فقه:
1- يُخبِر عبادةُ بن الصامت عن مُبايعةِ النبيِّ ﷺ لنُقَبَاءِ الأوس والخَزْرَج من الأنصار ليلة العقبة الثانية بِمِنًى، حيث خرَج إليه ﷺ اثنا عشَرَ نَقيبًا ينُوبون عمَّن آمَن من أهل يَثرِب، فيَذكُر عبادةُ أنَّه بايَع النبيَّ ﷺ في جماعةٍ، فبايعهم على التوحيد ونبْذِ الشِّرك، وعلى ألَّا يَسرقوا أو يَزنوا، أو يَقتلوا أولادَهم، أو يَختلِقوا الشائعاتِ والأكاذيبَ، وعلى الطاعة لرَسول الله ﷺ.
وبدأ ﷺ بالتوحيدِ ونبذِ الشركِ لأنه أصل الإيمانِ والإسلام، فأولُ أركان الإسلام "لا إله إلا الله" كلمة التوحيد، والشرك أكبرُ الكبائرِ وأعظم الذُّنوب؛ قال ابن مسعود : سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ»[1]، وأخبر سبحانه أنَّ جميعَ المعاصي داخلةٌ في المشيئة إلا الشِّركَ، قال تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}
ثُمَّ نَهاهم عن السرقة والزنا لأن الإسلامَ يَحمي أعراضَ النَّاسِ وأموالَهم، فلو استحلَّ النَّاسُ الزِّنا والسَّرِقة، لَبغى بعضهم على بعضٍ، وأكَل القويُّ حقَّ الضعيفِ، واختلَطَت الأنسابُ، وانتشَر أولادُ الزنا؛ ولهذا نفى النبيُّ ﷺ الإيمانَ عن السَّارقِ والزاني، فقال: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ»[2].
وقد كان العربُ يَقتلون أولادَهم لفقرِهم الحاصل، أو خَوفًا مِن حُدوثه بسببِهم، فنهاهم اللهُ عن ذلك، فقال:
{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}
وهذا في شأن الفقيرِ الذي يَقتل ولدَه لفَقرِه، وقال عز وجل:
{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}
وهذا للرجلِ يَقتل ولدَه خشيةَ أن يُصِيبه الفقرُ. ومنهم مَن كان يَدفِن بِنته حيَّةً خوفَ العارِ، فقال جلَّ وعلا:
{وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}
ونَهاهم ﷺ عن افتراء الكذب ورميِ الناس بالباطل، فيَشملُ ذلك شَهادةَ الزُّورِ وقذْفَ المؤمنين والمؤمنات، واغتيابَهم بما ليس فيهم، ومنه قوله ﷺ:
«أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟» قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ»، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ»[3].
2- ثم أخبَرهم ﷺ أنَّ مَن ثبَت منهم على ما بايَع عليه فله الأجرُ من اللهِ تعالى، وهو رضوانُه جلَّ وعلا ودخولُ الجنَّة، قال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}
ومَن أصاب شيئًا ممَّا نهى اللهُ عنه من الحُدُودِ، فأُخِذَ به في الدنيا وأُقيم عليه الحدُّ فيه، فهو تَطهيرٌ لنفسِه من الذنْب ومُسقِطٌ عنه العقوبة في الآخرة؛ فمَن أُقيم عليه حدُّ الزنا أو السَّرقة أو شرب الخمر أو القذف ونحو ذلك في الدُّنيا، لم يُعاقَب عليه في الآخرة. ومَن ستَره اللهُ عزَّ وجلَّ فلم يُؤاخَذ بذنْبه ذلك في الدُّنيا، فأمرُه إلى الله تعالى؛ إن شاء عذَّبه بذنْبِه ذاك ثم أدخله الجنة، وإن شاء غفَر له.
اتباع:
1- (1) التوحيدُ أعظمُ الطاعاتِ التي يتقرَّب بها العبدُ إلى الله، ولهذا كان «أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»[4]، والشركُ أكبرُ الكبائرِ، وهو الظُّلْمُ العظيمُ الذي لا يَغفِره الله سبحانه. فعلى كلِّ مسلم أن يُصحِّح توحيده لله تعالى، ويُهَذِّبه مِن دقائق الشِّرك.
2- (1) بدأ النبيُّ ﷺ بالأهمِّ فالمُهم، فابتدَأ البيعةَ بالتوحيد ونبْذِ الشِّرك، ثم ثنَّى بالزنا والسرقة والقتل ونحوها. فعلى الدَّاعية والعالم والمُرَبِّي أن يَحرِص على أهمِّ الأمورِ، فيُقدِّمها على غيرها.
3- (1) المؤمنُ لا يَسرقُ أبدًا، ولا يَتطلَّع إلى ما ليس عنده، بل يَعلم أنَّ اللهَ تعالى قسَّم الأرزاقَ بحكمتِه، وأنَّ رِزقَه مكتوبٌ في اللَّوح المحفوظ قبْل أن يخلُق اللهُ تعالى السماوات والأرض.
