المعنى الإجماليُّ للحديث
يروي أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عن رَسُول اللَّهِ ﷺ أنه قال: «إنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْب»: يُخبِر النبيُّ ﷺ في الحديث القدسيِّ أن الله تعالى قال: مَن عادى وليًّا من أولياء الله الصالحين الطائعين، فإن الله يُعلِمُه أنه يُعاديه ويُحاربُه؛ نصرةً لأوليائه. «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ»؛ أي: أَحَبُّ ما يتقرَّب به العبدُ إلى ربِّه، وينال ثوابه ومرضاته: الفرائضُ؛ فهي أفضل الأعمال، وأحبُّها إلى الله. «وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ»؛ أي: وما يزال العبدُ يُداوِم على طاعة الله، ويتقرَّب إليه بنوافل العبادات والطاعات، من قيام وصيام، وذِكْرٍ وصَدَقات، وأداء السُّنن، ونحوِ ذلك، حتى ينال محبَّة الله تعالى. «فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا»؛ أي: إذا أحبَّ الله عبدَه، حَفِظه في سمعه، وبصره، ويده، ورجله، فلا تشتغل هذه الجوارح إلا بالطاعات، ولا تتحرَّك إلا فيما يُرضي ربَّ العباد. «وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ»؛ أي: إن دعاني هذا المحبوب المقرَّب، وسألني شيئًا من أمور الدنيا والآخرة، أجبتُه، وإن لجأ إليَّ ولاذ بي واستعاذني من شرٍّ يخَافُه، أَعَذْتُه وأَجَرْتُه. «وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ» أي: إن الله تعالى كتب الموت على جميع الخلق، والموت فيه شدَّةٌ وألم؛ ما يجعله مكروهًا، والله تعالى يكره أن يسوء عبدَه ومحبوبَه، فصار الموت مرادًا لله تعالى من وجه ما سبق به قضاؤه، ومكروهًا له من وجه مساءة عبده المقرَّب، وهذا حقيقةُ التردُّد، وهو أن يكون الشيء الواحد مرادًا من وجه، مكروهًا من وجه.
الشرح المفصَّل للحديث
كلُّ مخلوقٍ ضعيفٌ مفتقرٌ إلى خالقه، فلا يوجد إنسان يستقِلُّ بنفسه، ولا يحتاج إلى غيره، والخالقُ سبحانه غنيٌّ عن خلقه، يفتقرون إليه ولا يَفتقِر إليهم، لذا؛ كانت ولايته سبحانه وتعالى شرفًا وقوَّة وعزَّة ومَنَعة، وأعظمَ نعمةٍ يُرزَقها العبد، فمن كان الله وَليَّه، سَعِد بولايته في الدنيا والآخرة، وجنى ثمارها، ورأى آثارها في نفسه وأهله وماله وولده، وأَغنَتْه عن كلِّ ولاية سِوَاها؛ قال تعالى
﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَىٰ بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾
وقال تعالى:
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ ۗ
وفي الحديث يخبر النبيُّ ﷺ أن الله قال: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ»؛ أي: من آذى وليًّا من أولياء الله الصالحين، الذين حقَّقوا إيمانهم بالطاعات، وفِعل الصالحات؛ قال تعالى:
{أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63)
أو عاداه وخاصمه، فإن الله يقف له بالمرصاد، ويُعاديه ويُحاربه؛ قال تعالى:
﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾
ومعلومٌ أن من عاداه الله أَهلَكه؛
فعن وَهْبَ بْنَ مُنَبِّه أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام حين كلَّمه:
«اعْلَمْ أَنَّهُ مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا، أَوْ أَخَافَهُ، فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَبَادَأَنِي، وَعَرَضَ بِنَفْسِهِ، وَدَعَانِي إِلَيْهَا، فَأَنَا أَسْرَعُ شَيْءٍ إِلَى نُصْرَةِ أَوْلِيَائِي، أَيَظُنُّ الَّذِي يُحَارِبُنِي أَنْ يَقُومَ لِي؟! أَوَيَظُنُّ الَّذِي يُغَازِينِي أَنْ يُعْجِزَنِي؟! أَوَيَظُنُّ الَّذِي يُبَارِزُنِي أَنْ يَسْبِقَنِي أَوْ يَفُوتَنِي؟! وَكَيْفَ وَأَنَا الثَّائِرُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ لَا أَكِلُ نُصْرَتَهُمْ إِلَى غَيْرِي؟!"
