عن معاويةَ، قال: قال رسول الله ﷺ: «مَن يُرِدِ اللهُ به خيرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ، وإنَّما أنا قاسمٌ، واللهُ يُعطِي، ولن تزالَ هذه الأُمَّة قائمةً على أمر الله، لا يَضرُّهم مَن خالَفَهم، حتى يأتيَ أمرُ الله».
عن معاويةَ، قال: قال رسول الله ﷺ: «مَن يُرِدِ اللهُ به خيرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ، وإنَّما أنا قاسمٌ، واللهُ يُعطِي، ولن تزالَ هذه الأُمَّة قائمةً على أمر الله، لا يَضرُّهم مَن خالَفَهم، حتى يأتيَ أمرُ الله».
يُفقِّهه: يجعلُه فقيهًا، والفِقهُ: هو الفَهْمُ[1].
يروي معاوية عن رسول الله ﷺ أنه قال: «مَن يُرِدِ اللهُ به خيرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ»؛ أي: الذي يُريد الله به خيرًا عظيمًا يفقِّهُه في الدين.
ثم يقول ﷺ: «وإنَّما أنا قاسمٌ، واللهُ يُعطِي»؛ أَيْ: أنا أَقْسِمُ الْعِلْمَ بَيْنَكم، فأُلْقِي إليكم جميعًا ما يَليقُ بِكُلِّ أَحدٍ، واللَّهُ يُوَفِّقُ مَن يشاء منكم لِفَهْمِه.
ويقول ﷺ: «ولن تزالَ هذه الأُمَّة قائمةً على أمر الله، لا يَضرُّهم مَن خالَفهم، حتى يأتيَ أمرُ الله»: يبشِّر ﷺ أُمَّته أن هذا الدِّين باقٍ إلى قيام الساعة، ببقاء فئة ثابتةٍ على الحقِّ لا يضرُّهم من خالفهم.
خَيرُ ما اشتغل به العبدُ بعد أداءِ ما افترَض اللهُ عليه: تعلُّمُ العلم النافع، وتعليمُه للناس. والعلمُ النافع درجاتٌ، فأعلاها عِلمُ الشريعة والفقه في دِين الله - عزَّ وجلَّ.
وفي هذا الحديث يُبيِّن النبيُّ ﷺ أن من علامات إرادة الله الخيرَ بالعبد أن يَرزُقه سبحانه الفقهَ في الدِّين، فيقول ﷺ: «مَن يُرِدِ اللهُ به خيرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ»، وبدأ ﷺ الحديث بوصف الله - عزَّ وجلَّ - بالإرادة، "ومعلومٌ أن مذهبَ أهل السُّنة والجماعة في باب أسماء الله وصفاته تنزيهُ الله تعالى عما نزَّه عنه نفْسه، وإثبات جميع ما أثبته لنفْسه في كتابه، وعلى لسان رسوله ﷺ من الأسماء والصفات على الوجه اللائق بجلال الله بدون تكييف ولا تمثيل، وبدون تأويل أو تعطيل؛ كما قال سبحانه وتعالى:
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}
[الشورى: 11]
وإرادةُ الله تعالى عند أهل السُّنة نوعانِ دلَّ عليهما كتابُ الله وسُنَّةُ نبيِّه ﷺ؛ إحداهما: بمعنى المشيئة الكَوْنيَّة القَدَرية، والثانية: الإرادة الدينية الشرعية. والفرقُ بينهما أن الإرادة الكونية القَدَرية شاملةٌ لكل شيء، لا فرْقَ فيها بين ما يُحبُّه اللهُ وما يُبغِضه، ولا بدَّ من وقوع ما تقتضيه، ومنها قوله تعالى:
﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾
[البروج: 16]
وقوله تعالى:
﴿ وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ ۚ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾
[هود: 34]
وأما الإرادةُ الدينيةُ الشرعيةُ فهي خاصَّةٌ بما يحبُّه اللهُ ويرضاه لعباده، ولا يلزم وقوعُ ذلك، ومنه قوله تعالى:
﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾
[البقرة: 185]
ومن السُّنة هذا الحديثُ الذي معنا، وهو قوله ﷺ:
«مَن يُرِدِ اللهُ به خيرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ»"[1].
