عنْ أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلَاإِلَى صُوَرِكُمْ؛ لَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ». وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ إِلَى صَدْرِهِ»
عنْ أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلَاإِلَى صُوَرِكُمْ؛ لَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ». وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ إِلَى صَدْرِهِ»
يروي أبو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -
عن رَسُول اللَّهِ ﷺ أنه قال:
«إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ؛ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ»
أَيْ: إن الصور الظاهرة، والأشكال الخارجية، ليست محطَّ نظر الله تعالى؛ فمَحَطُّ نظر الله تعالى من العبد القلبُ، وماذا يعمل من الصالحات؛ أي: إنَّ الْمُجَازَاةَ وَالْمُحَاسَبَةَ لا تكون على الأعمال الظاهرة والصور البارزة؛ إنَّمَا تَكُونُ عَلَى مَا فِي الْقَلْبِ.
الشرح المفصَّل للحديثهذا الحديث من الأحاديث المهمَّة جدًّا، التي ينبغي على المسلم فِقْهُها والوقوف معها طويلًا؛ لأنه يتحدَّث عن النِّيَّة وتأثيرها في الأعمال، والنيَّةُ إذا صَلَحت صَلَح العمل، وإذا فَسَدت فَسَد العمل، فيلقى الرجل ربَّه بأعمال يظنُّها كثيرةً، وهي عند الله غير مقبولة؛ لأنها لم تُفعَل من أجله؛ وإنما فُعِلت رياءً وسُمعةً؛ فإنَّ "الأعمال الظاهرة لا تَحصُل بها التقوى؛ وإنما تَحصُل بما يقع في القلب من عظمة الله وخشيته ومراقبته" [1]
فينفي رسول الله ﷺ أن يكون تقييم الله تعالى للإنسان بالنظر إلى جِسمه أو إلى صورته؛ بل نظره تعالى إلى القلب، فمن الناس من هم أحسنُ الناس جسمًا وصورةً، وإذا رأيتَهم تُعْجِبُك صورتهم وأجسامهم، وإذا تحدَّثوا تسمع لقولهم، ورغم ذلك هم منافقون، ومن أشدِّ أعداء الدين؛
كما وصفهم الله تعالى:
﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾
[المنافقون: 4].
وليس للَون الإنسان دورٌ في تقييم الله تعالى له؛ فلا قيمةَ لِلَون بَشْرَتِك في القَبول، سواءٌ كنتَ أسودَ أو أبيضَ أو أشقرَ أو قَمحيًّا، فلا دخل للإنسان في اختيار لونه؛ بل هو من تصوير الله للعبد، والتفاضل بالتقوى لا باللون؛
﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾
[الحجرات: 13].
"إذًا؛ الصور الظاهرة، والأشكال الخارجية، ليست محطَّ نظر الرب، محطُّ نظر الربِّ من العبد القلبُ، وماذا يعمل من الصالحات، وحينئذ فقد يكون كثيرٌ ممن له صورة حسنة أو مالٌ أو جاهٌ أو رياسةٌ في الدنيا، قلبُه خرابٌ من التقوى، ويكون مَن ليس له شيءٌ من ذلك - يعني من الدنيا - قلبُه مملوءٌ من التقوى، فيكون أكرمَ عند الله تعالى؛ بل ذلك هو الأكثر وقوعًا" [2]
