93 - الحُدودُ والتَّعزِيراتُ

عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي رَهْطٍ، فَقَالَ: «أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلا تَسْرِقُوا، وَلا تَزْنُوا، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ، وَلا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلا تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأُخِذَ بِهِ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَطَهُورٌ، وَمَنْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَذَلِكَ إِلَى اللَّهِ؛ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ».

فوائد الحديث

الفوائد العلمية

1. في الحديث يروي عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ - رضي اللَّه عنه - عمَّا حصل في ليلة العقبة من مبايعة النُّقباء للنبيِّ ﷺ في تلك الليلة.

2. النُّقَباء: جمع (نقيب)، وهو عرِّيف القَوم وناظرُهم، والْمُراد الذين اختارهم الأَوْسُ والخَزْرَج نُقَباءَ عليهم بطلب من النبيِّ ﷺ وأقرَّهم على ذلك ليلةَ العقبة، وهي الليلة التي بايع فيها ﷺ الذين آمنوا من الأَوْسِ والخزرج على النُّصرة، وهي بيعة العقبة الثانية، وكان ذلك عند جمرة العقبة بمِنى.

3. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ:

«اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلاَتِ»[1]. 

4. شرع الله تعالى حدودًا على بعض المعاصي الكبيرة؛ حمايةً للمجتمع، وقطعًا للفساد، كما أن فيها تكفيرًا لذنوب صاحبها، فحدود الشرع موانعُ، وزواجِرُ عن ارتكاب أسبابها، وقد اقتضت حِكمة الشرع تشريع هذه الحدود؛ حسمًا لهذه الكبائر أن تستشريَ، وزجرًا عن ارتكابها؛ حتى يظلَّ العالم على طريق الاستقامة والأمان؛ فإن عدم وجود الزواجر والعقوبات يؤدِّي إلى استشراء الفساد والانحراف، وفيه من الفساد ما لا يخفى، فمتى عَلِم الحاكم بمُجرِم استحقَّ عقوبةَ الحدِّ، فإنه يجب عليه التنفيذ، ولا يَملِك العفوَ عنه.

5. الحدود في الإسلام ثابتة بآيات القرآن الكريم؛ مثل: آية الزنا، وآية السَّرِقة، وآية قذف المحصنات، وآية المحاربة، وثابتة بالسنَّة الصحيحة والمتواترة، وفعل رَسُول اللَّهِ ﷺ؛ مثل حديث ماعز، وحديث الغامدية، وغيرها من الأحاديث الثابتة، وثابتة بفعل الصحابة - رضي اللَّه عنهم - وعليها إجماع الأمَّة. 

6. الجرائمُ الكبرى التي رتَّب عليها الشارع عقوباتٍ محدَّدةً، فتستوجب الحدَّ هي في الجُملة: الزنا، ومثلُه اللواط، والسرقة، والقذف، وشُرب الخمر، والحِرابة، والرِّدَّة. وللفقهاء تفصيلاتٌ كثيرة في كيفية إثبات هذه الجرائم وعقوباتها.

المراجع

  1. رواه البخاريُّ (6857)، ومسلم (89).


الفوائد العقدية

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}

[البقرة: ١٧٨ – ١٧٩]

7. الشِّرْكُ بِاللَّهِ هو اتِّخَاذ إلَهٍ غير الله، وهو أعظم الكبائر على الإطلاق؛ فإن الشرك لظُلمٌ عظيم؛ قال الله تعالى:

{ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }

[لقمان: 13]

8. إن أعظم الموبقات أن تُشرك بالله عزَّ وجلَّ، وهو خَلَقك وأَنعَم عليك في بطن أمِّكَ، وبعد وَضعك وفي حال صِباكَ، أَنعَم الله عليك بنِعَم كثيرة، فتُشرك به؛ عن عَبْدِاللهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ:

سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ». قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ... [1]

9. نفى الله تعالى الإيمانَ عن السارق والزاني وشارب الخمر؛ قال ﷺ:

«لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ»[2].

"والمراد بنَفي الإيمان نفيُ بُلوغ حقيقته ونهايته؛ فإن الإيمان كثيرًا ما يُنْفى لانتفاء بعض أركانه وواجباته"[3].

10. من سَتَره الله في الدّنيا، ولم يعاقَب على معصيته، فهو تحت مشيئة الله تعالى، إن شاء غَفَر له هذه المعصية بفضله، فأدخله الجنّة دون عقاب، وإن شاء، عاقَبَه بالعذاب على جنايته في النار، ثم أخرجه منها، وأدخله الجنَّة.

