المعنى الإجماليُّ للحديث
يروي أبو هُرَيْرَةَ، عن رَسُول اللهِ ﷺ أنه قال: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَة»؛ الكُرْبَةُ: هي الشِّدَّة العظيمة التي تُوقِع صاحبها في الكَرْبِ، فمن خفَّفها عن مؤمِن أو أَزَالها وفرَّجها، كان الجزاءُ من جِنس العمل، بتفريج كُربته يومَ القيامة. «وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»؛ أي: من يسَّر على مُعسِر بإنظاره إلى الْمَيْسَرة، أو بالوضع عنه إن كان غَريمًا لا يستطيع سَدَادَ دَيْنِه، أو بإعطائه ما يَزُول به إعسارُه، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة. «وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»؛ أي: من سَتَر زلَّاتِ مسلم في معصية وَقَعت وانقَضَت، سَتَره الله في الدنيا والآخرة. «وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ»؛ فمن أَعَانَ أخاه المسلِمَ، كان جزاؤه من جنس عَمَله بأن يُعِينَه الله تعالى. «وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّة»؛ أي: من سعى إلى طريق يَطلُب فيه العلمَ النافع، كان جزاؤه أن يُوفِّقه الله تعالى للأعمال الصالحة الموصِّلة إلى الجنة. «وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَه» يدلُّ على فضل الاجتماع على تلاوة القرآن ومُدارَسَتِه في المسجد، حيث تَنزِل الطمأنينة، وتَشمَلهم الرحمة، وتُحيط بهم الملائكة، ويَذكُرهم الله تعالى فيمن عنده من كرام الملائكة. «وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ»؛ أي: مَن قصَّر في الطاعة والعبادات والأعمال الصالحة، ينبغي أن لا يتَّكِل على شَرَف النَّسَب، وفضيلة الآباء؛ فلن يَنفَعَه إلا عملُه الصالح.
الشرح المفصَّل للحديث
إن رسولَ الله ﷺ لم يَدَعْ بابًا من أبواب الخير إلا دلَّ الأمَّةَ عليه، ورغَّبها فيه، وهذا الحديثُ حديث عظيمٌ، يُعدُّ أصلًا من أصول الإسلام، وجامعًا من جوامع الخير للمسلم في الدنيا والآخرة، وجامعًا لأنواع من العلوم والقواعد والآداب، فيه فضلُ قضاء حوائج المسلمين ونَفْعِهم، بما يتيسَّر من علم، أو مال، أو معاونة، أو إشارة بمصلحة، أو نصيحة، أو غير ذلك.
«مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَة»
والكُرْبَةُ: هي الشِّدَّة العظيمة التي توقِع صاحبَها في الكَرْبِ، وتنفيسُها أن يخفِّف عنه منها، أو يُزيلَها ويفرِّجها، والتفريجُ أعظمُ من التنفيس، حيث يُزيل عنه الكُربة، ويفرِّج عنه، فيَزُول همُّه وغمُّه، وجزاءُ التّنفيسِ التّنفيسُ، وجزاءُ التّفريج التّفريجُ، وهذا يرجع إلى أنّ الجزاء من جِنس العمل، وقد تكاثرت النّصوص بهذا المعنى؛
«إنَّما يَرْحَمُ اللَّهُ من عبادِه الرُّحَماءَ»
«وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»
والتَّيسير على المعسِر في الدُّنيا من جهة المال يكون إمَّا بإنظاره إلى الْمَيْسَرة، أو بالوضع عنه إن كان غريمًا لا يستطيع سَدَاد دَيْنِه، أو بإعطائه ما يَزُول به إعسارُه، وهذا كلُّه فضلٌ عظيم، يجزي الله به بالتيسير على ذلك الميسِّر في الدنيا، وكذلك في الآخرة يومَ القيامة، وقد وصف اللّه يوم القيامة بأنّه عسير، وأنّه على الكافرين غير يسير، فدلَّ على أنَّه يسير على غيرهم، و
عن أبي هريرة عن النّبيِّ ﷺ، قال:
«كان تاجرٌ يُدَايِنُ النّاس، فإذا رأى معسِرًا قال لصِبيانه: تجاوزوا عنه؛ لعلَّ اللّه أن يتجاوز عنَّا، فتجاوز اللّهُ عنه»
«وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»
وهذا ممّا تكاثرت النُّصوص بمعناه، و"السَّتْرُ على المسلم: أن يَستُر زلَّاتِه، والمرادُ به السَّتر على ذَوي الهَيئات ونحوِهم ممَّن ليس معروفًا بالفساد، وهذا في سَتر معصية وَقَعت وانقَضَت، أما إذا عَلِم معصيته وهو متلبِّس بها، فيجب المبادَرة بالإنكار عليه، ومنعه منها، فإن عجز، لَزِمه رفعها إلى وليِّ الأمر إن لم يترتَّب على ذلك مَفسَدة؛ فالمعروفُ بذلك لا يُستَر عليه؛ لأن السَّتر على هذا يُطمِّعه في الفساد والإيذاء وانتهاك المحرَّمات، وجسارة غيره على مثل ذلك؛ بل يُستحبُّ أن يرفعه إلى الإمام إن لم يَخَفْ من ذلك مَفسَدة، وكذلك القول في جَرح الرُّواة والشهود والأُمَناء على الصدقات والأوقاف والأيتام ونحوهم، فيجب تجريحهم عند الحاجة، ولا يحلُّ السَّتر عليهم إذا رأى منهم ما يَقدَح في أهليَّتهم، وليس هذا من الغِيبة المحرَّمة؛ بل من النصيحة الواجبة" [3].
