غريب الحديث
المنكَرُ: كلُّ ما قبَّحه الشرعُ وكرِهه وحرَّمه[1].
المراجع
- انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (5/ 115).
المعنى الإجماليُّ للحديث
قال طَارِقُ بْنُ شِهَابٍ - وهو تابعيٌّ -: [أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالخُطْبَةِ يَوْمَ العِيدِ قَبْلَ الصَّلاةِ مَرْوَانُ]؛ أي: إن مَرْوانَ بنَ الحَكَم خاف من انصراف الناس بعد صلاة العيد، فأراد أن يبتدع بتقديم خُطبة العيد على الصَّلاة. [فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ]؛ أي: فقام إليه رجل فأنكر عليه بدعته. [فَقَالَ: الصَّلاةُ قَبْلَ الخُطْبَةِ]؛ أي: الصلاة قبل الخُطبة في السُّنَّة. [فَقَالَ: قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ]؛ أي: فردَّ مروان عليه: قد تُرِك ما استَقرَّ في ذلك الزمان مِن تقديم الصلاة على الخُطبة، فقال أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: [أمَّا هذا فقد قضى ما عليه]؛ أي: أدَّى الواجبَ المكلَّفَ به. سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ»؛ أي: من رأى من المسلمين المكلَّفين منكَرًا ظاهرًا فليغيِّرْه بيده إن استطاع، فإنْ لم يستطعْ تغيير المنكَر وإزالته باليد، فليغيِّره بلسانه، وذلك ببيان حكم المنكَر والزجر عنه، ولوم فاعله، ودعوته إلى التوبة. «فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ» أي: فإنْ لم يستطعْ تغيير المنكر وإزالته باليد ولا باللسان، غيَّره بقلبه، ومعناه: أن يَكره ذلك الفعل بقلْبِه، ويعزِم على أن لو قدَر على التغيير لَغيَّره، وهذه آخِرُ خَصلةٍ من الخصال المتعيِّنة على المؤمن في تغيير المنكَر.
الشرح المفصَّل للحديث
الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر من أعظم العبادات التي يتقرَّب بها العبد إلى الله، وهو سبب خيريَّة هذه الأُمة
﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾
وفي هذا الحديث يَرْوي التابعيُّ طارقُ بن شهاب: أن مرْوانَ بن الحكم عاملَ أميرِ المؤمنين معاويةَ على المدينة آنذاك، أراد أن يبتدِع بدعةً جديدةً منكَرةً لم تَرِد عن النبيِّ ﷺ، ولم يعمَلْ بها أحدٌ من أصحابه، وهي تقديمُ الخُطبة يوم العيد على الصَّلاة، وذلك خلافُ ما كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابُه، والذي حمَله على هذا أنه خاف إن قدَّم الصلاةَ أن ينصرِف الناس دونَ أن يسمَعوا خُطبتَه، فقدَّم الخُطبة[1]. وقول طارق بن شهاب: [أوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالخُطْبَةِ يَوْمَ العِيدِ قَبْلَ الصَّلاةِ مَرْوَانُ] يدُلُّ على أن هذا العمل ما فعَله أحدٌ من قبْلُ مِن الخلفاء الراشدين ﭫ أجمعين[2].
فلمَّا أراد مَرْوانُ أن يفعَلَ ذلك قام إليه رجُلٌ، لم يمنَعْه سلطانُ ذلك الأمير، ولا نفوذُه من أمرِه بالمعروف، ونهيِه عن المنكَر، فقال: [الصَّلَاةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ]؛ أي: إنَّ سُنةَ النبيِّ ﷺ والخلفاءِ من بعده أن تكون صلاة العيد قبل الخُطبة، وذلك على عكسِ صلاة الجمُعة، فردَّ عليه مرْوانُ بقولِه: [قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ]؛ أي: تُرِك ما استَقرَّ في ذلك الزمان مِن تقديم الصلاة على الخُطبة، فقال أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: [أمَّا هذا فقد قضى ما عليه]؛ أي: أدَّى الواجبَ المكلَّفَ به، وهنا قد يُقال: "كيف يتأخَّر أبو سعيدٍ عن إنكار هذا المنكَر حتَّى سبَقه إليه هذا الرَّجلُ؟ وجوابُه: أنَّه يَحتمل أنَّ أبا سعيدٍ لم يكن حاضرًا أوَّل ما شرَع مرْوانُ، فأنكر عليه الرَّجل، ثمَّ دخل أبو سعيد وهما في الكلام. ويَحتمل أنَّه كان حاضرًا ولكنَّه خاف حصول فِتنةٍ بإنكاره، أو أنَّه همَّ بالإنكار فسبَقه الرُّجلُ فعضَّده أبو سعيد، وعلى كلٍّ فهناك روايةٌ أُخرى جاء فيها أنَّ أبا سعيد هو الَّذي جبَذ يدَ مرْوانَ حين رآه يصعَد المنبرَ، فردَّ عليه مرْوانُ بمثل ما ردَّ على الرَّجُل"[3].