وهناك فَهْمٌ مغلوط لهذا الحديث يَبُثُّه إبليسُ - لَعَنه الله - في بعض القلوب غير الواعية بتلبيس إبليسَ، وهو أنَّه طالما قلبُه عامر بالإيمان، فلا يَضُرُّه أنْ يُقصِّر في العمل وترك الفروض، وهذا أمر خطير؛ لأنَّ الإيمان قولٌ وعملٌ مقترنانِ، لا يَنْفَكُّ أحدهما عن الآخر؛ فالقول دونَ عملٍ ليس إيمانًا، والعملُ دون قولٍ ليس إيمانًا. وللأسف! اهتمامات الناس في هذا العصر تنصرف إلى الاهتمام بالجسد والعضلات والْمَلبَس والْمرَكب والزينة، ويُهملون القلب وتَربِيَته وتَنمِيَته وتطويعه، كما أنَّ معايير تقييم الناس في دنيا اليومَ يخالف هذا الحديث الشريف، فينصبُّ تقييم الناس لبعضهم بعضًا من خلال الصورة الخارجية، فيُقدِّرون ذا الشارة الحسنة، ويرفعون ذا المال، ويقدِّمون الجَسِيم الوسيم، حتى وإن كان جَوهرُه على غير ما يريد الله لعباده، ويُبعِدون ذا الشارة المتواضعة، والهيئة المعتادة، وهذا ظُلم له كما يُستشَفُّ من إيراد مسلم هذا الحديثَ تحت هذا الباب، فالأمر كما قال الشاعر:
تَرَى الرَّجُلَ النَّحِيفَ فتَزْدَرِيهِ = وفِي أثْوابِهِ أسَدٌ هَصُورُ
ويُعْجِبُكَ الطَّريرُ فتبتَلِيهِ = فيُخلِفُ ظنَّكَ الرَّجُلُ الطَّريرُ
فمَا عِظَمُ الرِّجالِ لهم بزَيْنٍ = ولكنْ زَيْنُهم كَرَمٌ وخِيرُ
النقول
قال ابن رجب الحنبليُّ رحمه الله: "إذًا؛ الصور الظاهرة، والأشكال الخارجية، ليست محطَّ نظر الرب، محطُّ نظر الربِّ من العبد القلب، وماذا يعمل من الصالحات، وحينئذ فقد يكون كثيرٌ ممن له صورة حسنة أو مالٌ أو جاهٌ أو رياسةٌ في الدنيا، قلبُه خرابٌ من التقوى، ويكون مَن ليس له شيءٌ من ذلك - يعني من الدنيا - قلبُه مملوءٌ من التقوى، فيكون أكرمَ عند الله تعالى؛ بل ذلك هو الأكثر وقوعًا" [1]
قال ابن عثيمين رحمه الله: "هذا الحديث يدلُّ على ما يدلُّ عليه
قول الله تعالى:
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ
[الحجرات: ١٣]؛
فاللهُ - سبحانه وتعالى - لا يَنظُر إلى العباد إلى أجسامهم هل هي كبيرة أو صغيرة، أو صحيحة، أو سقيمة؟ ولا ينظر إلى الصور، هل هي جميلة أو ذميمة؟ كلُّ هذا ليس بشيء عند الله، وكذلك لا يَنظُر إلى الأنساب، هل هي رفيعة أو دَنيئة؟ ولا ينظر إلى الأموال، ولا ينظر إلى شيء من هذا أبدًا، فليس بين الله وبين خلقه صلةٌ إلا بالتقوى، فمن كان لله أتقى، كان من الله أقربَ، وكان عند الله أكرمَ. إذًا؛ لا تَفتخِرْ بمالك، ولا بجمالك، ولا ببدنك، ولا بأولادك، ولا بقصورك، ولا سيَّاراتك، ولا بشيء من هذه الدنيا أبدًا؛ إنما إذا وفَّقك الله للتقوى، فهذا من فضل الله عليك، فاحمَدِ الله عليه. قولُه - عليه الصلاة والسلام -: «ولكن ينظر إلى قلوبكم»؛ فالقلوبُ هي التي عليها الْمَدَار؛ كم من إنسان ظاهرُ عمله أنه صحيح وجيِّد وصالح؛ لكن لَمَّا بُنِي على خراب صار خرابًا؛ فالنيَّة هي الأصل، تَجِد رجلين يصلِّيانِ في صفٍّ واحد، مقتدَيْنِ بإمام واحد، يكون بين صلاتَيْهِما كما بين الْمَشرِق والمغرب؛ لأن القلب مختلِفٌ، أحدُهما قلبه غافل؛ بل ربما يكون مُرائيًا في صلاته - والعياذ بالله - يريد بها الدنيا. والآخَرُ قلبُه حاضر يريد بصلاته وجهَ الله واتِّباع سنَّة رسول الله ﷺ، فبينهما فرقٌ عظيم، فالعمل على ما في القلب، وعلى ما في القلب يكون الجزاء يوم القيامة؛