وقد رُوِيَ عن بعض السَّلَف أنَّه قال: أدركتُ قومًا لم يكن لهم عُيوب، فذكروا عيوب النَّاس، فذكر النَّاس لهم عيوبًا، وأدركتُ أقوامًا كانت لهم عيوبٌ، فكفُّوا عن عيوب النَّاس، فنُسِيت عيوبهم
«يا مَعْشَرَ من آمَن بلسانه، ولم يَدخُلِ الإيمان في قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتَّبِعوا عَوْرَاتِهم؛ فإنّه من اتَّبَع عَوْراتِهم، تتبَّع اللَّهُ عورته، ومن تتبَّع اللَّهُ عورته، يَفْضَحْهُ في بيته»
"واعلم أنّ النّاس على ضربين؛ أحدُهما: من كان مستورًا لا يُعرَف بشيء من المعاصي، فإذا وقعت منه هفوة، أو زلَّة، فإنَّه لا يجوز كشفُها، ولا هَتْكُها، ولا التّحدُّث بها؛ لأنَّ ذلك غِيبةٌ محرَّمة، وهذا هو الذي وردت فيه النُّصوص
وفي ذلك قد قال اللّه تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ }
والمراد: إشاعة الفاحشة على المؤمن المستَتِر فيما وَقَع منه، أو اتُّهِم به وهو بريءٌ منه، كما في قصَّة الإفك. قال بعض الوزراء الصَّالحين لبعض من يَأمُر بالمعروف: اجتهد أن تَستُر العصاة؛ فإنّ ظهور معاصيهم عَيْبٌ في أهل الإسلام، وأَوْلى الأمور سَتْرُ العُيوب، ومِثْلُ هذا لو جاء تائبًا نادمًا وأقرَّ بحدٍّ، ولم يفسِّرْه، لم يُسْتَفْسَرْ؛ بل يُؤمَر بأن يرجع ويَستُر نفسه؛ كما أمر النّبيُّ ﷺ ماعزًا والغامديَّة، وكما لم يُستفسَر الَّذي قال: "أصبتُ حدًّا، فأقمْه عليَّ". ومِثْلُ هذا لو أُخِذ بجريمته، ولم يَبلُغِ الإمامَ، فإنّه يُشفَع له حتَّى لا يَبلُغَ الإمام. والثَّاني: من كان مُشتهِرًا بالمعاصي، مُعْلِنًا بها، لا يُبالي بما ارتكب منها، ولا بما قيل له، فهذا هو الفاجر المعلِن، وليس له غِيبةٌ، كما نصَّ على ذلك الحسن البصريُّ وغيره، ومثل هذا لا بأس بالبحث عن أمره لتُقام عليه الحدود... ومثل هذا لا يُشفَع له إذا أُخِذ، ولو لم يَبلُغ السُّلطان؛ بل يُترَك حتّى يقام عليه الحدُّ؛ لينكفَّ شَرُّه، ويرتدع به أمثاله" [5].