وقد جاء قوله ﷺ: «خَيرًا» نكرةً ليَعُمَّ أنواعَ الخير كلَّها، وليشمل القليل والكثير منه، والتنكير للتعظيم أيضًا؛ لأن المقام يَقتضيه، والفقه في الديِّن هو الفَهْم وحُسن الإدراك لقواعد الإسلام، وما يتَّصِل بها من الفروعُ، وهو المعروفُ بالعلم الشرعيِّ. والفقهُ الْمُشار إليه لا يكون بالاكتساب فقط، وذلك بكثرة حفظ المسائل والأحكام وجمعها، فكم من حافظٍ للمسائل وجامعٍ للأحكام وهو غيرُ فقيهٍ، يُخطئ التقديرَ، ويُنزل الحكمَ في غير موضعه، ولا يُوفَّقُ للصواب! ومن ثَمَّ كان الفقهُ فَهْمًا يَفتَح اللهُ به على العبد بعد أن يجتهدَ في الكسب والأخذ بالأسباب، وأن مَن يفتح اللهُ عليه بذلك، فقد أراد الله به الخير واختصَّه به، ومفهومُ الحديث أن مَن لم يتفقَّهْ في الدين – أي: يتعلَّم - فقد حُرِم الخيرَ[2].
وخصَّ عِلمَ الدين بالذِّكر دونَ سائر العلوم؛ لأنه أشرفُها وأرفعها قَدْرًا، فهو الموصِّلُ إلى الله، وبه تكون خشيتُه سبحانه، والتزام طاعته، واجتناب نواهيه، ومِن ثَمَّ النجاة من المهالك في الدنيا والآخرة[3]، وسائر العلوم إنما هي لعلوم الدِّين تبَعٌ وخدَمٌ، وشَرَفُها بقَدْر اتِّصالها به.
وقوله ﷺ: «وإِنَّمَا أنا قاسِمٌ، والله يُعطِي»، قيل معناه: "أن المعطيَ حقيقةً هو اللهُ تعالى ولستُ أنا مُعطيًا؛ وإنما أنا خازنٌ على ما عندي، ثم أَقسِم ما أُمِرْت بقسمته على حسب ما أُمِرْت به؛ فالأمور كلُّها بمشيئة الله تعالى، وتقديره، والإنسان مصرَّفٌ مربوبٌ"[4].
وقيل: هو متعلِّقٌ بما قبلَه، والمعنى: أنه ﷺ إنما يُبلِّغ ما أُمر ببلاغه للجميع، ولا يخصُّ أحدًا دون أحد، وأن الفَهْم والفقه إنما هو هِبةٌ وفتْحٌ من الله عزَّ وجلَّ.
قوله ﷺ: «وإِنَّما أنا قاسِمٌ»؛ أي: أَقسِم بينكم تبليغ الوحي من خير تخصيص، «واللهُ يُعطِي» كلَّ واحد منكم من الفَهْم على قَدْر ما تعلَّقت به إرادتُه تعالى، فالتفاوتُ في أفهامكم منه سبحانه، وقد كان بعض الصحابة يسمع الحديثَ فلا يَفهَم منه إلا الظاهرَ الجليَّ، ويسمعه آخَرُ منهم، أو مِن القَرْن الذي يَليهم، أو ممَّن أتى بعدهم، فيستنبط منه مسائلَ كثيرةً
﴿ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [5].
[الجمعة: 4]
ثم بشَّر ﷺ أُمَّته أن هذا الدِّين باقٍ إلى قيام الساعة، ببقاء فئة ثابتةٍ على الحقِّ إلى أن يأتيَ أمر الله
فقال ﷺ:
«ولن تزالَ هذه الأمَّة قائمةً على أمر الله، لا يضرُّهم مَن خالفهم، حتى يأتيَ أمر الله»
والمراد بأمر الله، قيل: هي الريح الطيِّبة التي تكون قبلَ قيام الساعة تَقبض أرواح المؤمنين؛ لحديث أبي هريرة
عن رسول الله ﷺ قال:
«إن اللهَ يبعثُ ريحًا من اليمن ألْيَن من الحرير، فلا تدعُ أحدًا في قلبه مثقالُ حبَّة إيمان»[6].
