عن النُّعْمانِ بنِ بَشيرٍ – رضي الله عنهما - قال: سمعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقول - وأَهْوى النُّعمانُ بإصْبَعَيْهِ إلى أُذُنَيْهِ -: «إنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ، وإنَّ الحَرامَ بَيِّنٌ، وبَيْنَهُما مُشْتَبِهاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ،  فَمَنِ اتَّقى الشُّبُهاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ، ومَن وقَعَ في الشُّبُهاتِ وقَعَ في الحَرامِ، كالرَّاعِي يَرْعى حَوْلَ الحِمى، يُوشِكُ أنْ يَرْتَعَ فِيهِ، ألا وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا وإنَّ حِمى اللهِ مَحارِمُهُ، ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ».

هدايات الحديث

1. قال ﷺ: «ومَن وقع في الشبهات وقع في الحرام» فمن لم يتَّقِ الله وتجرَّأ على الشُّبهات، أفضت به إلى المحرَّمات، ويحمله التساهل في أمرها على الجُرأة على الحرام؛ كما قال بعضهم: الصغيرة تجرُّ الكبيرة، والكبيرةُ تجرُّ الكُفْرَ، وكما رُوِي: المعاصي بَرِيد الكُفر[1].

2. قال ﷺ: «ومَن وقع في الشبهات وقع في الحرام» فمَن أَكثَر من مُواقَعة الشُّبهات أَظلَم عليه قلبُه؛ لفُقدان نور العلم، ونور الوَرَع، فيقع في الحرام وهو لا يَشعُر به، وقد يَأثَم بذلك إذا تسبَّب منه إلى تقصير[2].

3. الاهتمام بتصحيح القلب وتسديده أولى ما اعتمد عليه السالكون، والنَّظَر في أمراضه وعلاجها أهمُّ ما تنسَّك به الناسِكون؛ فإن القلب لهذه الأعضاء كالْمَلِك المتصرِّف في الجنود، الذي تَصدُر كلُّها عن أمره، ويستعملها فيما شاء، فكلُّها تحت عبوديَّته وقهرِه، وتكتسب منه الاستقامةَ والزَّيغ، وتَتبَعه فيما يريد، فهو مَلِكُها، وهي المنفِّذة لما يَأمُرها به[3]. 

4. لَمَّا عَلِم عدوُّ الله إبليسُ أن الْمَدَار على القلب، والاعتمادَ عليه، أَجلَب عليه بالوَساوس، وأَقبَل بوجوه الشَّهوات إليه، وزيَّن له من الأقوال والأعمال ما يصدُّه عن الطريق، وأَمَدَّه من أسباب الغيِّ بما يَقطَعه عن أسباب التوفيق، ونَصَبَ له من المصايد والحبائل ما إن سَلِم من الوقوع فيها، لم يَسلَم من أن يَحصُل له بها التعْوِيق[4].

5. لا نجاةَ من مصايد الشيطان ومكايده إلا بدوام الاستعانة بالله تعالى، والتعرُّض لأسباب مَرْضَاته، والْتِجَاء القلب إليه، وإقباله عليه في حركاته وسَكناته، والتحقُّق بذُلِّ العُبودية الذى هو أولى ما تلبَّس به الإنسان؛ ليَحصُل له الدخول في ضمان:

{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}

[الحجر: 42]

فهذه الإضافة هي القاطعة بين العبد وبين الشياطين، وحصولُها يسبِّب تحقيق مقام العبودية لربِّ العالمين[5].

6. إذا أُشرب القلبُ العبوديةَ والإخلاص صار عند الله من المقرَّبين، وشَمِله استثناء:

{إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [6].

[الحجر: 40]

7. الْقلب مَلِك والأعضاء جُنُوده، فإذا طَابَ الْمَلِك طابت جُنُوده، وَإِذا خَبُث الْمَلِك خَبُثت جُنُوده [7].

8. متى رأيتَ القلبَ قد ترحَّل عنه حبُّ الله، والاستعدادُ للقائه، وحلَّ فيه حبُّ المخلوق، والرضا بالحياة الدنيا، والطمأنينة بها، فاعلم أنه قد خُسِف به[8].

9. متى أَقحَطت العينُ من البكاء من خشية الله تعالى، فاعلم أن قَحْطَها من قسوة القلب، وأبعدُ القلوبِ من الله القلبُ القاسي[9].