"وقوله: «كربةً من كرب يوم القيامة»، ولم يقل: من كُرَب الدّنيا والآخرة كما قيل في التَّيسير والسَّتر، وقد قيل في مناسبة ذلك: إنّ الكُرَب هي الشّدائد العظيمة، وليس كلُّ أحد يحصل له ذلك في الدُّنيا، بخلاف الإعسار والعَوْرات المحتاجة إلى السَّتر، فإنَّ أحدًا لا يكاد يخلو في الدُّنيا من ذلك، ولو بتعسُّر الحاجات المهمَّة. وقيل: لأنَّ كُرَب الدُّنيا بالنِّسبة إلى كُرَب الآخرة كلَا شيءٍ، فادَّخَر اللّه جزاء تنفيس الكُرَب عنده، لينفِّس به كُرَب الآخرة" [6].
«وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ»
وعن ابن عمر رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال:
«المسلمُ أخو المسلِمِ؛ لا يَظلِمُه، ولا يُسلِمه، ومَن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومَن فرَّج عن مسلم كُربةً، فرَّج الله عنه كُربةً من كُربات يوم القيامة، ومَن ستَر مسلمًا ستَره الله يوم القيامة»
وبعث الحسن البصريُّ قومًا من أصحابه في قضاء حاجة لرجل وقال لهم: مُرُّوا بثابت البنانيِّ، فخذوه معكم، فأَتَوا ثابتًا، فقال: أنا معتكِفٌ، فرجعوا إلى الحسن فأخبروه، فقال: قولوا له: يا أعمشُ، أما تَعلَم أنَّ مَشْيَكَ في حاجة أخيك المسلم خيرٌ لك من حَجَّة بعد حجَّة؟! فرجعوا إلى ثابت، فترك اعتكافه، وذهب معهم.
«وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّة»؛
أي: من سعى إلى طريق يَطلُب فيه العلم النافع، كان جزاؤه أن يُوفِّقه الله تعالى للأعمال الصالحة الموصِّلة إلى الجنة. وسلوكُ الطريق يَشمَل الطريقَ الحسيَّ، والطريقَ المعنويَّ؛ فأما الحسيُّ فهو الطريق الذي يسير فيه طالبُ العلم، سواءٌ كان ماشيًا أو راكبًا؛ كأن يأتيَ الإنسانُ من بيته إلى مكان العلم، سواءٌ كان مكانُ العلم مسجدًا، أو مدرسةً، أو جامعةً، أو غيرَ ذلك، ومن ذلك أيضًا الرحلة في طلب العلم؛ كأن يرتحل الإنسان من بلده إلى بلد آخَرَ يلتمس العلمَ، ونحو ذلك. والثاني: الطريق المعنويُّ، وهو الطريق الذي يُتوصَّل به إلى العلم؛ كالحفظ والفَهْم، والْمُدارسة، والمذاكرة، والمطالَعة، سواءٌ أكان مِن أفواه العلماء، أو مِن بُطون الكتب مراجعةً وبحثًا، فمِثلُ هذا يكون سالكًا لطريق العلم وإن كان جالسًا [8].
وكما أطلق ﷺ لفظ الطريق، وأتى به عامًّا ليشمل جميع الطُّرق الحِسِّية والمعنوية الموصِّلة للعلم، كذا أطلق لفظ العلم، وأتى به منكَّرًا؛ ليشمل جميع فروع عِلم الدين ومسائله، وليندرجَ فيه القليل والكثير منه[9].
وقوله: «سهَّلَ اللهُ له طريقًا إلى الجنة»؛ فمَن كان هذا حالَه، كان جزاؤه أن يُوفِّقه الله تعالى للأعمال الصالحة الموصِّلة إلى الجنة، أو يُسهِّل الله له العلم الذي طلبه، وسَلَك طريقه، ويُيسِّره عليه؛ فإن العلم طريقٌ موصِّلٌ إلى الجنة؛ بل هو من أقربها؛ إذ بالعلم الشرعيِّ يُعرَف الحلال والحرام، ومُرادُ الله من العباد، والوسائل الْمُعينة على رضاه سبحانه وتعالى. والجَنَّة هي دار كرامة الله تعالى ونعيمه لعباده الطائعين، وقد كثُر ذِكرها بأوصافها، وكذا ذِكرُ ما يوصِّل إليها في الكتاب والسُّنة.
«وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَه»
وهذا دليلٌ على فضل الاجتماع من أيِّ مجموعة على تلاوة القرآن ومُدارسته في المسجد، والسكينة ها هنا بمعنى الطمأنينة والوقار. «وغَشِيَتهم الرحمة»؛ أي شَمِلتهم وغطَّتهم، «وحفَّتهم الملائكة»؛ أي: أحاطت بهم؛ فكأن الملائكة قريبة منهم قُربًا حفَّتهم حتى لم تدع فُرجةً تتَّسِع لشيطان. «وذكرهم الله فيمن عنده»؛ أي: ذكرهم الله تعالى فيمن عنده من كِرام الملائكة.
و"هذا يدلُّ على استحباب الجلوس في المساجد لتلاوة القرآن ومُدَارَستِه، وهذا إن حُمِل على تعلُّم القرآن وتعليمه، فلا خلاف في استحبابه
«خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»
وإن حُمِل على ما هو أعمُّ من ذلك، دخل فيه الاجتماع في المسجد على دراسة القرآن مطلَقًا"[11].
«وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ»؛
أي: مَن كان عملُه ناقصًا لم يُلحِقْه بمرتبة أصحاب الأعمال، ينبغي أن لا يتَّكِل على شرف النَّسَب، وفضيلة الآباء، ويُقصِّر في العمل.
"وقولُه: «ومن بطَّأ به عَمَلُه، لم يُسرِع به نَسَبُه»: يريد آخرة عمله السيِّئ، أو تفريطه في الحسنات الْمُعْلِيَة للدرجات عن اللحاق بمنازل المتَّقِين والأبرار، وعن دخول الجنة في أول زمرة، لم ترفعه رِفْعَةُ نَسَبه ومكانته في الدنيا، ولا جَبَر هذا النقص الذي ثَلَم حاله"[12].
و"معناه: أنّ العمل هو الّذي يَبلُغ بالعبد درجاتِ الآخرة
{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا ۚ}
فمن أبطأ به عملُه أن يَبلُغ به المنازل العالية عند اللّه تعالى، لم يُسرِع به نَسَبُه، فيبلِّغه تلك الدَّرجات؛ فإنّ اللّه تعالى رتَّب الجزاء على الأعمال، لا على الأنساب؛
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ}
وقد أمر اللّه تعالى بالمسارعة إلى مغفرته ورحمته بالأعمال،
{ وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ۞ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
قال ابن مسعود: يَأمُر اللّه بالصِّراط، فيُضرَب على جهنَّمَ، فيَمُرُّ النَّاس على قَدْرِ أعمالهم زُمَرًا زُمرًا، أوائلُهم كلمح البَرْقِ، ثمّ كمَرِّ الرِّيح، ثمّ كمَرِّ الطَّير، ثمّ كمَرِّ البهائم، حتى يمرَّ الرَّجل سعيًا، وحتى يمرَّ الرّجل مَشْيًا، حتى يمرَّ آخرُهم يَتَلَبَّطُ على بَطْنِه، فيقول: يا ربِّ، لِمَ أبطأتَ بي؟ فيقول: إنّي لم أُبطِئْ بك؛ إنّما أَبطَأَ بك عَمَلُكَ.
وفي "الصّحيحين" عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه ﷺ:
حين أُنزِل عليه:{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا»
المراجع
- رواه البخاريُّ (7448) ومسلم (923).
- رواه البخاريُّ (2078)، ومسلم (1562).
- "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص 119، 120).
- رواه أحمد (20014)، وأبو داود (4880)، وقال الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2340): حسن صحيح.
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 291 - 293).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 285 - 287).
- رواه البخاري (2442)، ومسلم (2580).
- انظر: "شرح رياض الصالحين" ابن عثيمين (5/ 433- 434).
- انظر: "فتح الباري" ابن حجر (1/ 160)
- رواه البخاريُّ (5027)
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 300، 301).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 195).
- رواه البخاريُّ (2753)، ومسلم (206).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 308).