فالعبد الصالح في كَنَف الله تعالى ورعايته، يَحفَظه، ولا يَكِله إلى نفسه طرفة عَين؛ قال تعالى:
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ ۖ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ
و"المراد بوليِّ الله: العالمُ بالله المواظِبُ على طاعته، المخلِص في عبادته" [2]، «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ»؛ أي: أَحَبُّ ما يتقرَّب به العبدُ إلى ربِّه، وينال ثوابه ومرضاته: الفرائضُ؛ فهي أفضل الأعمال، وأحبُّها إلى الله - عزَّ وجلَّ - قال عمر بن الخطاب : " أفضل الأعمال أداء ما افترض الله تعالى، والوَرَع عمَّا حرَّم الله تعالى، وصدق النيَّة فيما عند الله - عزَّ وجلَّ " [3].
والتقرُّب إلى الله تعالى على درجتين؛ الأولى: أداء الفرائض، والثانية: أداء النوافل، وأحبُّها إلى الله تعالى أداء الفرائض، وتشمل: أداء الواجبات من الصلاة والصيام والزكاة والحجِّ وبرِّ الوالدين، وغيرها، وتركَ المحرَّمات من السرقة والزنا وشهادة الزور وعقوق الوالدين، وغيرها، فالفرائضُ مقدَّمة على النوافل، والسببُ في ذلك: "أن الأمر بها جازمٌ، وهي تتضمَّن أمرينِ: الثوابَ على فعلها، والعقابَ على تركها، بخلاف النوافل؛ فإن الأمر بها غيرُ جازم، ويُثاب على فعلها، ولا يُعاقب على تركها، فالفرائضُ أكملُ، فكانت إلى الله - عزَّ وجلَّ – أحبَّ، وأشدَّ تقريبًا"[ 4]. قوله: «وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ»؛ أي: وما يزال العبدُ يُداوِم على طاعة الله، ويتقرَّب إليه بنوافل العبادات والطاعات، من صلاة الليل والصَّدَقات والذِّكر وقراءة القرآن، والإصلاح بين الناس، وأداء السُّنن، ونحوِها بعد أداء الفرائض، حتى ينال محبَّة الله - عزَّ وجلَّ - قال تعالى:
﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ فِي السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَيُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي أَهْلِ الأرضِ»
فلا معنى للنوافل دون الفرائض؛ قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : "إِنِّي مُوصِيكَ بِوَصِيَّةٍ إِنْ حَفِظْتَهَا، فَإِنَّ لِلَّهِ حَقًّا فِي اللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ فِي النَّهَارِ، وَإِنَّ لِلَّهِ حَقًّا فِي النَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ فِي اللَّيْل، وَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ نَافِلَةً حَتَّى تُؤَدَّى الْفَرِيضَةُ " [6]. فالفرائضُ أساس وأصول، والنوافل فروع، والولاية إنما تتحقَّق بالنوافل مع الفرائض، لا مع إخلال بها.
قوله: «فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا»؛ أي: إذا أحبَّ الله عبدَه، حَفِظه في سمعه، وبصره، ويده، ورجله، ونفسِه كلِّها؛
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمًا، فَقَالَ:
«يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ.....»
"ومعنى ذلك أنه لا يَسمَع ما لم يَأذَن الشرع له بسَمَاعه، ولا يُبصر ما لم يَأذَن الشرعُ له في إبصاره، ولا يَمُدُّ يده إلى شيء ما لم يَأذَن الشرع له في مدِّها إليه، ولا يسعى برجله إلا فيما أذن الشرع في السعي إليه" [8]، فلا تشتغل هذه الجوارح إلا بالطاعات، ولا تتحرَّك إلا فيما يُرضي ربَّ العباد. قوله: «وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ»؛ أي: إن طلب مني شيئًا من أمور الدنيا والآخرة، أجبتُه، وإن لجأ إليَّ واستعاذ بي من شرٍّ يخَافُه، أَعَذْتُه وأَجَرْتُه، "يعني أن هذا المحبوب المقرَّب، له عند الله منزلة خاصَّة تقتضي أنه إذا سأل الله شيئًا، أعطاه إياه، وإن استعاذ به من شيء، أعاذه منه، وإن دعاه، أجابه، فيَصِير مُجابَ الدعوة؛ لكرامته على الله - عزَّ وجلَّ" [9]،
ويؤيِّده حديث أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:
«إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ»
وكان سعدُ بنُ أبي وقَّاص رضي الله عنه مُجابَ الدعوة، دعا على رجل من أهل الكوفة اتَّهَمه بالباطل، فاستجاب الله دعاءه، قال: "اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا، قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَأَطِلْ عُمرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ بِالفِتَنِ، وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ، قَالَ عَبْدُ المَلِكِ – أحد رواة الحديث -: فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ، قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنَ الكِبَرِ، وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ"[11].
