فقهٌ:
1. يُخبر النبيُّ ﷺ عن سبعة أصنافٍ من المؤمنين، استحقُّوا أن يُظلَّهم اللهُ تعالى في ظلِّه يوم القيامة، حين لا يكون ظلٌّ أو شيءٌ يدفع عن العبدِ حرَّ الشمس التي تدنو من رؤوس الخلائق.
وليس المراد أنَّهم يكونون في ظلِّ الرحمن حقيقةً؛ إذ يقتضي ذلك أن تكون الشمسُ فوقَ ربِّ العالمين، وذلك باطلٌ، وإنما المرادُ أنَّ اللهَ تعالى يخلق لهم شيئًا يستظلُّون به، أو أن المراد أنهم في رحمته وأمنه وكَنَفِه سبحانه، وإضافةُ الظِّل حينئذٍ إليه سبحانه أو إلى عرشِه إضافةُ تشريفٍ وتكريمٍ وتقريب [1].
وليس المقصود حصرَ المستظلِّين في هؤلاء؛ إذ قد وردت أحاديث كثيرة تفيد دخول غير السبعة في ظلِّ الرحمن،
«مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ، أَظَلَّهُ اللهُ فِي ظِلِّهِ»
فالمرادُ هنا ذكرُ بعضِهم لا حصرُهم.
2. فأوَّلُ هؤلاء: الإمامُ العادل، وهو الذي يُقسط في أمور الرعية الذين يليهم، ويدخل في ذلك ولي الأمر ونُوَّابُه في الولايات والإمارات صغيرها وكبيرها، بل ويشمل ذلك أيضًا القاضي الذي يقضي بين الخصوم بالعدل، وربُّ الأسرةِ الذي يحسن رعاية أهلِه ويُعدل بينهم.
وبدأ بالإمام لأنه أحقُّ أن يُبدَأ به؛ إذ هو أقربُ النَّاس إلى اللهِ يوم القيامة،
«إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا»
وذلك جزاءٌ لمخالفته الهوى، وصبره عن تنفيذ مَا تدعوه إليه شهواته وطمعه وغضبه، مع قدرته على بلوغ غرضه من ذلك؛ فإن الإمام العادل دعته الدنيا كلها إلى نفسها، فقال: إني أخاف الله رب العالمين. وهذا أنفع الخلق لعباد الله، فإنه إذا صلح صلحت الرعية كلها [4].
3. ثم شابٌّ نشأ في طاعةِ اللهِ تعالى، وخصَّ الشَّابَّ بذلك لأنَّ الشبابَ مَظِنَّةُ الشهوة والوقوع في المعاصي؛ حيث القوة والاغترار بالصحة والبُنيان، فهو داعٍ للنفس إلى استيفاء الغرض من شهوات الدنيا ولذَّاتها المحظورة [5]. بخلاف الشيخ؛ فإنَّه رأى من علامات الشَّيْبِ والضَّعف ودُنُوِّ الموتِ ما يُقَرِّبه للعبادة ويُبعده عن المعاصي. فإذا انصرف الشَّابُّ مع تلك المُغْرِيات إلى طاعةِ اللهِ تعالى خوفًا منه نال تلك الدرجة.
«إِنَّ اللَّهَ لَيَعْجَبُ مِنَ الشَّابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ»
4. الصِّنف الثَّالث: رجلٌ تعلَّق قلبُه ببيوت اللهِ تعالى، فلا يخرج منها إلا على مضضٍ، وإذا خرج منها كان شوقُه إليها أحرَّ من الجمر، وهذا إنما يحصل لمن ملك نفسه وقادها إلى طاعة الله فانقادت لَهُ؛ فإن الهوى إنما يدعو إلى محبة مواضع الهوى واللعب، إما المباح أو المحظور، ومواضع التجارة واكتساب الأموال، فلا يقصُر نفسَه على محبة بقاع العبادة إلا مَن خالف هواه، وقدَّم عليه محبةَ مولاه [7].
5. الرَّابع: المتحابُّون في اللهِ تعالى، لم تجمعهم مصلحةٌ أو اتفاقٌ على معصيةٍ أو مجرد النَّسب والمصاهرة والعصبية، بل اجتمعوا في طاعةِ اللهِ تعالى، وتآلفوا وتحابُّوا وترابطوا برباط الأخوةِ في اللهِ سبحانه. فلا يُحرِّكهم للمحبة والبُغض إلا الولاء والبراء؛ فمن أحبَّ اللهَ تعالى أحبُّوه ووالَوه، ومن أبغضَ اللهَ تعالى وعادى دينَه أبغضوه وتبرَّؤوا منه وإن كان أقربَ قريبٍ.