النقول
قال ابن رجب رحمه الله:
«مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
هذا يرجع إلى أنّ الجزاء من جنس العمل، وقد تكاثرت النّصوص بهذا المعنى
«إنَّما يَرْحَمُ اللَّهُ من عبادِه الرُّحَماءَ»
والكُرْبَةُ: هي الشِّدَّة العظيمة التي توقع صاحبها في الكَرْبِ، وتنفيسُها أن يخفِّف عنه منها، مأخوذٌ من تنفيس الخِنَاق؛ كأنَّه يُرخَى له الخِنَاق حتى يَأخُذ نَفَسًا، والتفريجُ أعظمُ من ذلك، وهو أن يُزيل عنه الكُربة، فتُفرَّج عنه كُربته، ويزول همُّه وغمُّه، فجزاء التّنفيِس التّنفيسُ، وجزاء التّفريج التّفريج. وقوله: «كربةً من كرب يوم القيامة»، ولم يقل: من كُرَب الدّنيا والآخرة كما قيل في التَّيسير والسَّتر، وقد قيل في مناسبة ذلك: إنّ الكُرَب هي الشّدائد العظيمة، وليس كلُّ أحد يحصل له ذلك في الدُّنيا، بخلاف الإعسار والعَوْرات المحتاجة إلى السَّتر، فإنَّ أحدًا لا يكاد يخلو في الدُّنيا من ذلك، ولو بتعسُّر الحاجات المهمَّة. وقيل: لأنَّ كُرَب الدُّنيا بالنِّسبة إلى كُرَب الآخرة كلَا شيءٍ، فادَّخَر اللّه جزاء تنفيس الكُرَب عنده، لينفِّس به كُرَب الآخرة"[2].
قال ابن رجب رحمه الله: "قوله ﷺ: «ومن يسّر على معسر، يسّر اللّه عليه في الدّنيا والآخرة». وهذا أيضًا يدلّ على أنّ الإعسار قد يحصل في الآخرة، وقد وصف اللّه يوم القيامة بأنّه عسير وأنّه على الكافرين غير يسير، فدلّ على أنّه يسير على غيرهم... والتّيسير على المعسر في الدّنيا من جهة المال يكون بأحد أمرين: إمّا بإنظاره إلى الميسرة، وذلك واجب... وتارةً بالوضع عنه إن كان غريمًا، وإلّا فبإعطائه ما يزول به إعساره، وكلاهما له فضل عظيم. وفي الصّحيحين عن أبي هريرة عن النّبيّ ﷺ، قال: «كان تاجر يداين النّاس، فإذا رأى معسرًا قال لصبيانه: تجاوزوا عنه، لعلّ اللّه أن يتجاوز عنّا، فتجاوز اللّه عنه»[3]"[4].
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "هذا الحديثُ عَظيمٌ جامع لأنواع من العلوم والقواعد والآداب، فيه فضلُ قضاء حوائج المسلمين ونَفْعِهم بما يتيسَّر من علم، أو مال، أو معاونة، أو إشارة بمصلحة، أو نصيحة، أو غير ذلك. ومعنى تنفيس الكُربة: إزالتُها. قولُه: «من ستر مسلمًا» السَّتْرُ عليه: أن يَستُر زلَّاتِه، والمرادُ به السَّتر على ذَوي الهَيئات ونحوِهم ممَّن ليس معروفًا بالفساد، وهذا في سَتر معصية وَقَعت وانقَضَت، أما إذا عَلِم معصيته وهو متلبِّس بها، فيجب المبادَرة بالإنكار عليه، ومنعه منها، فإن عجز، لَزِمه رفعها إلى وليِّ الأمر إن لم يترتَّب على ذلك مَفسَدة؛ فالمعروفُ بذلك لا يُستَر عليه؛ لأن السِّتر على هذا يُطمِّعه في الفساد والإيذاء وانتهاك المحرَّمات، وجسارة غيره على مثل ذلك؛ بل يُستحبُّ أن يرفعه إلى الإمام إن لم يَخَفْ من ذلك مَفسَدة، وكذلك القول في جَرح الرُّواة والشهود والأُمَناء على الصدقات والأوقاف والأيتام ونحوهم، فيجب تجريحهم عند الحاجة، ولا يحلُّ السَّتر عليهم إذا رأى منهم ما يَقدَح في أهليَّتهم، وليس هذا من الغِيبة المحرَّمة؛ بل من النصيحة الواجبة"[5].