قوله: «وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ»؛ أي: أن الله تعالى كتب الموت على جميع الخلق؛ قال تعالى:
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ
ولا يخفى على أحد أن ما في الموت من شدَّة وألم يُحدِث كراهيةً في نفس العبد منه، فيدفع الله تعالى عن المؤمن هذه الكراهية ببشائرَ يُحدِثها، ولطائفَ وكراماتٍ يُظهِرها؛ حتى يحبَّ لقاء ربِّه؛ قال تعالى:
﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ ۙ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:
«مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ: إِنَّا لَنَكْرَهُ المَوْتَ، قَالَ: «لَيْسَ ذَاكِ؛ وَلَكِنَّ المُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ المَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ»
فإذا مات المؤمنُ، حَصَل له النعيم الأبديُّ الذي لا يَنقطِع؛ "فإن العبد الذي هذا حالُه صار محبوبًا للحقِّ محبًّا له، يتقرَّب إليه أولاً بالفرائض، وهو يحبُّها، ثم اجتهد في النوافل التي يحبُّها ويحبُّ فاعلها، فأتى بكلِّ ما يَقدِر عليه من محبوب الحقِّ، فأحبَّه الحقُّ لفعل محبوبه من الجانبين؛ بقصد اتِّفاق الإرادة، بحيث يحبُّ ما يحبُّه محبوبه، ويكره ما يَكرَهه محبوبه، والربُّ يكره أن يسوء عبدَه ومحبوبَه، فلَزِم من هذا أن يَكرَه الموت ليزداد من محابِّ محبوبه، واللهُ سبحانه وتعالى قد قضى بالموت، فكلُّ ما قضى به فهو يريده ولا بدَّ منه، فالربُّ مُريدٌ لِمَوته؛ لما سبق به قضاؤه، وهو مع ذلك كارهٌ لِمُساءة عبده، وهي الْمُساءة التي تَحصُل له بالموت، فصار الموت مرادًا للحقِّ من وجه، مكروهًا له من وجه، وهذا حقيقةُ التردُّد، وهو أن يكون الشيء الواحد مرادًا من وجه، مكروهًا من وجه، وإن كان لا بدَّ من ترجُّح أحد الجانبين كما ترجَّح إرادة الموت؛ لكن مع وجود كراهة مُساءة عبده،
وليس إرادتُه لموت المؤمن الذي يحبُّه ويَكرَه مُساءته كإرادته لموت الكافر الذي يُبغضه ويريد مُساءته" [13].
المراجع
- "الزهد" لأحمد بن حنبل (ص: 54).
- "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (11/ 342).
- "قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد" لمحمد بن عليٍّ الحارثيِّ (2/ 267)
- "التعيين في شرح الأربعين" للطوفيِّ (ص: 319).
- رواه البخاريُّ (7485)، ومسلم (2637).
- "الزهد" لهناد بن السري (1/ 284).
- رواه وأحمد (2669)، والترمذيُّ (2516)، وقال: حديث حسن صحيح، وصحَّحه عبد الحقِّ في "الأحكام الوسطى" (4/ 285)، والألبانيُّ في "صحيح الجامع الصغير وزيادته" (2/ 1317).
- "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 129).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 348).
- رواه البخاريُّ (2703)، ومسلم (1675).
- رواه البخاريُّ (755)، ومسلم (453).
- رواه البخاريُّ (6507)، ومسلم (2683).
- "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (18/ 130).