{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}
6. ثُمَّ رجلٌ دعته امرأةٌ جميلةٌ ذات نسبٍ وحسبٍ ومالٍ إلى الزِّنا بها، فذكرَ ربَّه وقال: إني أخاف اللهَ، وانصرف عنها. وإنما خصَّ النبيُّ ﷺ المرأة بكونها جميلةً ذات حسبٍ وشرف لأنه إذا اجتمع الجمال مع الشَّرف والرِّفعة فقد كمل الأمر وقَوِيَ، فإن كَانَتْ مَعَ ذَلِكَ هِيَ الطالبة الداعية إلى نفسها، كَانَ أعظم وأعظم؛ إذ أغنتْهُ عن مُراودتها. فإن الامتناع بعد ذلك كله دليلٌ على تقديم خوف الله على هوى النفس، وصاحبه داخل فِي قوله تعالى:
{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى}
وهذا كما جرى ليوسف عَلِيهِ السلام[8].
7. ثمَّ رجلٌ أنفق نفقةً في سبيل اللهِ تعالى فأخفاها عن جميعِ النَّاس - القريبِ والغريب – وصوَّر بذلك ﷺ مبالغتَه في الإخفاء بأنه يُخفي عن يده اليسرى ما أنفقت اليُمنى. وإنما كان إخفاءُ الصَّدقةِ مستحبًّا لما فيه من الإخلاص ونفي الرِّياء،
{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}
وأكثرُ أهلِ العلم على أنَّ المقصودَ بذلك صدقاتُ التَّطوع، أما الزكوات وغيرها من الفرائض فينبغي إظهارُها لإظهار أحكام الشرع ويجتمع النَّاس على العمل بها[9].
8. والصِّنف السابع: رجلٌ ذكر اللهَ تعالى في خلوته بعيدًا عن أعينِ النَّاسِ وأسماعهم، فتذكَّر مراقبته وعذابَه وما أعدَّه للمتقين من النَّعيم، فذرفت عيناه بالدُّموعِ خشيةً ومحبةً لله سبحانه. وإنَّما خصَّ الخلوة لأنها أبعد عن الرياء والسُّمعة وأقرب للإخلاص وصدق المحبة والخوف.
اتباع:
1. احرص على أن تتصف بكلِّ تلك الصفات أو أكثرها، حتى تكون أكثر أمنًا من عذابِ اللهِ تعالى.
2. تأمَّل صفات تلك الفئات كلها؛ ترى أنَّهم "اختلفت أعمالهم فِي الصورة وجمعها معنى واحد، وهو مجاهدتهم لأنفسهم، ومخالفتهم لأهوائها، وذلك يحتاج أولًا إلى مجاهدة شديدة للنفس وصبر على الامتناع مِمَّا يدعو إليه داعي الشهوة أو الغضب أو الطمع، وفي تجشم ذلك مشقةٌ شديدة على النفس، ويحصل لها به تألُّمٌ عظيمٌ؛ فإن القلب يكاد يحترق من حر نار الشهوة أو الغضب عند هيجانها إذا لَمْ يُطْفَأ ببلوغ الغرض من ذلك، فلا جرم كان ثواب الصبر على ذلك أَنَّهُ إذا اشتد الحر في الموقف، ولم يكن للناس ظلٌّ يظلهم ويقيهم حر الشمس يومئذ، كان هؤلاء السبعة فِي ظل الله - عز وجل -، فلم يجدوا لحَرِّ الموقف ألمًا جزاءً لصبرهم على حَرِّ نارِ الشهوةِ أو الغضب في الدنيا" [10].
3. على كلِّ داعيةٍ ومُرَبٍّ وعالمٍ أن يستخدم العدد في حصر المعاني التي يريد أن يذكرها للناس؛ فإن السَّامع إذا ابتدأته بذكر عددٍ كان حريصًا على معرفة المعدود وحفظه.
4. لا يغرَّنَّك سلطانُك ومنصبُك ولا يحملنَّك على ظُلْمِ العباد؛ فإن الظُّلْمَ ظُلُماتٌ يوم القيامة.
5.إذا كنتَ صاحبَ منصبٍ فاعدل بين النَّاس ولا تظلمهم؛ فإنَّ أوَّل النَّاس أمنًا من حرِّ الشَّمس وعذاب النَّار يوم القيامة الإمام العادل.