10. القلب يَمرَض كما يمرض البَدَن، وشفاؤه في التوبة، ويصدأ كما تصدأ الْمِرآة، وجِلاؤه بالذِّكر، ويَعرى كما يعرى الجسم، وزينتُه التقوى، ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن، وطعامُه وشرابه المعرفةُ والمحبَّة، والتوكُّل، والإنابة، والخِدمة[10].

11. الله سبحانه الذي جَعَل بعض القلوب مُخْبِتًا إليه، وبعضَها قاسيًا، وجعل للقسوة آثارًا، وللإخبات آثارًا، فمن آثار القسوة: تحريفُ الكَلِم عن مواضعه، وذلك من سوء الفَهم، وسوء القصد، وكلاهما ناشئ عن قسوة القلب، ومنها نسيانُ ما ذكِّر به، وهو تركُ ما أُمِر به علمًا وعملاً، ومن آثار الإخبات: وجَلُ القلوب لذكره سبحانه، والصبر على أقداره، والإخلاص في عبوديته، والإحسان إلى خلقه[11].

12. ليس أَرْوَحُ للمرء، ولا أطرد لهمومه، ولا أقرَّ لعينه من أن يعيش سليم القلب، مبرَّأ من وساوس الضغينة، وثوران الأحقاد، إذا رأى نعمة تنساق لأحد رَضِيَ بها، وأحسَّ فضل الله فيها، وفقر عباده إليها. وإذا رأى أذى يلحق أحدًا من خلق الله رثى له، ورجا الله أن يفرِّج كربه، ويغفر ذنبه[12].

13. يحيا المسلم سليم القلب ناصعَ الصفحة، راضيًا عن الله وعن الحياة، مستريح النفس من نزعات الحقد الأعمى؛ فإنَّ فساد القلب بالضغائن داءٌ عَيَاء، وما أسرعَ أن يتسرَّب الإيمان من القلب المغشوش، كما يتسرَّب السائل من الإناء المثلوم! [13]

14. إن القلب القاسيَ لا يَقبَل الحقَّ، وإن كَثُرت دلائله.

15. كثرةُ تَعاطي المشتبهات يُسهِّل على الإنسان الوقوع في المحظور.

16. يجب على المسلم الابتعادُ عن مواطن الشبهات سلامةً لدينه وعِرضه.

17. التهاوُنُ في الأمور اليسيرة يُجرِّئ المتهاونَ فيما هو أكبرُ منها، لذا؛ فإن المسلم يُسارع إلى المداوَمة على الطاعة.

18. ما سُمِّيَ القلب إلَّا من تَقَلُّبِه = فاحذَرْ على القلبِ من قَلْبٍ وتحويلِ

19. تَوَرَّعْ ودَعْ ما قَدْ يَرِيبُكَ كُلَّهُ = جَمِيعًا إلى ما لا يَرِيبُكَ تَسْلَمِ

وحَافِظْ عَلَى أعضائِكَ السَّبْعِ جُمْلةً = ورَاعِ حُقُوقَ الله في كلِّ مُسْلِمِ

وكُنْ راضيًا بالله ربًّا وحاكمًا = وَفوِّضْ إليهِ فِي الأمورِ وسَلِّمِ

20. ليس الظَّرِيفُ بكاملٍ في ظُرفِه = حتى يكونَ عن الحرامِ عَفِيفَا

فإذا تورَّعَ عن مَحارمِ ربِّه = فهناك يُدعى في الأنامِ ظريفَا

21. رَأَيْتُ الذُّنوبَ تُمِيتُ القلوبَ = وقد يُورِثُ الذُّلَّ إِدْمَانُها

وَتَرْكُ الذُّنوبِ حَيَاةُ القلوبِ = وخيرٌ لنفسِكَ عِصْيَانُها

المراجع

  1. "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 47).
  2. "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 47).
  3. "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 5).
  4. "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 5).
  5.  "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 5).
  6. "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 6).
  7. "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/ 193).
  8. "بدائع الفوائد" لابن القيم (3/ 224).
  9. "بدائع الفوائد" لابن القيم (3/ 224).
  10. "الفوائد" لابن القيم (ص: 98).
  11. "شفاء العليل" لابن القيم (ص: 106).
  12. "خلق المسلم" لمحمد الغزالي (74-77) بتصرف يسير.
  13. "خلق المسلم" لمحمد الغزالي (74-77) بتصرف يسير.


مشاريع الأحاديث الكلية