ثمَّ قال أبو سعيد الخُدْريُّ: [سَمِعتُ رسول الله ﷺ]، وهذا القول يَحمل قوَّة الدَّليل في الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكَر؛ فمِن المعلوم يقينًا أنَّ أعلى المصادر في التَّشريع وبيان أبواب الحلال والحرام: كتابُ الله سبحانه، ثمَّ في المنزلة الثانية سُنَّة رسول الله ﷺ الذي لا ينطِق عن الهوى؛ إنْ هو إلا وَحيٌ يُوحَى، ولا شكَّ أنَّ السَّماع أقوى حُجَّةً من النَّقل عن الغير؛ فإنَّه يكون يَقينيَّ الثُّبوت؛ خاصَّةً إذا كان من رجُلٍ عَدْل من أصحاب النبيِّ ﷺ الذين شهِد الله لهم في كتابه بالصِّدق والإخلاص.
قوله ﷺ: «مَن رأى منكم مُنكَرًا فليغيِّرْه بيده» هذا الأمر على الوجوب؛ لأنَّ الأمرَ بالمعروف والنَّهيَ عن المنكر من واجبات الإيمان، ودعائم الإسلام، بالكتاب، والسُّنة، وإجماع الأمَّة، وهو واجبٌ على الكفاية، مَن قام به، أجزأ عن غيره، ولوجوبه شَرْطان؛ أحدهما: العلم بكون ذلك الفعل منكَرًا أو معروفًا، والثَّاني: القُدرة على التَّغيير، فإذا كان ذلك، تَعيَّن التَّغيير باليد إن كان ذلك المنكَرُ ممَّا يَحتاج في تغييره إليها؛ مثل: كَسْر أواني الخمر، وآلات اللَّهو؛ وكمنع الظَّالم من الضَّرْب والقتل، وغير ذلك، فإن لم يَقدِر بنفْسه استعان بغيره، فإن خاف من ذلك ثَوَران فتنةٍ، وإشهار سلاح، تعيَّن رفْعُ ذلك إلى الإمام[4].
ثم إن الأمر بالمعروف والنهيَ عن المنكر فرضُ كِفايةٍ، إذا قام به مَن يكفي سقَط عن الباقي، وإذا تركه الجميعُ أثِم كلُّ مَن تمكَّن منه بلا عُذْر.
ثم إنه قد يتعيَّن، كما إذا كان في موضعٍ لا يَعلم به إلا هو، أو لا يتمكَّن مِن إزالته إلا هو، وكمَن يرى زوجته أو ولده أو غُلامه على منكَر ويُقصِّر[5].
والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر واجبٌ حتى وإن ظنَّ القائمُ بذلك أن فِعلَه لن يُجديَ شيئًا، وأن قوله لا يُسمع
﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾
والمسلِم عليه الأمر والنهي، وليس عليه القَبول
﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾
وكذلك لا يختصُّ الأمرُ بالمعروف والنهى عن المنكر بالوُلاة والحكَّام؛ بل ذلك واجبٌ على آحاد المسلمين؛ فواجبٌ على المسلم أن يأمر وينهى، ما دام عالِمًا بما يأمُر به ويَنْهى عنه، فإن كان من الأمور الظاهرة - مثل: الصلاة والصوم، والزنا وشرب الخمر، ونحو ذلك - فكلُّ المسلمين علماءُ بها، وإن كان مِن دقائق الأفعال والأقوال، وما يتعلَّق بالاجتهاد، ولم يكنْ للعوامِّ فيه مدخلٌ، فليس لهم إنكاره؛ بل ذلك للعلماء[6].