قال ابن رجب رحمه الله: "وقوله ﷺ: «ومن ستر مسلمًا، ستره اللّه في الدُّنيا والآخرة»: هذا ممّا تكاثرت النُّصوص بمعناه... وقد رُوِيَ عن بعض السَّلَف أنَّه قال: أدركتُ قومًا لم يكن لهم عُيوب، فذكروا عيوب النَّاس، فذكر النَّاس لهم عيوبًا، وأدركتُ أقوامًا كانت لهم عيوبٌ، فكفُّوا عن عيوب النَّاس، فنُسِيت عيوبهم، أو كما قال. وشاهد هذا حديث أبي برزة، عن النّبيّ ﷺ، أنّه قال: «يا مَعْشَرَ من آمَن بلسانه، ولم يَدخُلِ الإيمان في قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتَّبِعوا عَوْرَاتِهم؛ فإنّه من اتَّبَع عَوْراتِهم، تتبَّع اللَّهُ عورته، ومن تتبَّع اللَّهُ عورته، يَفْضَحْهُ في بيته»[6]. واعلم أنّ النّاس على ضربين؛ أحدُهما: من كان مستورًا لا يُعرَف بشيء من المعاصي، فإذا وقعت منه هفوة، أو زلَّة، فإنَّه لا يجوز كشفُها، ولا هَتْكُها، ولا التّحدُّث بها؛ لأنَّ ذلك غِيبةٌ محرَّمة، وهذا هو الذي وردت فيه النُّصوص،
وفي ذلك قد قال اللّه تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}
والمراد: إشاعة الفاحشة على المؤمن المستَتِر فيما وَقَع منه، أو اتُّهِم به وهو بريءٌ منه، كما في قصَّة الإفك. قال بعض الوزراء الصَّالحين لبعض من يَأمُر بالمعروف: اجتهد أن تَستُر العصاة؛ فإنّ ظهور معاصيهم عَيْبٌ في أهل الإسلام، وأولى الأمور سَتْرُ العُيوب، ومِثْلُ هذا لو جاء تائبًا نادمًا وأقرَّ بحدٍّ، ولم يفسِّرْه، لم يُسْتَفْسَرْ؛ بل يُؤمَر بأن يرجع ويَستُر نفسه؛ كما أمر النّبيُّ ﷺ ماعزًا والغامديَّة، وكما لم يستفسر الَّذي قال: "أصبتُ حدًّا، فأقمه عليَّ". ومِثْلُ هذا لو أُخِذ بجريمته، ولم يَبلُغِ الإمامَ، فإنّه يُشفَع له حتَّى لا يَبلُغَ الإمام. والثَّاني: من كان مُشتهِرًا بالمعاصي، مُعْلِنًا بها، لا يُبالي بما ارتكب منها، ولا بما قيل له، فهذا هو الفاجر المعلِن، وليس له غِيبةٌ، كما نصَّ على ذلك الحسن البصريُّ وغيره، ومثل هذا لا بأس بالبحث عن أمره لتُقام عليه الحدود... ومثل هذا لا يُشفَع له إذا أُخِذ، ولو لم يَبلُغ السُّلطان؛ بل يُترَك حتّى يقام عليه الحدُّ؛ لينكفَّ شَرُّه، ويرتدع به أمثاله"[7].
قال ابن رجب رحمه الله: "قوله: «واللّه في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»، وبعث الحسن البصريُّ قومًا من أصحابه في قضاء حاجة لرجل وقال لهم: مُرُّوا بثابت البنانيِّ، فخذوه معكم، فأَتَوا ثابتًا، فقال: أنا معتكِفٌ، فرجعوا إلى الحسن فأخبروه، فقال: قولوا له: يا أعمشُ، أما تَعلَم أنَّ مَشْيَكَ في حاجة أخيك المسلم خيرٌ لك من حَجَّة بعد حجَّة؟ فرجعوا إلى ثابت، فترك اعتكافه، وذهب معهم"[8].
قال القاضي عياض رحمه الله: وقوله: «من نفَّس عن مسلم كُربة»؛ أي: أَزَالَها عنه وفرَّجَها... وقولُه: «ونَزَلَت عليهم السكينة»؛ أي: الرحمة، وهو أحد الوجوه في تأويل السكينة في القرآن، وهذا أَلْيَقُ الوجوه هنا. وقيل: السكينة أيضًا في ذلك، وفي قوله:
{ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ}
أي: الوقار والطُّمَأْنِينة.