وقد اختلف العلماءُ في بيان المقصود بهذه الطائفة الثابتة على الحقِّ، القائمة بأمر الله حفظًا وبلاغًا، ومِن أجمعِ الأقوال في ذلك أنه "يُحتمَل أن تكونَ هذه الطائفةُ متفرِّقةً من أنواع المؤمنين؛ فمنهم شُجعانٌ مقاتلون، ومنهم فقهاءُ، ومنهم محدِّثون، ومنهم زُهَّادٌ، ومنهم آمِرون بالمعروف وناهون عن المنكَر، ومنهم أهل أنواع من الخير، ولا يَلزَم اجتماعهم؛ بل يكونون متفرِّقين"[7].
قال ابن بطَّال رحمه الله: "فيه فضلُ العلماء على سائر الناس، وفيه فضل الفِقه في الدِّين على سائر العلوم، وإنما ثَبَت فضله؛ لأنه يقود إلى خشية الله، والتزام طاعته، وتجنُّب معاصيه
قال الله تعالى:
{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}
[فاطر: 28].
وقال ابن عمر - للذي قال له: فقيه -: إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة. ولمعرفة العلماء بما وَعَدَ الله به الطائعين، وأَوْعَد العاصين، ولعظيم نعم الله على عباده؛ اشتدَّت خَشْيَتُهم"[1].
قال ابن حجر رحمه الله: "ومفهوم الحديث أنّ من لم يتفقَّه في الدّين؛ أي: يتعلَّم قواعد الإسلام، وما يتَّصِل بها من الفروع، فقد حُرِم الخير. وقد أخرج أبو يعلى حديث معاويةَ من وجه آخَرَ ضعيفٍ وزاد في آخره: «ومن لم يتفقّه في الدّين لم يبال اللّه به» والمعنى صحيح؛ لأنّ من لم يعرف أمور دينه؛ لا يكون فقيهًا ولا طالبَ فقه، فيصحُّ أن يوصف بأنّه ما أُريد به الخير، وفي ذلك بيان ظاهر لفضل العلماء على سائر النّاس، ولفضل التّفقُّه في الدّين على سائر العلوم"[2].
قال ابن تيمية رحمه الله: "وقد ثبَت في الصّحيح عن النّبيِّ ﷺ أنّه قال: «من يرد اللّه به خيرًا يفقِّهه في الدّين» ولازمُ ذلك أنّ من لم يفقّهه اللّه في الدّين لم يُرِدْ به خيرًا، فيكون التّفقُّهُ في الدّين فرضًا. والتّفقُّه في الدّين: معرفة الأحكام الشّرعيّة بأدلَّتها السّمعيَّة. فمن لم يعرف ذلك لم يكن متفقِّهًا في الدّين؛ لكن من النّاس من قد يَعجِز عن معرفة الأدلّة التّفصيليّة في جميع أموره، فيسقط عنه ما يَعجِز عن معرفته، لا كلُّ ما يَعجِز عنه من التّفقُّه، ويلزمه ما يقدر عليه، وأمّا القادر على الاستدلال، فقيل: يحرم عليه التّقليد مطلقًا، وقيل: يجوز مطلقًا، وقيل: يجوز عند الحاجة؛ كما إذا ضاق الوقت عن الاستدلال، وهذا القول أعدل الأقوال. والاجتهاد ليس هو أمرًا واحدًا لا يقبل التجزي والانقسام؛ بل قد يكون الرّجل مجتهدًا في فنٍّ أو باب أو مسألة دون فنٍّ وباب ومسألة، وكلُّ أحد فاجتهاده بحسب وُسْعِه"[3].
قال الملا علي القاري رحمه الله: "«وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ»؛ أي: للعلم. «واللّه يُعطي»؛ أي: الفَهم في العلم بمبناه، والتّفكُّر في معناه، والعمل بمقتضاه. قال الطِّيبيُّ: الواو في (وإنّما) للحال من فاعل (يفقّهه) أو مفعوله؛ أي: أنا أقسم العلم بينكم، فأُلقي إليكم جميعًا ما يليق بكلِّ أحد، واللّه يوفِّق من يشاء منكم لفَهمه. قال ابن حجر: ومن ثمَّ تفاوتت أفهام الصّحابة مع استواء تبليغه عليه الصّلاة والسّلام؛ بل فاق بعض من جاء بعد الصّحابة بعضهم في الفَهم والاستنباط كما أشار لذلك الخبر الآتي: «ربّ حامل فقه ليس بفقيه، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه». وقيل: معناه أنا أَقسِم المال بينكم واللّهُ يعطيه، فلا يكون في قلوبكم سخط وتنكُّر عن التّفاضل في القسمة؛ فإنّه أمر اللّه، والظّاهر أنّ المعنى أنا أَقسِم العلم بينكم واللّه يعطي العلم. كذا قاله بعض الشُّرَّاح، والأظهر أن لا منع من الجمع، وإن كان المقام يقتضي العلم، واللّه أعلم. قيل: ولم يقل: مُعْطٍ؛ لأنّ إعطاءه متجدِّد ساعةً فساعةً"[4].