قال ﷺ: «فإنْ لمْ يَستَطِعْ فبِلِسانِه»؛ أي: فإن لم يَقدِرْ على التغيير وإزالةِ المنكَر بيدِه، غيَّر بالقول المرْتَجى نفعُه، مع لِينٍ أو إغلاظ، حسَبَ ما يكون أنفعَ، وقد يبلغ في الإصلاح والتغيير بالرِّفق والسِّياسة إلى ما لا يبلغ بغيره[7].
وحدُّ الاستطاعة في الإنكار: ألَّا يخاف المنكِر سوطًا ولا عصًا، فحينئذٍ يجب عليه التغيير باليد، فإن خاف السَّوْطَ في تغييره باليد ولم يخَفْه في النُّطق، انتقل الوجوب إلى الإنكار باللسان[8].
وقوله ﷺ: «فإنْ لمْ يَستَطِعْ فبِقَلْبِه»؛ أي: فإنْ لم يستطعْ تغيير المنكر وإزالته باليد ولا باللسان، غيَّره بقلبه، ومعناه: أن يَكره ذلك الفعل بقلْبِه، ويعزِم على أن لو قدَر على التغيير لَغيَّره[9].
وقوله ﷺ: «وذلك أضْعَفُ الإيمانِ» هذه آخِرُ خَصلةٍ من الخصال المتعيِّنة على المؤمن في تغيير المنكَر؛ وهي المعبَّر عنها في الحديث بأنَّها أضعفُ الإيمان؛ أي: أضعَفُ خِصال الإيمان، ولم يبْقَ بعدها للمؤمن مرتبةٌ أُخرى في تغيير المنكَر؛ ولذلك قال ﷺ في الرِّواية الأُخرى: «لَيسَ وَراءَ ذلكَ مِن الإيمانِ حَبَّةُ خَردَلٍ»[10]؛ أي: لم يبْقَ وراءَ هذه الرُّتبةِ رتبةٌ أُخرى، وفي هذا الحديث دليلٌ على أنَّ مَن خاف على نفْسِه القتلَ أو الضَّرر، سقط عنه التَّغْيير، وهو مذهَب المحقِّقين سلَفًا وخلَفًا[11].
المراجع
- انظر: "كشف المشكل من حديث الصحيحين" لابن الجَوْزيِّ (2/ 173).
- انظر: "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنَّووي (2/ 21) بتصرُّف يسير.
- "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنَّوويِّ (2/ 22) بتصرُّف يسير.
- انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (1/ 233، 234).
- "شرح الأربعين النووية" لابن دقيقِ العيد (ص: 112).
- انظر: "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنَّووي (2/22- 23).
- انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (1/ 234).
- " كشف المشكل من حديث الصحيحين" لابن الجَوزيِّ (3/ 174).
- انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (1/ 234).
- رواه مسلم (50).
- انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبي (1/ 234).
النقول
قال ابن حجر رحمه الله: "فقال أبو سعيد: [أمّا هذا فقد قضى ما عليه]، وهذا ظاهر في أنّه غيرُ أبي سعيد، وكذا في رواية رجاء عن أبي سعيد الّتي تقدَّمت في أوّل الباب، فيُحتمَل أن يكون هو أبا مسعود الّذي وقع في رواية عبد الرّزّاق أنّه كان معهما، ويحتمل أن تكون القصّة تعدَّدت، ويدلُّ على ذلك المغايرة الواقعة بين روايتَيْ عياض ورجاء، ففي رواية عياض أنّ المنبر بُني بالمصلَّى، وفي رواية رجاء أنّ مروان أخرج المنبر معه؛ فلعلّ مروانَ لَمّا أنكروا عليه إخراج المنبر ترك إخراجه بعد وأمر ببنائه من لبن وطين بالمصلّى، ولا بعد في أن يُنكر عليه تقديم الخُطبة على الصلاة مرّةً بعد أخرى، ويدلُّ على التّغاير أيضًا أنّ إنكار أبي سعيد وقع بينه وبينه وإنكار الآخر وقع على رؤوس النّاس قوله: إنّ النّاس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصّلاة فجعلتها – أي: الخطبة - قبل الصّلاة. وهذا يُشعر بأنّ مروان فعل ذلك باجتهاد منه، وسيأتي في الباب الّذي بعده أنّ عثمان فعل ذلك أيضًا؛ لكن لعلّة أخرى"[1].