قال الإمام: وقوله: «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله»: ظاهرُه يُبيح الاجتماع لقراءة القرآن في المساجد... قال القاضي: قد يكون هذا الاجتماع للتعلُّم بعضهم من بعض؛ بدليل قوله: «ويتدارسونه بينهم»... وقولُه: «ومن بطَّأ به عَمَلُه، لم يُسرِع به نَسَبُه»: يريد آخرة عمله السيِّئ، أو تفريطه في الحسنات الْمُعْلِيَة للدرجات عن اللحاق بمنازل المتَّقِين والأبرار، وعن دخول الجنة في أول زمرة لم ترفعه رِفْعَةُ نَسَبه ومكانته في الدنيا، ولا جَبَر هذا النقص الذى ثَلَم حاله"[9].
قال ابن رجب رحمه الله: "قوله ﷺ: «ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل اللّه له به طريقًا إلى الجنَّة»، وسُلوك الطَّريق لالتماس العلم يدخل فيه سلوك الطّريق الحقيقيِّ، وهو الْمَشْيُ بالأقدام إلى مجالس العلماء، ويَدخُل فيه سلوك الطُّرق المعنويَّة المؤدِّية إلى حصول العلم؛ مثل حِفْظِه، ودارسته، ومذاكرته، ومُطالعته، وكتابته، والتّفهُّم له، ونحو ذلك من الطّرق المعنويَّة التي يُتوصَّل بها إلى العلم.
وقوله: «سهَّل اللّه له به طريقًا إلى الجنَّة» قد يُراد بذلك أنّ اللّه يسهِّل له العلم الذي طلبه، وسلك طريقه، وييسِّره عليه؛ فإنّ العلم طريق موصِّل إلى الجنَّة، وقد يراد أيضًا: أنَّ اللّه ييسِّر لطالب العلم - إذا قصد بطلبه وجه اللّه - الانتفاعَ به، والعمل بمقتضاه، فيكون سببًا لهدايته، ولدخول الجنَّة بذلك. وقد ييسِّر اللّه لطالب العلم علومًا أُخَرَ ينتفع بها، وتكون موصِّلةً له إلى الجنَّة، كما قيل: من عَمِل بما عَلِم، أورثه اللّه عِلْمَ ما لم يَعلَم، وكما قيل: ثواب الحسنة الحسنة بعدها... وقد يَدخُل في ذلك أيضًا تسهيل طريق الجنّة الحسِّيِّ يومَ القيامة - وهو الصّراط - وما قبلَه، وما بعدَه من الأهوال، فييسِّر ذلك على طالب العلم للانتفاع به؛ فإنّ العلم يدلُّ على اللّه من أقرب الطَّريق إليه، فمن سلك طريقه، ولم يَعرُج عنه، وصل إلى اللّه وإلى الجنَّة من أقرب الطّرق وأسهلها، فسَهُلت عليه الطُّرق الموصِّلة إلى الجنَّة كلُّها في الدّنيا والآخرة، فلا طريق إلى معرفة اللَّه وإلى الوصول إلى رضوانه والفوز بقُربه ومجاورته في الآخرة إلّا بالعلم النّافع الذي بَعَث اللّه به رسله، وأنزل به كتبه، فهو الدَّليل عليه، وبه يُهتدى في ظلمات الجهل والشُّبَه والشُّكوك؛ ولهذا سمَّى اللّه كتابه نورًا؛ لأنّه يُهتدى به في الظّلمات"[10].
قال ابن رجب رحمه الله: "قوله ﷺ: «وما جلس قومٌ في بيت من بيوت اللّه، يتلون كتاب اللّه، ويتدارسونه بينهم، إلّا نزلت عليهم السّكينة، وغشيتهم الرّحمة، وحفّتهم الملائكة، وذكرهم اللّه فيمن عنده»: هذا يدلُّ على استحباب الجلوس في المساجد لتلاوة القرآن ومُدَارَستِه، وهذا إن حُمِل على تعلُّم القرآن وتعليمه، فلا خلاف في استحبابه، وفي " صحيح البخاريّ "
عن عثمان، عن النّبيّ ﷺ، قال:
«خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»
وإن حُمِل على ما هو أعمُّ من ذلك، دخل فيه الاجتماع في المسجد على دراسة القرآن مطلَقًا"[12].
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "قولُه: «والله في عَون العبد ما دام العبد في عون أخيه»: هذا الإجمال لا يَسَع تفسيره إلَّا أن منه أن العبد إذا عَزَم على معاونة أخيه، ينبغي أن لا يَجبْنُ عن إنفاذ قول، أو صَدْع بحقٍّ؛ إيمانًا بأن الله تعالى في عَونه، وفي الحديث: فضلُ التيسير على المعسِر، وفضلُ السعيِ في طلب العلم، ويَلزَم من ذلك فضلُ الاشتغال بالعلم، والمرادُ العلم الشرعيُّ، ويُشترَط أن يُقصَد به وجه الله تعالى، وإن كان شرطًا في كلِّ عبادة.
«وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يَتْلُون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم»
هذا دليلٌ على فضل الاجتماع على تلاوة القرآن في المسجد، و"السكينة" ها هنا قيل: المراد بها الرحمة، وهو ضعيف؛ لعطف الرحمة عليها، وقال بعضهم: السكينة: الطمأنينة والوقار، وهذا أحسنُ، وفي قوله: «وما اجتمع قوم» هذا نكرة شائعة في جنسها؛ كأنه يقول: أيُّ قوم اجتمعوا على ذلك، كان لهم ما ذكره من الفضل كله؛ فإنه لم يشترط ﷺ هنا فيهم أن يكونوا علماءَ ولا زهَّادًا ولا ذَوِي مقامات. ومعنى «حفَّتهم الملائكة»؛ أي: حافَّتهم،
{حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ}
أي: مُحدِقين محيطين به، مُطيفين بجوانبه، فكأن الملائكة قريبٌ منهم قُربًا حفَّتهم حتى لم تدع فُرجةً تتَّسِع لشيطان. قوله: «وغَشِيَتهم الرحمة»: لا يُستعمَل [غَشِيَ] إلَّا في شيء شَمِل المغشيَّ من جميع أجزائه. قال الشيخ شهاب الدين بنُ فرج: والمعنى في هذا - فيما أرى - أن غشيانَ الرحمة يكون بحيث يَستوعِب كلَّ ذنب تقدَّم إن شاء الله تعالى. قوله: «وذكرهم الله فيمن عنده» يقتضي أن يكون ذكرُ الله تعالى لهم في الأنبياء وكرام الملائكة، والله أعلم" [13].
قال ابن رجب رحمه الله: "قوله ﷺ: «ومن بطَّأ به عَمَلُه، لم يُسْرِعْ به نَسَبُه»؛ معناه: أنّ العمل هو الّذي يَبلُغ بالعبد درجاتِ الآخرة؛
{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا ۚ}
فمن أبطأ به عملُه أن يَبلُغ به المنازل العالية عند اللّه تعالى، لم يُسرِع به نَسَبُه، فيبلِّغه تلك الدَّرجات؛ فإنّ اللّه تعالى رتَّب الجزاء على الأعمال، لا على الأنساب؛
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ}
وقد أمر اللّه تعالى بالمسارعة إلى مغفرته ورحمته بالأعمال
{وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ۞ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }
قال ابن مسعود رحمه الله: يَأمُر اللّه بالصِّراط، فيُضرَب على جهنَّمَ، فيَمُرُّ النَّاس على قَدْرِ أعمالهم زُمَرًا زُمرًا، أوائلُهم كلمح البَرْقِ، ثمّ كمَرِّ الرِّيح، ثمّ كمَرِّ الطَّير، ثمّ كمَرِّ البهائم، حتى يمرَّ الرَّجل سعيًا، وحتى يمرَّ الرّجل مَشْيًا، حتى يمرَّ آخرُهم يَتَلَبَّطُ على بَطْنِه، فيقول: يا ربِّ، لِمَ أبطأتَ بي؟ فيقول: إنّي لم أُبطِئْ بك؛ إنّما أَبطَأَ بك عَمَلُكَ. وفي "الصّحيحين"
عَن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه ﷺ: حين أُنزِل عليه:
{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } [الشعراء: 214]: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا»
المراجع
- رواه البخاريُّ (7448) ومسلم (923).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 285 - 287).
- رواه البخاريُّ (2078)، ومسلم (1562).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 289 - 290).
- "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص 119، 120).
- رواه أحمد (20014)، وأبو داود (4880)، وقال الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2340): حسن صحيح.
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 291 - 293).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 294).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 195).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 297 - 298).
- رواه البخاريُّ (5027).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 300، 301).
- "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص 120، 121).
- رواه البخاريُّ (2753)، ومسلم (206).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 308).
غريب الحديث
الكُرْبَةُ: هي الشِّدَّة العظيمة التي توقع صاحبها في الكَرْبِ.
السَّكِينة: الطُّمَأْنينة والوَقَار.