النقول
قال ابن رجب رحمه الله : " وقد قيل: إنّه أَشرَف حديث رُوي في ذكر الأولياء. قوله عزّ وجلّ: «من عادى لي وليًّا، فقد آذنتُه بالحرب» يعني: فقد أعلمتُه بأنّي محارب له، حيث كان محاربًا لي بمعاداة أوليائي؛ ولهذا جاء في حديث عائشة: «فقد استحلَّ محاربتي»، وفي حديث أبي أُمامةَ وغيره: «فقد بارزني بالمحاربة»، وخرَّج ابن ماجه بسند ضعيف عن معاذِ بنِ جبل،
«إِنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ، وَإِنَّ مَنْ عَادَى لِلَّهِ وَلِيًّا، فَقَدْ بَارَزَ اللَّهَ بِالْمُحَارَبَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْأَبْرَارَ الْأَتْقِيَاءَ الْأَخْفِيَاءَ، الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِذَا حَضَرُوا لَمْ يُدْعَوْا، وَلَمْ يُعْرَفُوا، قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى، يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ»
فأولياء اللّه تَجِب موالاتهم، وتَحرُم معاداتهم، كما أنّ أعداءه تجب معاداتهم، وتحرم موالاتهم" [1].
قال ابن هبيرة رحمه الله : "في هذا الحديث من الفقه: أن الله تعالى قدم الإعذار إلى كل من عادى وليًّا بأنه محاربه" [2].
قال ابن تيمية رحمه الله : "وهو أشرف حديث رُوِي في صفة الأولياء" [3].
قال ابن الملقِّن رحمه الله : "وهو أصلٌ في السلوك إلى الجليل جلَّ جلاله، والوصولِ إلى معرفته ومحبَّته وطريقه" [4].
قال ابن رجب رحمه الله : "واعلم أنّ جميع المعاصي محارَبة للّه عزَّ وجلَّ؛ قال الحسن بن آدمَ: هل لك بمحاربة اللّه من طاقة؟! فإنّ من عصى اللّه فقد حاربه؛ لكن كلَّما كان الذّنب أقبحَ، كان أشدَّ محاربةً للّه؛ ولهذا سمَّى اللّه تعالى أَكَلَة الرّبا وقُطّاع الطّريق محاربين للّه تعالى ورسوله؛ لعِظَم ظُلمهم لعباده، وسعيهم بالفساد في بلاده، وكذلك معاداةُ أوليائه، فإنّه تعالى يتولَّى نُصرة أوليائه، ويحبُّهم ويؤيّدهم، فمن عاداهم، فقد عادى اللّه وحاربه، وفي الحديث
«اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي، لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا، فَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ، وَمَنْ آذَى اللَّهَ يُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ» خَرَّجه الترمذيُّ وغيره"
قال الشوكانيُّ رحمه الله : "حديث «من عادى لي وليًّا» قد اشتمل على فوائدَ كثيرةِ النَّفع، جليلةِ القَدْرِ لِمَن فَهِمها حقَّ فَهْمِها، وتدبَّرها كما ينبغي"[6].
قال ابن حجر رحمه الله : "المراد بوليِّ الله: العالمُ بالله المواظِبُ على طاعته، المخلِص في عبادته" [7].