قال ابنُ دقيقِ العيد رحمه الله: "ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضُ كِفايةٍ، إذا قام به مَن يكفي سقَط عن الباقي، وإذا تركه الجميعُ أثِم كلُّ مَن تمكَّن منه بلا عُذْر. ثم إنه قد يتعيَّن، كما إذا كان في موضعٍ لا يَعلم به إلا هو، أو لا يتمكَّن مِن إزالته إلا هو، وكمَن يرى زوجته أو ولده أو غُلامه على منكَر ويُقصِّر"[2].
قال النوويُّ رحمه الله: " ثمّ إنّ الأمر بالمعروف والنّهيَ عن المنكر فرض كفاية، إذا قام به بعض النّاس سقط الحَرَج عن الباقين، وإذا تركه الجميع أَثِم كلُّ من تمكَّن منه بلا عُذر ولا خوف، ثمّ إنّه قد يتعيَّن كما إذا كان في موضع لا يَعلَم به إلا هو، أو لا يتمكَّن من إزالته إلّا هو، وكمن يرى زوجته أو ولده أو غلامه على منكَر أو تقصير في المعروف، قال العلماء رضي اللّه عنهم: ولا يسقط عن المكلَّف الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنّه؛ بل يجب عليه فعله؛ فإنّ الذّكرى تنفع المؤمنين، وقد قدَّمنا أنّ الّذي عليه الأمر والنّهي لا القَبول
{ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ}
قال ابن حجر رحمه الله: "وفي هذا الحديث من الفوائد: بُنْيانُ الْمِنبر. قال الزَّيْنُ بن المنير: وإنّما اختاروا أن يكون باللَّبِن لا من الخشب؛ لكونه يُترَك بالصحراء في غير حِرز فيؤمن عليه النَّقل، بخلاف خشب مِنبر الجامع. وفيه أنّ الخُطبة على الأرض عن قيام في المصلَّى أولى من القيام على المنبر، والفرق بينه وبين المسجد أنّ المصلَّى يكون بمكان فيه فضاء فيتمكَّن من رؤيته كلُّ من حَضَر، بخلاف المسجد فإنّه يكون في مكان محصور، فقد لا يراه بعضهم. وفيه الخروج إلى المصلَّى في العيد وأنّ صلاتها في المسجد لا تكون إلّا عن ضرورة. وفيه إنكار العلماء على الأمراء إذا صنعوا ما يخالف السُّنَّة. وفيه حَلِف العالم على صدق ما يُخبر به، والمباحثة في الأحكام، وجواز عمل العالم بخلاف الأَوْلى إذا لم يوافقه الحاكم على الأَوْلى؛ لأنّ أبا سعيد حضر الخطبة ولم ينصرف، فيُستدلُّ به على أن البَداءة بالصّلاة فيها ليس بشرط في صحّتها، واللّه أعلم. قال ابن المنير في الحاشية: حَمَل أبو سعيد فعل النّبيِّ ﷺ في ذلك على التّعيين، وحمله مروان على الأولويّة، واعتذر عن ترك الأَولى بما ذكره من تغيُّر حال النّاس، فرأى أنّ المحافظة على أصل السُّنّة وهو إسماع الخطبة أَولى من المحافظة على هيئة فيها ليست من شرطها واللّه أعلم. واستُدلَّ به على استحباب الخروج إلى الصّحراء لصلاة العيد، وأنّ ذلك أفضل من صلاتها في المسجد؛ لمواظبة النّبيِّ ﷺ على ذلك مع فضل مسجده. وقال الشّافعيُّ في "الأمّ": بَلَغنا أنّ رسول اللّه ﷺ كان يخرج في العيدين إلى المصلَّى بالمدينة، وكذا مَن بعدَه إلّا من عُذر مطر ونحوه، وكذلك عامَّة أهل البُلدان إلّا أهلَ مكّة، ثمّ أشار إلى أنّ سبب ذلك سَعَة المسجد وضِيق أطراف مكّة. قال: فلو عُمِّر بلد فكان مسجد أهله يَسعَهم في الأعياد، لم أر أن يخرجوا منه، فإن كان لا يَسَعهم كُرِهت الصّلاة فيه، ولا إعادة، ومقتضى هذا أنّ العلَّة تدور على الضِّيق والسَّعة، لا لذات الخروج إلى الصّحراء؛ لأنّ المطلوب حصول عموم الاجتماع، فإذا حصل في المسجد مع أفضليته، كان أَولى"[4].