6. أيُّها الشَّابُّ، هذه فرصتك لتستظلَّ بظلِّ اللهِ تعالى يوم الفزع الأكبر، فداوِم على الطَّاعات وإياك والمعاصي.
7. إنَّما أثنى اللهُ تعالى على أهل الكهف لأنهم كانوا شبابًا، ومع ذلك انقطعوا عن الدنيا وشهواتها وملذاتها إلى عبادة اللهِ تعالى وحده،
{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}
8. المؤمن في المسجد كالسمك في الماء والمنافق في المسجد كالطير في القفص [11]. فانظر في نفسك أيهما أنت!
9. كما أن الآلاف من أهل الدنيا يشتاقون الديار التي اجتمعوا فيها بآلافهم، ويحنون إلى المنازل التي صاحبوا فيها إخوانهم؛ فكذلك المؤمنون تتعلق قلوبهم بالمساجد؛ من حيث إنهم فيها عرفوا الإخوان في الله عز وجل، وهي الأماكن المنسوبة من بين الأرض كلها إلى الله؛ لكونها بيوتًا له [12]. فكن من المؤمنين الذين يحنُّون إلى بيوت اللهِ تعالى ويتعلقون بها.
10. المحبةُ في اللهِ والبُغضِ في اللهِ من خصال الإيمان. فاحرص أن تكون متصفًا بها.
11.
أخبر النبيُّ ﷺ أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ، قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ، قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟ قَالَ: لَا، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ
12. قال بعض السلف: إذا كان لك أخٌ تحبه في اللهِ، فأحدث حدثًا فَلَمْ تبغضه في الله: لَمْ تكن محبتُك لله [14].
13. إذا امتنعتَ عن الشَّهوات ابتغاء مرضاتِ اللهِ تعالى وخوفًا من غضبه وعقابًا أبدلك اللهُ تعالى بتلك اللذة الفائتة نعيمًا في الجنة وأمنًا من عذاب النَّار.
14. احرص على صدقة السِّر؛ فإنها تُطفئ غضبَ الرَّبِّ تبارك وتعالى.
15. إذا رأيتَ أنَّ بإظهارك الصدقة يقتدي النَّاسُ بك، فأظهِرهَا واستحضر الإخلاصَ للهِ تعالى وإن كانت صدقةً من النوافل. أما إن خِفْتَ على إخلاصِك فالإخفاءُ أفضل.
16. في اشتراط الخلوةِ في الذِّكر حضٌّ وندبٌ على أن يجعل المرءُ وقتًا من خلوته للندم على ذنوبه، ويفزع إلى الله تعالى بإخلاصٍ من قلبه، ويتضرع إليه في غفرانها؛ فإنه يجيب المضطر إذا دعاه، وألا يجعل خلوته كلها في لَذَّاته كفعل البهائم التي قد أمنت الحساب في المساءلة عن الفتيل والقطمير على رؤوس الخلائق، فينبغي لمن لم يأمن ذلك أن يَطُولَ في الخلوة بكاؤه ويتبرم بجنانه، وتصير الدنيا سجنه لما سلف من ذنوبه [15].
17. الخُلوة الصحيحة إنما تكون بذكر اللهِ تعالى والتَّفكُّر في عظمته وجلاله وبطشه وعقابه، ومحاسبة النفس على ما قصَّرت في حقِّ ربِّها، لا كما يفعله المبتدعةُ الذين ينفردون بأورادٍ وأذكارٍ باطلةٍ بهيئاتٍ مبتدَعَةٍ، ثم يدَّعون بعد ذلك المكاشفة!
18. كان يزيد الرقاشي رحمه الله يقول: "يا لهفاه! سبقني العابدون وقُطِعَ بي، نوحٌ يبكي على خطيئته، ويزيد لا يبكي على خطيئته" [16].
المراجع
- "شرح النووي على مسلم" (7/ 121).
- رواه مسلم (3006).
- رواه مسلم (1827).
- "فتح الباري" لابن رجب (6/ 46).
- "فتح الباري" لابن رجب (6/ 46).
- رواه أحمد (17371).
- "فتح الباري" لابن رجب (6/ 47).
- "فتح الباري" لابن رجب (6/ 49)، "الكواكب الدراري" للكرماني (5/ 46).
- "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (3/ 76).
- "فتح الباري" لابن رجب (6/ 46).
- "تحفة الأحوذي" للمباركفوري (7/ 58).
- "الإفصاح عن معاني الصحاح" لابن هبيرة (6/ 236).
- رواه مسلم (2567).
- "فتح الباري" لابن رجب (6/ 48).
- "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقن (6/ 454).
- "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (10/ 187).