو تركُ التعلق بما ينقص الدرجة في الآخرة وإن كان مباحًا [3]؛ فالزُّهد مرتبةٌ لا تجب وهي مرتبة أعلى، والورعُ حَقٌّ على كل مسلِم.

4- ومَن اقترف تلك الأمور وخاض فيها، ولم يتورَّع عنها، أفضى به استخفافُه ذلك إلى ارتكاب المُحَرَّمات؛ فإنه يَعتاد التساهل ويَألْفَه حتى يتجاسَر على الشُّبهات، ثم يقع في الحرام، عمدًا أو جهلًا[4]. كما أنَّ الراعي إذا رعى ماشيته وأغنامه حول الحِمَى - وهو ما يحميه الملِكُ من الأرض فيمنع الناسَ من دخوله بغير إذن، ومَن اقتحمه عاقبه – يوشِك أن تَنزِله بهائمُه وتأكل فيه؛ لأنه قد تَنفرِد الفاذَّة وتَشِذُّ الشاذَّة، ولا ينضبط، وربما استَهْوته نفسه وسوَّل له الشيطانُ دخولَه، فكما أن الراعيَ إذا جرَّه رعيُه حول الحِمى إلى وقوعه، استحقَّ العقاب لذلك؛ فكذا مَن أكثَرَ من الشُّبهات وتعرَّض لمقدِّماتها، وقعَ في الحرام؛ فاستحقَّ العقاب[5].

5- فكما أنَّ لكل مَلِكٍ حِمًى يحميه ويحظر على النَّاس دخوله، ويعاقِب من خالَف أمره؛ فلله تعالى المثل الأعلى، وحِمَاهُ التي حرَّمها على خلْقه محارِمُه، وهي الكفر والمعاصي، مَن دخلَه بارتكابه شيئًا من المعاصي استحقَّ العقوبة، ومَن قاربَه يوشكُ أن يَقع فيه، ومَن احتاط لنفْسه ولم يقاربْه فلا يتعلَّق بشيء يقرِّبه من المعصية، ولا يَدخل في شيء من الشُّبهات[6].

6- ثُمَّ أخبر ﷺ أنَّ في الجسد قطعةً صغيرةً من اللحم بقدْر ما يَمضُغه الإنسان في فمِه، وهي القلب، وهذا القلب الحسي له علاقة وارتباط بالقلب المعنوي الذي يكون فيه الإيمان، ويحصل فيه الصلاح أو الفساد.

7- إذا صلَحت واستقامت أحوال القلب صلَح حال الإنسان وسائر جسده، وإذا فسَدت فسَد؛ فإنَّ الْقلب مَلِك والأعضاء جُنُوده، فإذا طَابَ الْمَلِك طابت جُنُوده، وَإِذا خَبُث الْمَلِك خَبُثت جُنُوده [7].
والقلبُ الصالح هو الذي امتلأ بحُبِّ اللهِ تعالى وتوحيده، وسَلِم عن جميع ما يَكرهه اللهُ تعالى، فيُحِبُّ ما يرضاه الله تعالى ويحبه، ويَكرهُ ما يَكرهُ سبحانه ويأباه. والقلب الفاسد على الضِّدِّ من ذلك[8].

وقد جعلَ اللهُ سبحانه في القلب مُستقرًّا للإيمان والكفر

فقال سبحانه:

{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}

[الحجرات: 7]

وقال عز وجل:

{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا}

[الكهف: 28]

اتباع: 

1- (1) بيَّن اللهُ لعباده جميع الأحكام الشرعية؛ فعلى العبدِ أن يتعلَّم تلك الأحكام من أهل العلم، ويستفتيهم فيما غاب عنه، وليس له عُذرٌ في ارتكاب المحرَّمات دون أن يسأل أهل العلم ويستشيرهم.

2- (1) أتمَّ اللهُ على عباده نِعمته بإكمال الدِّين وبيان الحلالِ والحرامِ، فلا يَتنطَّع متنطِّعٌ ويزعم أنَّ أحكام الشرع لا تَستوفي الدينَ كُلَّه.

3- (1) على العُلماء والدُّعاة أن يحققوا بيان الحلال والحرام، بأن يُعلِّموا الناسَ أحكامَ الشريعةِ، ويُفتونهم فيما يطرأ عليهم ويَستجِد من الأحكام والمعاملات.

4- (2) في الحديث بيان فضل العُلماء، فهُم الذين يعلمون مُشتبِهات الأمور دون سائر الناس، فمن أراد أن يلتحق بذاك الصِّنف فلْيَحرِص على طلب العلم والجدِّ في تحصيله.