كما قال الله تعالى:
إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ
[الطارق: ٨ – ٩]
أي: تُختبَر السرائر لا الظواهر. في الدنيا الحُكم بين الناس على الظاهر؛ لقول النبيِّ ﷺ: «إنما أنا بشرٌ، وإنكم تختصمون، ولعلَّ بعضكم أن يكون ألحنَ بحُجَّته من بعض، وأقضي له على نحو مما أسمع»؛ لكن في الآخرة على ما في السرائر، فإذا كانت السريرةُ جيِّدةً صحيحةً، فأبشِرْ بالخير، وإن كانت الأخرى، فقدتَ الخير كلَّه،
وقال الله عزَّ وجلَّ:
ﱡﱠأَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ
[العاديات: ٩ – ١٠]؛
فالعلمُ على ما في القلب. وإذا كان الله تعالى في كتابه، وكان رسوله ﷺ في سنَّته، يؤكِّدانِ على إصلاح النيَّة، فالواجب على الإنسان أن يُصلِح نيَّته، يُصلح قلبَه... أطهِّر قلبي بأن أقول لنفسي: إن الناس لا ينفعونني إن عصيتُ الله، ولا يُنقذونني من العقاب، وإن أطعت الله، لم يجلبوا إليَّ الثواب؛ فالذي يجلب الثواب ويدفع العقاب هو الله. إذا كان الأمر كذلك فلماذا تشرك بالله عزَّ وجلَّ؟! لماذا تنوي بعبادتك أن تتقرَّب إلى الخَلق؟! ولهذا؛ من تقرَّب إلى الخلق بما يتقرَّب به إلى الله، ابتعد عنه، وابتعد عنه الخَلْقُ؛ يعني: لا يَزِيده تقرُّبه إلى الخلق بما يقرِّبه إلى الله إلَّا بُعْدًا من الله ومن الخَلق؛ لكنَّ الله إذا رضي عنك، أرضى عنك الناس، وإذا سَخِط عليك، أسخط عليك الناس، نعوذ بالله من سخطه وعقابه"[2]
قال القاضي عياض رحمه الله: "نَظَرُ الله هنا: هو رؤية الله لذلك؛ ليُجازيَ عليه ويُثيبَه، ونظرُ الله ورؤيته محيطةٌ بكلِّ شيء، وإنما المراد من ذلك هنا بالتخصيص ما يُثيب عليه ويُجازي من ذلك، فكلُّ هذا إشارة إلى النيَّات والمقاصد، وأن الْمُجازى عليه ما كان للقلب فيه عملٌ من قصد ونيَّة وذِكر"[3]
قال النوويُّ رحمه الله: "إنّ الأعمال الظّاهرة لا يَحصُل بها التّقوى؛ وإنّما تَحصُل بما يقع في القلب من عظمة الله تعالى وخشيته ومراقبته، ومعنى نظر الله هنا: مجازاتُه ومحاسبته؛ أي: إنّما يكون ذلك على ما في القلب دون الصُّوَر الظّاهرة، ونظرُ اللّه رؤيتُه محيط بكلِّ شيء، ومقصود الحديث أنّ الاعتبار في هذا كلِّه بالقلب، وهو من نحو قوله ﷺ: «ألَا أَنْ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً» الْحَدِيثَ"[4]
قال ابن رجب رحمه الله: " وإذا كان أصل التّقوى في القلوب، فلا يطَّلِع أحدٌ على حقيقتها إلّا اللّهُ عزّ وجلّ؛
كما قال ﷺ:
«إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ»