قال ابن الجَوزيِّ رحمه الله: "وحدُّ الاستطاعة في الإنكار: ألَّا يخاف المنكِر سوطًا ولا عصًا، فحينئذٍ يجب عليه التغيير باليد، فإن خاف السَّوطَ في تغييره باليد ولم يخَفْه في النُّطق، انتقل الوجوب إلى الإنكار باللسان"[5].
قال النوويُّ رحمه الله: "قال العلماء: ولا يُشتَرط في الآمر والناهي أن يكون كاملَ الحال، ممتثلًا ما يَأمُر به، مجتنبًا ما ينهى عنه؛ بل عليه الأمر وإن كان مخلًّا بما يأمر به، والنّهيُ وإن كان متلبِّسًا بما ينهى عنه؛ فإنّه يجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه وينهاها، ويأمر غيره وينهاه، فإذا أخلَّ بأحدهما، كيف يُباح له الإخلال بالآخر؟!"[6].
قال النوويُّ رحمه الله: "قال العلماء: ولا يختصُّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر بأصحاب الولايات؛ بل ذلك جائز لآحاد المسلمين؛ قال إمام الحرمين: والدّليل عليه إجماع المسلمين؛ فإنّ غير الولاة في الصّدر الأوّل والعصر الّذي يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكَر، مع تقرير المسلمين إيّاهم، وترك توبيخهم على التّشاغل بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر من غير ولاية واللّه أعلم، ثمّ إنّه إنّما يأمر وينهى من كان عالِمًا بما يأمر به، وينهى عنه، وذلك يختلف باختلاف الشّيء، فإن كان من الواجبات الظّاهرة والمحرَّمات المشهورة؛ كالصّلاة والصّيام والزّنا والخمر ونحوها، فكلُّ المسلمين علماءُ بها، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال وممّا يتعلَّق بالاجتهاد، لم يكن للعوامِّ مدخل فيه، ولا لهم إنكاره؛ بل ذلك للعلماء، ثمّ العلماء إنّما يُنكرون ما أُجمع عليه، أمّا المختلَف فيه، فلا إنكار فيه"[7].
قال النوويُّ رحمه الله: "وأمّا صفة النّهي ومراتبه، فقد قال النّبيُّ ﷺ في هذا الحديث الصّحيح: «فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه»، فقوله: «فبقلبه»؛ معناه: فليَكرَهه بقلبه، وليس ذلك بإزالة وتغيير منه للمنكر؛ ولكنّه هو الّذي في وُسعه، وقوله ﷺ: «وذلك أضعف الإيمان»؛ معناه - واللّه أعلم -: أقلُّه ثمرةً، قال القاضي عياض رحمه اللّه: هذا الحديث أصل في صفة التّغيير، فحقُّ المغيِّر أن يغيِّره بكلّ وجه أمكنه زواله به قولًا كان أو فعلًا"[8].
قال ابن القيم رحمه الله: "فإنكار المنكَر أربع درجات؛ الأولى: أن يَزُول ويَخلُفه ضِدُّه، الثّانية: أن يَقِلَّ وإن لم يَزُلْ بجُملته، الثّالثة: أن يَخلُفه ما هو مِثْلُه، الرّابعة: أن يَخلُفه ما هو شرٌّ منه؛ فالدّرجتان الأُولَيَانِ مشروعتان، والثّالثة موضع اجتهاد، والرّابعة محرَّمة[9].
قال ابن القيم رحمه الله: "وسمعتُ شيخ الإسلام ابن تيميَّة - قدَّس اللّه روحه ونوَّر ضريحه - يقول: مررتُ أنا وبعض أصحابي في زمن التّتار بقوم منهم يشربون الخَمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرتُ عليه، وقلتُ له: إنّما حرَّم اللّه الخمر لأنّها تصدُّ عن ذكر اللّه وعن الصّلاة، وهؤلاء يصدُّهم الخمر عن قتل النّفوس وسَبْيِ الذُّرِّيّة وأخذ الأموال؛ فدعهم"[10].
المراجع
- "فتح الباري" لابن حجر (2/ 450).
- شرح الأربعين النووية" لابن دقيقِ العيد (ص: 112).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 23).
- فتح الباري" لابن حجر (2/ 450).
- كشف المشكل من حديث الصحيحين" لابن الجَوزي (3/ 174).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 23).
- شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 23).
- شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 25).
- "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (3/ 12).
- "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (3/ 13).