المراجع

  1. رواه البخاريُّ (4477)، ومسلم (86).
  2. رواه البخاريُّ (2475)، ومسلم (100).
  3. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 302).


الفوائد الفقهية

11. إذا تاب السارقُ بعدَ ما قُطِع يَدُه، قُبلت شَهادَتُه، وكلُّ محدود كذلك إذا تاب، قُبلت شهادته[1].

12. ذهب أكثرُ العلماء إلى أن الحدود كفَّارةٌ؛ لهذا الحديث[2].

13. تنقسم العقوباتُ في الشريعة الإسلامية إلى ثلاثة أقسام؛ هي: الحدود، والقصاص، والتعزير.

14. القِصَاص: هو معاملةُ الجاني بمثل اعتدائه؛ فإن القصاص معناه المماثَلة، ولا يُسمَّى القصاصُ حدًّا؛ لأنه حقٌّ للعبد، له أن يعفوَ عنه؛ قال تعالى:

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}

[البقرة: ١٧٨ – ١٧٩]

15. التَّعْزير: هو تأديبٌ على ذنب لا حدَّ فيه، ولا كفَّارةَ له.

16. الحدُّ في الشَّرع: هو عقوبةٌ مقدَّرة لأجل حقِّ الله، فيَخرُج التَّعْزِير؛ لعدم تقديره، والقصاصُ؛ لأنه حقٌّ لآدميٍّ[3].

17. حدُّ الزنا ثابت بالقرآن والسنَّة والإجماع، والزّناة تختلف العقوبة باختلاف أصنافهم: بِكر وثَيِّب، وذكور وإناث. والحدود ثلاثة: رجم، وجَلد، وتغريب.

18. البكرُ: هو الذي لم يطأ في نكاح صحيح، وقد أجمعوا على أنّ حدَّ البكر في الزِّنا جلد مِائة؛ لقوله تعالى:

{ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ }

[النور: ٢]

واختلفوا في التّغريب مع الجلد؛ فقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تغريب أصلًا، وقال الشّافعيُّ: لا بدَّ من التّغريب مع الجلد لكلِّ زانٍ، ذكرًا كان أو أنثى، حرًّا كان أو عبدًا. وقال مالكٌ: يغرَّب الرَّجل، ولا تغرَّب المرأة.

19. أجمعوا على أنّ حدَّ الثّيِّب الرّجم إلَّا فرقةً من أهل الأهواء؛ فإنّهم رأوا أنّ حدَّ كلِّ زانٍ الجلد، وإنّما صار الجمهور للرّجم؛ لثبوت أحاديث الرّجم، ومنها رجم النبيِّ ﷺ ماعزًا والغامدية، وأحاديثهما في الصحيحين.

20. يَثبُت الزنا بالإقرار أو بأربعة شهود عدول، يَرَون الإيلاج بالفعل بمعاينة فَرْجِه في فرجها، وأن تكون الشهادةُ بالتصريح، لا بالكِناية.

21. اللواط: وهو داخلٌ في معنى الزنا، واختلفوا في حد اللائط، والصحيح هو قتلُه بكلِّ حال، مُحصَنًا أم غيرَ محصَن، فاعلًا أو مفعولًا به، بشرط أن يكون مكلَّفًا، وألا يكون مُكرَهًا، وعلى ذلك إجماع الصحابة، وإن اختلفوا في صفة قتلِه.

22. حدُّ القذف: وهو الرَّمْيُ بزِنًا أو ِلواط، أو الشَّهادةُ بذلك ولم تكتمِل البيِّنة، وقد اتَّفَقوا على وجهين في القذف الّذي يجب به الحدُّ؛ أحدُهما: أن يرميَ القاذفُ المقذوف بالزّنا، والثّاني: أن ينفيَه عن نسبه إذا كانت أمُّه حرَّةً مسلمةً.

23. اتَّفقوا على أنّ من شروط القاذف وصفين، وهما البلوغ والعقل، وسواء أكان ذكرًا أو أنثى، حرًّا أو عبدًا، مسلمًا أو غير مسلم.

24. اتّفقوا على أنّ من شروط المقذوف أن يجتمع فيه خمسة أوصاف، وهي: البلوغ، والحرّيّة، والعَفاف، والإسلام، وأن يكون معه آلة (عضو) الزِّنا، فإن انخرم من هذه الأوصاف وصف، لم يَجِب الحدُّ.