4- (1) المؤمن يَعلمُ أنَّ اللهَ تعالى سيُحاسِبه على ماله؛ مِن أين اكتسَبه وفِيمَ أنفقه؟ ولهذا فهو أبعدُ النَّاسِ عن أخذ مالِ النَّاس بغير وجه حقٍّ.
5- (1) المؤمنُ يَتجنَّب الزِّنا؛ فهو يَعلمُ أنَّ اللهَ تعالى حرَّم الزِّنا، وشدَّد في تحريمه حتى جعَله من الكبائر، فعن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ، قال:
سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ». قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ». قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ»[5]
وتصديقُ ذلك من كتابِ اللهِ جلَّ وعلا:
{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا}
6- (1) قتلُ النفسِ جريمةٌ عظيمةٌ عند الله تعالى، توعَّد سبحانه القاتلَ بأشدِّ العقوبات، قال سبحانه:
{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}
فلا يجوزُ لمسلمٍ أن يَستبيحَ دماءَ النَّاس بغير وجهِ حقٍّ، كما أنَّه لا يُعقَل أن يُقدِم عاقلٌ على القتل وقد عَلِم هذا العقاب الأليمَ الذي يَنتظِره في الآخرة.
7- (1) الإيمانُ باللهِ تعالى والرضا بقَضائه أصلُ السعادةِ والرَّاحة في الدنيا؛ فالعبدُ إذا عَلِم أنَّ رزقَه بيَدِ الله تعالى، لا يُؤثِّرُ عليه كثرةُ النَّسل أو قِلتُه، ولاطْمَأنَّ وارتاح قلبُه، ولم يَنزعِج بكثرة أولاده، فضلًا عن أن يَقتُلهم خَوف الفقر.
8- (1) إذا كان القتلُ كبيرةً من الكبائر، فقتلُ الأولادِ أعظم جُرمًا؛ إذ فيها قطيعةُ الأرحام والشَّحناء بين الأهل، وخَراب البيوت، فضلًا عن سُوء الظنِّ باللهِ عزَّ وجل.
9- (1) إثارةُ الشائعاتِ واختلاقُها ونشرُها من غيرِ تأكُّدٍ منها يخالِفُ الدِّينَ القويمَ، ولهذا نهانا اللهُ عزَّ وجلَّ عن ذلك فقال:
{وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
وتوعَّد مُثِيري الفتنِ بقوله جلَّ جلالُه:
{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}
10- (1) قيَّد النبيُّ ﷺ وجوبَ طاعته في المعروف، مع أنَّه ﷺ لا يَأمر إلا بالمعروف؛ ليكون ذلك أصلًا في جميع الطاعات؛ فلا يجوزُ أن تُطِيع أحدًا أيًّا كان – والدًا أو وليَّ أمرٍ أو نحوهما – إلا في المعروف، فلا طاعةَ لمخلوقٍ في مَعصية الخالِق.
11- (2) إقامة الحدِّ كفَّارةٌ لصاحبه، فلا يجوز لمسلمٍ أن يسُبَّ رجلًا أُقيم عليه الحدُّ، فلمَّا سبَّ خالدٌ رضي الله عنه المرأةَ التي أُقِيم عليها الحدُّ، قال النبيُّ ﷺ له:
«مَهْلًا يَا خَالِدُ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ»[6].
12- (2) اعلم أنَّ حقوقَ العبادِ لا تَسقُط بمجرَّد التَّوبة، بل حتى تُرَدَّ المظالِمُ إلى أهلها، فاحرِص على التَّحَلُّلِ من ذنوب النَّاس قبل أن يكونَ التراضِي بالحسناتِ والسيئات.
13- (2) يُستحَبُّ للمسلم إذا اقترَف ذنْبًا أن يَستُر نفسَه ويتوبَ إلى اللهِ تعالى ولا يُعَرِّض نفسَه لإقامةِ الحدِّ والتعرُّض للفضيحة؛ فقد جاء ماعزٌ إلى أبي بكرٍ الصدِّيق رضي الله عنهما، فأخبَره أنه قد زنى، فقال أبو بكر: هل ذكرتَ هذا لأحدٍ غيري؟ قال: لا. قال: فتُبْ إلى الله واستَتِرْ بسَترِ الله؛ فإن الله يَقبل التوبةَ عن عباده، فلم تُقِرَّه نفسُه حتى أتى عمر بن الخطَّاب، فقال له كما قال أبو بكر، فلم تُقِرَّه نفسه حتى أتى رسول الله ﷺ فأقام عليه الحدَّ[7].
المراجع
- رواه البخاريُّ (4477)، ومسلم (86).
- رواه البخاريُّ (2475)، ومسلم (100).
- رواه مسلم (2589).
- رواه الترمذي (3383)، وابن ماجه (3800).
- رواه البخاري (4477)، ومسلم (86).
- رواه مسلم (1695).
- رواه النسائي في السنن الكبرى (16999)، عن سعيد بن المسيب رحمه الله مرسلًا.