قال ابن رجب رحمه الله : "وقوله: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ»، لَمّا ذكر أنّ معاداة أوليائه محاربة له، ذَكَر بعد ذلك وصف أوليائه الّذين تَحرُم معاداتهم، وتجب موالاتهم، فذَكَر ما يُتقرَّب به إليه، وأصل الولاية القُرب، وأصل العداوة البُعد، فأولياء اللّه هم الّذين يتقرّبون إليه بما يُقرِّبهم منه، وأعداؤه الّذين أبعدهم عنه بأعمالهم المقتضية لطردهم وإبعادهم منه، فقسَّم أولياءه المقرَّبين قسمين؛ أحدهما: من تقرَّب إليه بأداء الفرائض، ويشمل ذلك فعل الواجبات، وترك المحرّمات؛ لأنّ ذلك كلّه من فرائض اللّه الّتي افترضها على عباده. والثّاني: من تقرَّب إليه بعد الفرائض بالنّوافل، فظهر بذلك أنّه لا طريق يوصِّل إلى التّقرُّب إلى اللّه تعالى، وولايته، ومحبَّته، سوى طاعته الّتي شرعها على لسان رسوله، فمن ادَّعى ولاية اللّه، ومحبّته بغير هذا الطّريق، تبيَّن أنّه كاذب في دعواه، كما كان المشركون يتقرَّبون إلى اللّه تعالى بعبادة من يعبدونه من دونه، كما حكى اللّه عنهم أنّهم قالوا:
مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ
وكما حكى عن اليهود والنّصارى أنّهم قالوا:
نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ
مع إصرارهم على تكذيب رسله، وارتكاب نواهيه، وترك فرائضه؛ فلذلك ذكر في هذا الحديث أنّ أولياء اللّه على درجتين: أحدهما: المتقرِّبون إليه بأداء الفرائض، وهذه درجة المقتصدين أصحاب اليمين، وأداء الفرائض أفضل الأعمال كما قال عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه: أفضل الأعمال أداء ما افترض اللّه، والوَرَع عمّا حرَّم اللّه، وصدق النّيّة فيما عند اللّه عزّ وجلّ. وقال عمر بن عبد العزيز في خُطبته: أفضل العبادة أداء الفرائض، واجتناب المحارم؛ وذلك لأنّ اللّه عزّ وجلّ إنّما افترض على عباده هذه الفرائض ليقرّبهم منه، ويوجب لهم رضوانه ورحمته. الدّرجة الثّانية: درجة السّابقين المقرَّبين، وهم الّذين تقرَّبوا إلى اللّه بعد الفرائض بالاجتهاد في نوافل الطّاعات، والانكفاف عن دقائق المكروهات بالورع، وذلك يوجب للعبد محبَّة اللّه، كما قال: «ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنّوافل حتّى أحبَّه»، فمن أحبَّه اللّه، رزقه محبّته وطاعته والاشتغال بذكره وخدمته، فأوجب له ذلك القرب منه، والزُّلفى لديه، والَحظوة عنده" [8].
قال ابن دقيق العيد رحمه الله : "ومعنى ذلك أنه لا يَسمَع ما لم يَأذَن الشرع له بسَمَاعه، ولا يُبصر ما لم يَأذَن الشرعُ له في إبصاره، ولا يَمُدُّ يده إلى شيء ما لم يَأذَن الشرع له في مدِّها إليه، ولا يسعى برجله إلا فيما أذن الشرع في السعي إليه "[9].
قال ابن رجب رحمه الله : " وكان داود - عليه السّلام - يقول في دعائه: "اللّهمّ إنّي أسألك حبَّك، وحبَّ من يحبُّك، وحبَّ العمل الّذي يبلِّغني حبَّك، اللّهمّ اجعل حبَّك أحبَّ إليَّ من نفسي وأهلي ومالي، ومن الماء البارد" [10].