قال السنديُّ رحمه الله: "قَوْلُهُ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا...» قيل: إن لم نقل بعموم (مَن)، فالأمر واضح؛ إذ هو في قوّة بعض من أريد له الخير، وإن قلنا بعمومها، يصير المعنى: كلُّ من يريد به الخير، وهو مشكِل بمن مات قبل البلوغ مؤمنًا ونحوه، فإنّه قد أريد به الخير وليس بفقيه، ويُجاب بأنّه عامٌّ مخصوص هو أكثر العمومات، والمراد: من يرد اللّه به خيرًا خاصًّا، على حذف الصّفة. انتهى. قلت: الوجه حمل الخير على أنّ التّنكير للتّعظيم، فلا إشكال على أنّه يمكِن حمل الخير على الإطلاق، واعتبار تنزيل غير الفقه في الدّين منزلة العدم بالنّسبة إلى الفقه في الدّين، فيكون الكلام مبنيًّا على المبالغة؛ كأن من لم يُعْطَ الفقهَ في الدّين ما أريد به الخير، وما ذكره من الوجوه لا يناسب المقصود، ويمكن حمل (من) على المكلَّفين؛ لأنّ كلام الشّارع غالبًا يتعلّق ببيان أحوالهم، فلا يَرِدُ من مات قبل البلوغ وأسلم، أو مات قبل مجيء وقت الصّلاة مثلًا؛ أي: قبل تقرُّر التّكليف والفقه في الدّين هو العلم الّذي يورث الخشية في القلب، ويَظهَر أثره على الجوارح، ويترتَّب عليه الإنذار كما يشير إليه قوله تعالى:
{فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [5]
[التوبة: 122]".
قال الصنعانيُّ رحمه الله: "الحديث دليلٌ على عظمة شأن التّفقُّه في الدّين، وأنّه لا يُعطاه إلّا من أراد اللّه به خيرًا عظيمًا؛ كما يرشِد إليه التّنكير، ويدلُّ له المقام. والفقه في الدّين تعلُّم قواعد الإسلام، ومعرفة الحلال والحرام، ومفهوم الشّرط أنّ من لم يتفقَّه في الدّين لم يُرد اللّه به خيرًا. وقد ورد هذا المفهوم منطوقًا في رواية أبي يعلى «ومن لم يفقَّهْ لم يُبَالِ اللّه به» وفي الحديث دليل ظاهر على شَرَف الفقه في الدّين، والمتفقِّهين فيه على سائر العلوم والعلماء، والمراد به معرفة الكتاب والسُّنَّة"[6].
قال القَسطلانيُّ رحمه الله: "«وإِنَّما أنا قاسِمٌ»؛ أي: أَقسِم بينكم تبليغ الوحي من خير تخصيص، «واللهُ يُعطِي» كلَّ واحد منكم من الفَهْم على قَدْر ما تعلَّقت به إرادتُه تعالى، فالتفاوتُ في أفهامكم منه سبحانه، وقد كان بعض الصحابة يسمعُ الحديثَ فلا يَفهَم منه إلا الظاهرَ الجليَّ، ويسمعه آخَرُ منهم، أو مِن القَرْن الذي يَليهم، أو ممَّن أتى بعدهم، فيستنبط منه مسائلَ كثيرة؛
﴿ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [7]".
[الجمعة: 4]
قال ابن بطَّال رحمه الله: "وقوله: «وإِنَّما أنا قاسِمٌ» يدلُّ على أنه لم يَستأثِر من مال الله دونَهم، وكذلك قوله: «ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخُمس، والخُمس مردود عليكم»[8]، وإنما قال: «وإِنَّما أنا قاسِمٌ»؛ تطييبًا لنفوسهم، لمفاضلته في العطاء. وقوله: «والله يعطي»؛ أي: واللهُ يُعطيكم ما أَقسِمه عليكم، لا أنا، فمن قَسَمْتُ له قليلاً، فذلك بقدَر الله له، ومن قَسَمت له كثيرًا، بقدرٍ أيضًا، وبما سبق له في أمِّ الكتاب، فلا يُزاد أحدٌ في رزقه، كما لا يُزاد أحدٌ في أجله.