وحينئذٍ فقد يكون كثير ممّن له صورة حسنة، أو مال، أو جاه، أو رياسة في الدّنيا، قلبُه خَرَاب من التّقوى، ويكون مَن ليس له شيء من ذلك، قلبُه مملوء من التّقوى، فيكون أكرمَ عند اللّه تعالى؛ بل ذلك هو الأكثر وقوعًا؛ كما في الصّحيحين عن حارثةَ بنِ وهبٍ،
عن النّبيِّ ﷺ، قال:
«أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ: كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ: كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ»"
[5]
قال الصنعانيُّ رحمه الله: " أيْ: أنّ المجازاة والمحاسبة إنّما تكون على ما في القلب دون الصّورة الظّاهرة، والأعمالِ البارزة؛ فإنّ عمدتها النّيَّات، ومحلُّها القلب، وتقدَّم أنّ في الجسد مضغةً، إذا صَلَحت صَلَح الجسد، وإذا فَسَدت فسد الجسد"[6]
قال ابن رجب رحمه الله: "ثم ذكر النبيُّ ﷺ كلمة جامعة لصلاح حركات ابن آدم وفسادها، وأن ذلك كلَّه بحسَب صلاح القلب وفساده، فإذا صَلَح القلب صَلَحت إرادته، وصلحت جميع الجوارح، فلم تَنبَعث إلى طاعة الله واجتناب سخطه، فقَنَعت بالحلال عن الحرام، وإذا فسد القلب فسدت إرادته، ففسدت الجوارح كلُّها، وانبعث في معاصي الله عزَّ وجلَّ، وما فيه سَخَطُه، ولم تَقنَع بالحلال؛ بل أسرعت في الحرام بحسب هوى القلب، ومَيله عن الحقِّ، فالقلب الصالحُ هو القلب السليم الذي لا يَنفَع يومَ القيامة عند الله غيرُه، وهو أن يكون سليمًا عن جميع ما يكرهه اللهُ من إرادة ما يكرهه الله ويسخطه، ولا يكون فيه سوى محبَّة الله وإرادته ومحبَّة ما يحبُّه الله، وإرادة ذلك وكراهة ما يكرهه الله والنُّفور عنه.
والقلب الفاسد: هو القلب الذي فيه الْمَيل على الأهواء المضِلَّة، والشهوات المحرَّمة، وليس فيه من خشية الله ما يكفُّ الجوارح عن اتِّباع هوى النفس؛ فالقلب ملك الجوارح وسلطانُها، والجوارح جنوده ورعيَّته المطيعة له المنقادة لأمره، فإذا صلح الملك، صلحت رعاياه وجنوده المطيعة له المنقادة لأوامره، وإذا فسد الملك، فسدت جنوده ورعاياه المطيعة له المنقادة لأوامره ونواهيه"[7]
قال ابن القيم رحمه الله: "ولَمَّا كان القلب لهذه الأعضاء كالْمَلِك المتصرِّف في الجنود، الذي تَصدُر كلُّها عن أمره، ويستعملها فيما شاء، فكلُّها تحت عبوديَّته وقهرِه، وتكتسب منه الاستقامةَ والزَّيغ، وتَتبَعه فيما يَعقِده من العَزْمِ أو يَحُلُّه، قال النبيُّ ﷺ: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صَلَحت صَلَح الجسد كلُّه»، فهو مَلِكُها، وهي المنفِّذة لما يَأمُرها به، القابلةُ لِما كان يأتيها من هديَّته، ولا يستقيم لها شيء من أعمالها حتى تَصدُر عن قصده ونيَّتِه، وهو المسؤول عنها كلِّها؛ لأن كلَّ راعٍ مسؤول عن رعيَّته - كان الاهتمام بتصحيحه وتسديده أولى ما اعتمد عليه السالكون، والنَّظَر في أمراضه وعلاجها أهمُّ ما تنسَّك به الناسِكون.