قال ابن رجب رحمه الله : "من أحبَّ اللّه، لم يكن عنده شيء آثَرُ من هواه، ومن أحبَّ الدّنيا، لم يكن عنده آثَرُ من هوى نفسه، فالحبُّ للّه تعالى أمير مؤمَّر على الأمراء، زُمْرته أوَّل الزُّمَر يوم القيامة، ومجلسه أقرب المجالس فيما هنالك، والمحبّة منتهى القُربة والاجتهاد، ولن يسأم المحبُّون من طول اجتهادهم للّه عزّ وجلّ، يحبُّونه ويحبّون ذكره، ويحبِّبونه إلى خلقه، يمشون بين عباده بالنّصائح، ويخافون عليهم من أعمالهم يوم تبدو الفضائح، أولئك أولياء اللّه وأحبَّاؤه، وأهل صفوته، أولئك الّذين لا راحة لهم دون لقائه. وقال فَتْحٌ الْمَوْصِلِيُّ: المحبُّ لا يجد مع حبِّ اللّه عزّ وجلّ للدّنيا لذَّةً، ولا يَغفُل عن ذكر اللّه طرفة عين. وقال محمدُ بْنُ النَّضْرِ الْحَارِثِيُّ: ما يكاد يَمَلُّ القُربة إلى اللّه تعالى محبٌّ للّه عزّ وجلّ، وما يكاد يسأم من ذلك. وقال بعضهم: المحبُّ للّه طائر القلب، كثير الذّكر، متسبِّب إلى رضوانه بكلِّ سبيل يقدر عليها من الوسائل والنّوافل دَوْبًا دوبًا، وشَوْقًا شوقًا" [11]
قال ابن تيمية رحمه الله : "فإن العبد الذي هذا حالُه صار محبوبًا للحقِّ محبًّا له، يتقرَّب إليه أولاً بالفرائض، وهو يحبُّها، ثم اجتهد في النوافل التي يحبُّها ويحبُّ فاعلها، فأتى بكلِّ ما يَقدِر عليه من محبوب الحقِّ، فأحبَّه الحقُّ لفعل محبوبه من الجانبين؛ بقصد اتِّفاق الإرادة، بحيث يحبُّ ما يحبُّه محبوبه، ويكره ما يَكرَهه محبوبه، والربُّ يكره أن يسوء عبدَه ومحبوبَه، فلَزِم من هذا أن يَكرَه الموت ليزداد من محابِّ محبوبه، واللهُ سبحانه وتعالى قد قضى بالموت، فكلُّ ما قضى به فهو يريده ولا بدَّ منه، فالربُّ مُريدٌ لِمَوته؛ لما سبق به قضاؤه، وهو مع ذلك كارهٌ لِمُساءة عبده، وهي الْمُساءة التي تَحصُل له بالموت، فصار الموت مرادًا للحقِّ من وجه، مكروهًا له من وجه، وهذا حقيقةُ التردُّد، وهو أن يكون الشيء الواحد مرادًا من وجه، مكروهًا من وجه، وإن كان لا بدَّ من ترجُّح أحد الجانبين كما ترجَّح إرادة الموت؛ لكن مع وجود كراهة مُساءة عبده، وليس إرادتُه لموت المؤمن الذي يحبُّه ويَكرَه مُساءته كإرادته لموت الكافر الذي يُبغضه ويريد مُساءته" [12].
قال ابن رجب رحمه الله : "ولا يزال هذا الّذي في قلوب المحبّين المقرّبين يقوى حتّى تمتلئ قلوبهم به، فلا يبقى في قلوبهم غيره، ولا تستطيع جوارحهم أن تنبعث إلّا بموافقة ما في قلوبهم، ومن كان حاله هذا، قيل فيه: ما بَقِي في قلبه إلّا اللّه، والمراد معرفته ومحبَّته وذِكْره [13].
قال ابن القيم رحمه الله : "وقال بعض العارفين: ليست الخاصَّة من الحزن في شيء. وقوله: "معرفة الله جلا نورُها كلَّ ظُلمة، وكَشَف سرورُها كلَّ غُمَّة" كلام في غاية الحُسن؛ فإن من عرف الله أحبَّه ولا بدَّ، ومن أحبَّه انقشعت عنه سحائبُ الظُّلمات، وانكشفت عن قلبه الهموم والغموم والأحزان، وعَمُر قلبُه بالسرور والأفراح، وأقبلت إليه وفود التهاني والبشائر من كل جانب، فإنه لا حزن مع الله أبدًا؛ ولهذا قال تعالى حكايةً عن نبيِّه ﷺ أنه قال لصاحبه أبى بكر:
لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا
فدلَّ أنه لا حُزْنَ مع الله، وأن من كان الله معه، فما له وللحزن؟! وإنما الحزن كلُّ الحُزن لمن فاته الله، فمن حصَلَ اللهُ له، فعلى أيِّ شَيءٍ يَحزَنُ؟! ومن فاته اللهُ، فبأيِّ شَيءٍ يَفرَحُ؟ [14].
قال ابن رجب رحمه الله : "قوله: «وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ»، وفي الرواية الأخرى: «إِنْ دَعَانِي أَجَبْتُهُ، وَإِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ»؛ يعني أن هذا المحبوب المقرَّب، له عند الله منزلة خاصَّة تقتضي أنه إذا سأل الله شيئًا، أعطاه إياه، وإن استعاذ به من شيء، أعاذه منه، وإن دعاه، أجابه، فيَصِير مُجابَ الدعوة؛ لكرامته على الله - عزَّ وجلَّ - وقد كان كثير من السَّلَف الصالح معروفًا بإجابة الدعوة" [15].