وقوله: «ولن تزال هذه الأمةُ قائمةً على أمر الله»، يريد أن أمَّته آخِرُ الأمم، وأن عليها تقوم الساعة، وإن ظهرت أشراطها، وضَعُف الدين، فلابدَّ أن يبقى من أمَّته من يقوم به، والدليل على ذلك قوله: «لا يضرُّهم من خالفهم»، وفيه أن الإسلام لا يُذلُّ، وإن كثُر مطالبوه. فإن قيل: فقد روى عبد الرزَّاق، عن معمر، عن ثابت، عن أنس، عن الرسول ﷺ أنه قال: « لا تقوم الساعة حتى لا يقول أحد الله الله»، وروى ابن مسعود، أن النبيَّ ﷺ، قال: «لا تقوم الساعة إلا على شِرار الناس»، رواه شعبة، عن علىِّ بنِ الأقمر، عن أبى الأحوص، عن عبد الله، وهذه معارضة لحديث معاوية. قال الطبريُّ: ولا معارضة بينهما بحمد الله؛ بل يحقِّق بعضها بعضًا، وذلك أن هذه الأحاديث خَرَج لفظها على العموم، والمراد منها الخصوص، ومعناه: لا تقوم الساعة على أحدٍ يُوحِّد الله إلا بموضع كذا، فإن به طائفة على الحقِّ، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس بموضع كذا؛ لأن حديث معاوية ثابت، ولا يجوز أن تكون الطائفة القائمة بالحقِّ التي توحِّد الله التي هي شرار الناس؛ فثَبَت أن الموصوفين بأنهم شرار الناس غير الموصوفين بأنهم على الحقِّ مقيمون. وقد جاء ذلك بَيِّنًا في حديث أبى أُمامة الباهليِّ، وحديث عمرانَ بنِ حُصينٍ، قال الطبريُّ: حدَّثنا محمد بن الفرج، حدَّثنا ضمرة بن ربيعة، حدَّثنا يحيى بن أبى عمرو الشيبانيِّ، عن عمرو بن عبد الله الحمصيِّ، عن أبى أمامة الباهليِّ، أن النبيَّ ﷺ، قال: «لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحقِّ، لا يضرُّهم من خالَفهم»، قيل: فأين هي يا رسول الله؟ قال: «ببيت المقدس، أو أكناف بيت المقدس». وروى قتادة عن مطرِّف بن الشخِّير، عن عمرانَ بنِ حُصينٍ
عن الرسول ﷺ، قال:
«لا تزال طائفةٌ من أمَّتى يقاتلون على الحقِّ ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم الدجال».
قال مطرِّف: وكانوا يرون أنهم أهل الشام"[9].
قال الديوبنديُّ رحمه الله: "ومعنى قوله: (ولن تزال)؛ أي: لا يخلو زمان إلا وتوجد فيه تلك الطائفة القائمة على الحقِّ، لا أنهم يَكثُرون في كلِّ زمان، ولا أنهم يغلبون على من سواهم كما سبق إلى بعض الأفهام، حتى إن غلبة الدين في زمن عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام عندي ليس كما اشتهر على الألسنة؛ بل الموعود هو الغلَبة حيث يظهر عليه الصَّلاة والسَّلام وفيما حواليه. أما فيما وراء ذلك فلم يتعرَّض إليه الحديث، والعمومات كلُّها واردة في البلاد التي يظهر فيها ولا تتجاوز فيما وراءها، وإنما هو من بداهة الوهم والسَّبق إلى ما اشتَهَر بين الأنام"[10].
قال النوويُّ رحمه الله: "ويُحتمَل أن تكونَ هذه الطائفةُ متفرِّقةً من أنواع المؤمنين؛ فمنهم شجعانٌ مقاتلون، ومنهم فقهاءُ، ومنهم محدِّثون، ومنهم زُهَّادٌ، ومنهم آمِرون بالمعروف وناهون عن المنكَر، ومنهم أهل أنواع من الخير، ولا يَلزَم اجتماعهم؛ بل يكونون متفرِّقين"[11].