5- (2) اشتباه تلك الأمور هو بسبب جهل أكثر النَّاس بأحكامها وأدلتها؛ فبعض الأحكام تشتهر عند كثيرٍ من الناس، وبعضها الآخر يخفى إلا على خواصِّ النَّاس من أهل العلم والدِّين؛ فلا يظنَّنَّ أحدٌ قُصورًا في إيصال دِين الله تعالى إلى البشر.

6- (2) الواجب على المسلم إذا بادره أمرٌ يَجهل حُكمَه أن يسارع بسؤال أهل العلم؛ فهم الذين عَلِموا الأحكام الشرعية وأدلتها التفصيلية.

7- (3) يجب على المسلم أن يَبتعد عن الشُّبهات حفاظًا على دِينه وعِرضه.

8- (3) على المسلم أن يحفظ عِرضَه من خَوض النَّاس فيه وإن كان تقيًّا نقيًّا.

9- (3) اتِّقاء الشبهات امتثالٌ كذلك لقول النبيِّ ﷺ:

«دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ»[9].

10- (4) مَن لم يتَّقِ الله وتجرَّأ على الشُّبهات، أفضَت به إلى المحرَّمات، ويَحمِله التساهل في أمرها على الجُرأة على الحرام؛ كما قال بعضهم: الصغيرة تجرُّ الكبيرة، والكبيرةُ تجرُّ الكُفْرَ، وكما رُوِي: المعاصي بَرِيد الكُفر[10]؛ فالورعَ الورعَ عن الشُّبُهات حتى لا ننجرفَ في تيار المعاصي والكبائر.

11- (4) إدمان المباحات والعُكوف عليها يبعث الإنسان على اقتراف المُحَرَّمات شيئًا فشيئًا؛ فعلى العبدِ أن يهتمَّ بالعبادةِ، ويحرِص على الإكثار من النوافل والعبادات ولا ينخرِط في سلك المباحات ووسائل اللهو.

12- (4) الشيطان لا يُوَسوِس للعبدِ أن يأتي الكبائرَ أو الكفرَ دفعةً واحدةً، بل يُزَيِّنُ له ذلك شيئًا فشيئًا، فيُسَوِّل له الغفلة بالمباحات، ثم يُلجئه إلى الشُّبُهات والمكروهات، حتى إذا أدْمَن ذلك لم يَصعُب عليه أن يَجرُؤ على حدود الله ومحارمه. فالحذرَ من وساوس الشيطان ومَكْره، وتراجع من أول الطريق.

13- (4)، (5) استخدم النبيُّ ﷺ التصويرات والتشبيهات التي تبيِّن المعاني وتؤكدها وتقربها، وذلك بتشبيه الذي وقع في الشبهات بالذي يرعى حول الحمى، وبضرب المثل على عقوبة الواقع في الحُرُمات بعقوبة المنتهك لِحمى الملوك في الدنيا؛ فعلَى الداعية والمُرَبِّي أن يقرب المعاني إلى الأفهام بضرب الأمثال واستخدام الوسائل البلاغية.

14- (6) الاهتمام بتصحيح القلب والنَّظَر في أمراضه وعلاجها أهمُّ ما تنسَّك به الناسِكون؛ فإن القلب لهذه الأعضاء كالْمَلِك المتصرِّف في الجنود، الذي تَصدُر كلُّها عن أمره، وتَكتسِب منه الاستقامةَ والزَّيغ، وتَتبَعه فيما يريد؛ فهو مَلِكُها وهي المنفِّذة لما يَأمُرها به[11]. 

15- (6) لا تحسن الظن بباطنك وقد ساء ظاهرك، فقد دلَّ الحديث على أنَّ صلاح الباطن يستلزم صلاح الظاهر، فإذا صلح القلب وجب أن تعمل بذلك الجوارح؛ فليس صالحَ القلبِ مَن أساء العمل وأطلق جوارحه للحرام وانتهك حدودَ الله تعالى. 

المراجع

  1. "شرح النَّوويِّ على مسلم" (11/ 27).
  2. انظر: "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق (44)، و"شرح النوويِّ على مسلم" (4/190).
  3. ينظر بسياق آخر: "الفوائد" لابن القيم (ص: 181).
  4. "شرح النوويِّ على مسلم" (4/190).
  5. انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/194)، و"إرشاد الساري" للقسطلانيِّ (4/7).
  6. "شرح النوويِّ على مسلم" (4/190).
  7. "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/ 193).
  8. "فتح الباري" لابن رجب (1/ 229).
  9. رواه الترمذي (2518)، والنسائي (5711)، عن الحسن بن علي رضي الله عنهما، وصححه الألباني في "إرواء الغليل" (1/ 44).
  10. "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 47).
  11. "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 5).


مشاريع الأحاديث الكلية