25. حدُّ القاذف جَلْده ثمانين جلدةً؛ كما قال تعالى:

{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}

[النور: 4]

26. إن كان القاذفُ هو الزوجَ، لم يُقَم عليه الحدُّ؛ بل يؤمَر بالْمُلاعَنة مع زوجته، فإن تلاعَنا، فرَّق القاضي بينهما.

27. السَّرقة: هي أخذ مال الغير مستتِرًا من غير أن يؤتمن عليه، فقد أجمعوا أنّه ليس في الخيانة ولا في الاختلاس قطعٌ إلّا إياسَ بنَ معاويةَ، فإنّه أوجب في الخلسة القطع.

28. السّارق الّذي يجب عليه حدُّ السَّرقة اتَّفَقوا على أنّ من شروطه أن يكون مكلَّفًا، وسواءٌ أكان حرًّا أو عبدًا، ذكرًا أو أنثى، مسلمًا أو ذِمِّيًّا.

29. المسروق له شرائطُ مختلَفٌ فيها، من أشهرها اشتراط النّصاب، وذلك أنّ الجمهور على اشتراطه في وجوب القطع، واختلفوا في قدره اختلافًا كثيرًا، ما بين درهمين، وعشَرةِ دراهمَ من الفضَّة، وربع دينار من الذّهب.

30. إذا توفَّرت شروط وجوب الحدِّ على صاحبها، وَجَب قطع يَدِه من مِفْصَل الكفِّ اليُمنى في المرَّة الأولى، وفي الثانية تُقطَع رجلُه من نصف القَدَم، وفي الثالثة قيل: تُقطَع يده الأخرى، وقيل: يُسجَن حتى يتوب.

31. شُرب الخمر: اتَّفَقوا على أن موجِب الحدِّ هو شُرب الخَمر دون إكراه، قليلِها وكَثيرِها، واختلفوا في المسكِرات من غيرها إلى فريقين، فقال أحدهما: حُكْمُها حُكم الخمر في تحريمها، وإيجابِ الحدِّ على مَن شَرِبها، قليلًا كان أو كثيرًا، أسكر أو لم يُسكِر. وقال الفريق الثاني: المحرَّم منها هو السُّكْر، وهو الّذي يوجِب الحدَّ.

32. الواجب في شارب الخمر هو الحدُّ والتَّفْسِيق، إلّا أن يتوب، والتّفسيقُ في شارب الخمر باتّفاق وإن لم يَبلُغ حدَّ السُّكْرِ، وفيمن بلغ حَدَّ السُّكر فيما سوى الخمر، واختلف الّذين رأوا تحريم قليل الأَنبِذة في وجوب الحدِّ، وأكثرُ هؤلاء على وجوبه.

33. اختلفوا في مقدار الحدِّ الواجب في شرب الخمر، فقال الجمهور: الحدُّ في ذلك ثمانون جلدةً، وقال الشّافعيُّ، وأبو ثور، وداودُ: الحدُّ في ذلك أربعون جلدةً.

34. الْمُرْتدُّ إذا ظُفر به قبل أن يحارِب، اتَّفَقوا على أنّه يُقتَل الرّجل؛ لقوله ﷺ:

«مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»[4]

واختلفوا في قتل المرأة، وهل تُستتاب قبل أن تُقتَل؟ فقال الجمهور: تُقتَل المرأة؛ حيث اعتمدوا العمومَ الوارد في ذلك، وقال أبو حنيفة: لا تُقتل، وشبَّهها بالكافرة الأصليَّة. وأمّا الاستتابةُ، فإنَّ مالكًا شَرَط في قتل المرتدِّ ذلك.

35. إذا حارب المرتدُّ، ثمّ ظُهر عليه، فإنّه يُقتَل بالحِرابة، ولا يُستتاب، كانت حِرابته بدار الإسلام، أو بعد أن لحق بدار الحرب، إلَّا أن يُسلِم.

36. اختُلِف في حُكم السّاحر، فقال مالكٌ: يُقتَل كُفرًا، وقال قوم: لا يُقتَل، والأصلُ أن لا يُقتَل إلّا مع الكُفر.

37. الحِرابة: اتَّفَقوا على أنّها إشهار السِّلاح، وقطع الطريق.