قال ابن عثيمين رحمه الله : "الحديث يسمَّى عند المحدِّثين قُدسيًّا، والحديث القُدسيُّ: كلُّ ما رواه النبيُّ ﷺ عن ربِّه عزَّ وجلَّ. لأنه منسوب إلى النبيِّ ﷺ تبليغًا، وليس من القرآن بالإجماع، وإن كان كلُّ واحد منهما قد بلَّغه النبيُّ ﷺ أمَّته عن الله عزَّ وجلَّ. وقد اختلف العلماء - رحمهم الله - في لفظ الحديث القدسيِّ: هل هو كلام الله تعالى، أو أن الله تعالى أوحى إلى رسوله ﷺ معناه، واللفظُ لفظ رسول الله ﷺ؟ على قولين: القول الأول: أن الحديث القدسيَّ من عند الله لفظُه ومعناه؛ لأن النبيَّ ﷺ أضافه إلى الله تعالى، ومن المعلوم أن الأصل في القول المضاف أن يكون بلفظ قائله لا ناقلِه، لا سيَّما أن النبيَّ ﷺ أقوى الناس أمانةً، وأوثقُهم روايةً.
القول الثاني: أن الحديث القدسيَّ معناه من عند الله، ولفظه لفظ النبيِّ ﷺ، وذلك لوجهين:
الوجه الأول: لو كان الحديث القدسيُّ من عند الله لفظًا ومعنًى، لكان أعلى سندًا من القرآن؛ لأن النبيَّ ﷺ يرويه عن ربِّه تعالى بدون واسطة، كما هو ظاهر السياق، أما القرآن، فنزل على النبيِّ ﷺ بواسطة جبريل عليه السلام؛
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ
وقال:
نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِينُ (193) عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيّٖ مُّبِينٖ (195)
الوجه الثاني: أنه لو كان لفظ الحديث القدسيِّ من عند الله، لم يكن بينه وبين القرآن فرقٌ؛ لأن كِلَيهما على هذا التقدير كلام الله تعالى، والحكمةُ تقتضي تساويهما في الحكم حين اتَّفَقا في الأصل، ومن المعلوم أن بين القرآن والحديث القدسيِّ فروقًا كثيرة، منها: أن الحديث القدسيَّ لا يُتعَّبد بتلاوته؛ بمعنى: أن الإنسان لا يتعبَّد اللهَ تعالى بمجرَّد قراءته؛ فلا يثاب على كلِّ حرف منه عشْرَ حسنات، والقرآن يُتعبَّد بتلاوته بكلِّ حرف منه عشْرُ حسنات. ومنها: أن الله عزَّ وجلَّ تحدَّى أن يأتيَ الناس بمثل القرآن أو آية منه، ولم يَرِد مثلُ ذلك في الأحاديث القدسيَّة.
ومنها: أن القرآن محفوظ من عند الله عزَّ وجلَّ؛ كما قال سبحانه:
﴿ إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ ﴾
والأحاديث القدسية بخلاف ذلك؛ ففيها الصحيح والحسن؛ بل أُضيف إليها ما كان ضعيفًا أو موضوعًا، وهذا وإن لم يكن منها؛ لكن نُسِب إليها، وفيها التقديم والتأخير، والزيادةُ والنقص. ومنها: أن القرآن لا تجوز قراءته بالمعنى بإجماع المسلمين، أما الأحاديث القدسية، فعلى الخلاف في جواز نقل الحديث النبويِّ بالمعنى، والأكثرون على جوازه. ومنها: أن القرآن تُشرَع قراءته في الصلاة، ومنه ما لا تصحُّ الصلاة بدون قراءته، بخلاف الأحاديث القدسية. ومنها: أن القرآن لا يمسُّه إلا طاهر على الأصحِّ، بخلاف الأحاديث القدسية. ومنها: أن القرآن لا يقرؤه الجُنُب حتى يغتسل على القول الراجح، بخلاف الأحاديث القدسية. ومنها: أن القرآن ثبت بالتواتُر القطعيِّ المفيد للعلم اليقينيِّ، فلو أَنكَر منه حرفًا أجمع القرَّاء عليه، لكان كافرًا، بخلاف الأحاديث القدسية؛ فإنه لو أَنكَر شيئًا منها مدَّعيًا أنه لم يثبت، لم يكفر، أما لو أنكره مع علمه أن النبيَّ ﷺ قاله، لكان كافرًا؛ لتكذيبه النبيَّ ﷺ. وأجاب هؤلاء عن كون النبيِّ ﷺ أضافه إلى الله، والأصل في القول المضاف أن يكون لفظ قائله بالتسليم أن هذا هو الأصل؛ لكن قد يُضاف إلى قائله معنًى لا لفظًا؛ كما في القرآن الكريم؛ فإن الله تعالى يُضيف أقوالًا إلى