ولَمَّا عَلِم عدوُّ الله إبليسُ أن الْمَدَار على القلب، والاعتمادَ عليه، أَجلَب عليه بالوَساوس، وأَقبَل بوجوه الشَّهوات إليه، وزيَّن له من الأقوال والأعمال ما يصدُّه عن الطريق، وأَمَدَّه من أسباب الغيِّ بما يَقطَعه عن أسباب التوفيق، ونَصَبَ له من المصايد والحبائل ما إن سَلِم من الوقوع فيها، لم يَسلَم من أن يَحصُل له بها التعْوِيق، فلا نجاةَ من مصايده ومكايده إلا بدوام الاستعانة بالله تعالى، والتعريض لأسباب مَرْضَاته، والْتِجَاء القلب إليه، وإقباله عليه في حركاته وسَكناته، والتحقُّق بذُلِّ العُبودية الذى هو أولى ما تلبَّس به الإنسان؛ ليَحصُل له الدخول في ضمان:
إِنَّ عِبَادِي لَيۡسَ لَكَ عَلَيۡهِمۡ سُلۡطَٰنٌ
[الحجر: 42]
فهذه الإضافة هي القاطعة بين العبد وبين الشياطين، وحصولُها يسبِّب تحقيق مقام العبودية لربِّ العالمين، وإشعار القلب إخلاص العمل ودوام اليقين، فإذا أُشرب القلبُ العبوديةَ والإخلاص صار عند الله من المقرَّبين،
وشَمِله استثناء:
ﱠإِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ
[الحجر: 40]" [8]
قال ابن القيم رحمه الله: "وَبِالْجُمْلَةِ فسائرُ الأعضاء خَدَمُه وَجُنُوده،
وَقَالَ النَّبيُّ ﷺ:
«ألا إن فِي الْجَسَد مُضْغَة، إِذا صلحت صلح لَهَا سَائِر الْجَسَد، وَإِذا فَسدتْ فسد لَهَا سَائِر الْجَسَد، ألا وَهِي الْقلب».
وَقَالَ أبو هُرَيْرَة: الْقلب مَلِك والأعضاء جُنُوده، فإن طَابَ الْمَلِك طابت جُنُوده، وَإِذا خَبُث الْمَلِك خَبُثت جُنُوده، وَجُعِلت الرِّئة لَهُ كالْمَرْوَحة تَرُوح عَلَيْهِ دَائِمًا؛ لأنه أشدُّ الأعضاء حرارةً؛ بل هُوَ مَنبَع الحرارة وأما الدِّماغُ، وهو المخُّ، فإنه جُعِل باردًا"[9]
قال ابن القيم رحمه الله: "متى رأيتَ القلبَ قد ترحَّل عنه حبُّ الله، والاستعدادُ للقائه، وحلَّ فيه حبُّ المخلوق، والرضا بالحياة الدنيا، والطمأنينة بها، فاعلم أنه قد خُسِف به. ومتى أَقحَطت العينُ من البكاء من خشية الله تعالى، فاعلم أن قَحْطَها من قسوة القلب، وأبعدُ القلوبِ من الله القلبُ القاسي"[10]
قال ابن القيم رحمه الله: "القلب يَمرَض كما يمرض البَدَن، وشفاؤه في التوبة والحَمِيَّة، ويصدأ كما تصدأ الْمِرآة، وجِلاؤه بالذكر، ويَعرى كما يعرى الجسم، وزينتُه التقوى، ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن، وطعامُه وشرابه المعرفةُ والمحبَّة، والتوكُّل، والإنابة، والخِدمة"[11]
قال ابن رجب رحمه الله: "قال الفُضيل في
قوله تعالى:
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ
[الملك: 2]،
قال: أَخْلَصُه وأَصوَبه. وقال: إنّ العمل إذا كان خالصًا، ولم يكن صَوَابًا، لم يُقبَل، وإذا كان صوابًا، ولم يكن خالصًا، لم يُقبَل حتّى يكون خالصًا وصوابًا. قال: والخالص إذا كان للّه عزّ وجلّ، والصَّواب إذا كان على السُّنَّة... وقال بعض العارفين: إنما تَفاضلوا بالإرادات، ولم يتفاضلوا بالصَّوم والصلاة"[12]
قال ابن القيم رحمه الله: "وهو سبحانه الذي جَعَل بعض القلوب مُخْبِتًا إليه، وبعضَها قاسيًا، وجعل للقسوة آثارًا، وللإخبات آثارًا، فمن آثار القسوة: تحريفُ الكَلِم عن مواضعه، وذلك من سوء الفَهم، وسوء القصد، وكلاهما ناشئ عن قسوة القلب، ومنها نسيانُ ما ذكِّر به، وهو تركُ ما أُمِر به علمًا وعملًا، ومن آثار الإخبات: وجَلُ القلوب لذكره سبحانه، والصبر على أقداره، والإخلاص في عبوديته، والإحسان إلى خلقه"[13]
قال ابن رجب رحمه الله: "وعن يحيى بن أبي كثير، قال: تعلَّموا النّيّة؛ فإنّها أبلغ من العمل. وعن زُبَيْدٍ الياميِّ، قال: إنّي لأُحِبُّ أن تكون لي نيّة في كلِّ شيء، حتّى في الطّعام والشّراب، وعنه أنّه قال: انوِ في كلِّ شيء تُريده الخير، حتّى خروجِك إلى الكُنَاسة. وعن داودَ الطّائيِّ، قال: رأيتُ الخير كلَّه إنّما يَجمَعه حُسن النّيّة، وكفاك بها خيرًا وإن لم تَنصَب. قال داودُ: والبِرُّ همَّةُ التّقيِّ، ولو تعلَّقت جميع جوارحه بحبِّ الدّنيا، لردَّته يومًا نيَّته إلى أصله. وعن سفيانَ الثّوريِّ، قال: ما عالجتُ شيئًا أشدَّ عليَّ من نيَّتي؛ لأنّها تنقلب عليَّ. وعن يوسفَ بنِ أسباطٍ، قال: تخليص النّيّة من فسادها أشدُّ على العاملين من طول الاجتهاد. وعن مطرِّفِ بنِ عبد اللّه قال: صلاح القلب بصلاح العمل، وصلاح العمل بصلاح النّيَّة. وعن بعض السَّلف قال: من سَرَّه أن يَكمُل له عمله، فليُحسِن نيّته؛ فإنّ اللّه عزّ وجلّ يَأجُر العبد إذا حَسُنت نيّته حتّى باللُّقمة. وعن ابن المبارك، قال: رُبَّ عمل صغير تعظِّمه النّيّة، وربَّ عمل كبير تصغِّره النّيّة. وقال ابنُ عجلانَ: لا يَصلُح العمل إلّا بثلاث: التّقوى للّه، والنّيّةِ الحسنة، والإصابة. وقال الفُضيل بن عِياض: إنّما يريد اللّه عزّ وجلّ منك نيَّتك وإرادتك. وعن يوسف بن أسباط، قال: إيثار اللّه عزّ وجلّ أفضلُ من القتل في سبيله. خرَّج ذلك كلَّه ابن أبي الدّنيا في كتاب "الإخلاص والنّيّة". وروى فيه بإسناد منقطع عن عمر رضي اللّه عنه، قال: أفضل الأعمال أداء ما افترض اللّه عزّ وجلّ، والوَرَعُ عمّا حرّم اللّه عزّ وجلّ، وصِدْقُ النّيّة فيما عند اللّه عزّ وجلّ"[14]