38. حدُّ الحرابة هو القتل، والصَّلب، وقطع الأيدي، وقطع الأرجل من خلاف، والنّفيُ، على ما نصَّ اللّه تعالى في آية الحرابة. واختلفوا في هذه العقوبات، هل هي على التّخيير أو مرتَّبةٌ على قدر جناية المحارِب؟ فقال مالك: إن قَتَل فلا بدَّ من قتله، وليس للإمام تخيير في قَطْعِه ولا في نَفْيِه؛ وإنّما التّخيير في قتله أو صَلْبِه، وأمّا إن أخذ المال، ولم يَقتُل، فلا تخيير في نفيِه؛ وإنّما التّخييرُ في قتله، أو صَلبه، أو قَطعه من خلاف، وأمّا إذا أخاف السّبيلَ فقط، فالإمام عنده مخيَّر في قتله، أو صلبه، أو قطعه، أو نفيه. وذهب الشّافعيُّ، وأبو حنيفةَ، وجماعة من العلماء إلى أنَّ هذه العقوبة هي مرتَّبةٌ على الجنايات المعلومِ من الشّرع ترتيبُها عليه، فلا يُقتَل من المحاربين إلّا من قَتَل، ولا يُقطَع إلّا من أخذ المال، ولا يُنفى إلّا من لم يأخذ المال ولا قَتَل. وقال قوم: بل الإمام مخيَّر فيهم على الإطلاق، وسواءٌ قَتَل أم لم يقتل، أخذ المال أو لم يأخذه.

39. القتل: يُدخِله الفقهاء فيما يُسمَّى بالجنايات، وليس من باب الحدود، وهو ثلاثة أنواع: عَمْدٌ، وشِبْهُ عَمْدٍ، وخطأ.

40. القتل العمدُ عقوبتُه القِصَاص بالقتل، أو الدِّيَة، وهي مِائةٌ من الإبل، أو يعفو أولياءُ الدَّمِ.

41. القتل شِبْهُ العَمد: هو أن يَقصِد القاتل إنسانًا بجناية لا تَقتُل غالبًا؛ كمن ضَرَب غيرَه بسَوط أو لَكَمَه، فمات، وعقوبتُه الكفَّارةُ على الجاني (وهي تحرير رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين)، والدِّيَةُ على عاقِلَته؛ أي: أهلِه من جِهَة أبيه.

42. القتلُ الخَطَأ: مثلُ أن يرميَ صَيْدًا بسلاح فيُصيب إنسانًا لا يَقصِد قَتْلَه فيَقتُله، وفيه الكفَّارة على الجاني، والدِّية على عاقلته؛ قال تعالى:

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً ۚ وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا ۚ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۖ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}

[النساء: 92]

المراجع

  1. صحيح البخاريِّ (8/ 162) حديث رقم (6801).
  2. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيّ (1/ 157).
  3.  "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (7/ 146).
  4. رواه البخاريُّ (3017).


الفوائد اللغوية

43. قوله: «ببهتان»: البُهتان بالضّمِّ: الكَذِب الّذي يَبهَتُ سامعَه؛ أي: يُدهِشه لفظاعته، يقال: بَهَته بُهتانًا إذا كَذَب عليه بما يَبهَته من شدَّة نُكره

44. قوله: «تفترونه» من الافتراء، وهو الاختلاق، والفِرْية: الكذب. يقال: فَرى فلان كذا، إذا اختَلَقه، وافتراه: اختلقه، والاسم: الفِرْية، وفلان يَفْري الفِرى، إذا كان يأتي بالعَجَب في عمله؛ قال تعالى:

{ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا }

[مريم: 27]

 أي: مصنوعًا مختلَقًا، ويقال: عظيمًا[1].

45. المعروف: هو اسمٌ جامع لكلِّ ما عُرِف من طاعة الله تعالى، والإحسان إلى النّاس، وكلِّ ما نَدَب إليه الشَّرع ونهى عنه من المحسِّنات والمقبِّحات[2].

46. الحدُّ لغةً: الْمَنْع، ومنه سُمِّي البوَّاب حدَّادًا، وسُمِّيت عقوباتُ المعاصي حدودًا؛ لأنها تمنع العاصيَ من العَود إلى تلك المعصية التي حُدَّ لأجلها في الغالب، وأصلُ الحدِّ الشيءُ الحاجز بين الشيئين، ويُقال على ما ميَّز الشيءَ عن غيره، ومنه حدودُ الدار والأرض، ويُطلَق الحدُّ أيضًا على نفس المعصية، ومنه قوله تعالى:

{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا } 

[البقرة: ١٨٧]


المراجع

  1. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيّ (1/ 154، 155). 
  2. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيّ (1/ 155).


مشاريع الأحاديث الكلية