قائليها، ونحن نعلم أنها أضيفت معنًى لا لفظًا، كما في قصص الأنبياء وغيرهم، وكلام الهُدْهُد والنَّمْلَة؛ فإنه بغير هذا اللفظ قطعًا. وبهذا يتبيَّن رجحان هذا القول، وليس الخلاف في هذا كالخلاف بين الأشاعرة وأهل السنَّة في كلام الله تعالى؛ لأن الخلاف بين هؤلاء في أصل كلام الله تعالى؛ فأهل السنَّة يقولون: كلام الله تعالى كلام حقيقيٌّ مسموع يتكلَّم سبحانه بصوت وحرف، والأشاعرة لا يُثبتون ذلك؛ وإنما يقولون: كلام الله تعالى هو المعنى القائم بنفسه، وليس بحرف وصوت؛ ولكن الله تعالى يَخلُق صوتًا يعبِّر به عن المعنى القائم بنفسه، ولا شكَّ في بطلان قولهم، وهو في الحقيقة قول المعتزلة؛ لأن المعتزلة يقولون: القرآن مخلوق، وهو كلام الله، وهؤلاء يقولون: القرآن مخلوق، وهو عبارة عن كلام الله، فقد اتَّفَق الجميع على أن ما بين دفَّتي المصحف مخلوق. ثم لو قيل في مسألتنا (الكلام في الحديث القدسيِّ): إن الأَولَى ترك الخَوض في هذا؛ خوفًا من أن يكون من التنطُّع الهالك فاعلُه، والاقتصار على القول بأن الحديث القدسيَّ ما رواه النبيُّ ﷺ عن ربِّه وكفى. لكان ذلك كافيًا، ولعلَّه أسلمُ، والله أعلم" [16].
المراجع
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 334).
- "الإفصاح عن معاني الصحاح" لابن هُبيرة (7/ 303).
- "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (18/ 129).
- "المعين على تفهم الأربعين" لابن الملقِّن (ص: 420).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 335).
- "قطر الولي على حديث الولي" للشوكانيِّ (ص: 1)
- "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (11/ 342).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 336، 337).
- "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 129).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 340)
- جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 341، 342).
- "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (18/ 130)
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 346)
- "طريق الهجرتين وباب السعادتين" لابن القيم (ص: 280)
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 348).
- "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 236 - 238)
غريب الحديث
عَادَى: خاصَمه، وصار له عَدُوًّ [1]
وَلِيًّا: الوليُّ: هو مَن يتولَّى الله أمرَه، ولا يَكِلُه إلى نفسه لحظةً؛
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ ۖ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ
وهو المتولِّي عبادةَ الله وطاعتَه على التوالي، بلا تخلُّلِ عصيان [2]
آذَنْتُه؛ أي: أَعلَمْتُه؛
﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾
أي: فاعلموا ذلك [3].
النَّوَافِل: هي ما عدا الفرائضَ التي افترضها الله سبحانه على عباده من جميع أجناس الطاعات من صلاة وصيام وحجٍّ وصدقة وأذكار، وكلِّ ما ندب الله سبحانه إليه، وَرغَّب فيه من غير حَتْمٍ وافتراض [4]
اسْتَعَاذَنِي: استعاذ به: لَجَأَ إليه، وهو عِيَاذُهُ؛ أي: مَلْجَؤُهُ [5]
المراجع
- "معجم اللغة العربية المعاصرة" للدكتور أحمد مختار (2/ 1472).
- "شرح مصابيح السنة" لابن الملك (3/ 86).
- "الزاهر في معاني كلمات الناس" لأبي بكر الأنباريِّ (2/ 4).
- "قطر الولي على حديث الولي" للشوكانيِّ (ص: 365).
- مختار الصحاح" للرازيِّ (ص: 221).