عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي اللَّه عنهمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ «إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ»

عناصر الشرح

غريب الحديث

عرشُه؛ أي: سَرِير الْمُلك [1].

السَّريَّة: هي طائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة، تُبعَث إلى العدوِّ، وجمُعها السَّرايا، سُمُّوا بذلك؛ لأنهم يكونون خُلاصةَ العسكر وخيارَهم، من الشيء السَّرِيِّ النَّفِيس، وقيل: سُمُّوا بذلك؛ لأنهم يَنفُذون سِرًّا وخُفْيَةً، وليس بالوجه [2].

المراجع 

1. "المفاتيح شرح المصابيح" للمظهريِّ (1/ 162).

2. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (2/ 363).

المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رضي اللَّه عنهمَا، عن رَسُولِ اللهِ  أنه قال: «إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ»؛ أي: إن إبليس يَضَعُ سَرير مُلْكِه على الماء، ويَجلِس عليه، ثم يُرسل جنوده وأعوانه في ربوع الأرض إلى الخلق؛ لإضلالهم وإغوائهم وفتنتهم. «فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ»؛ أي: يكون أقربُهم إليه أعظمَهم فتنةً وأشدَّهم إضلالاً للناس، فيأتيه هؤلاء الشياطينُ بعدما انتهَوْا من مَهَمَّتهم؛ ليُخبِروا أباهم الأكبر بما فعلوه مع الخَلْقِ من حملهم على الكبائر والفتن، فيُجيبهم إبليسُ في كلِّ مرَّةٍ: ما صنعتُم شيئًا، يستقِلُّ أفعالَهم، ويحتقرها، حتى يقول أحدُهم: ما تركتُ الرجل وزوجته حتى فرَّقتُ بينهما، فيَفرَح فَرَحًا شديدًا بفِعلِه، ويُثني عليه، ويقرِّبه منه، ويَرفَع مكانته على أقرانه من الشياطين، ويقول له مادحًا: نعمَ أنتَ.



الشرح المفصَّل للحديث

 الشيطان عدوٌّ لَدُود للإنسان، يقف له بالمرصاد في حياته وأفعاله، ويَعرِض له في حركاته وسَكَناته؛

فعَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:

«إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ»

[1]،

ويَسعَى كذلك في إهلاكه، وإفساد آخرته بدنياه، وعداوةُ الشيطان للإنسان قديمةٌ قِدَمَ الإنسان؛ فقد نَصَب العداءَ له منذ أن خَلَق الله آدمَ - عليه السلامُ - بيده، ونَفَخ فيه من روحه، ثم أمر الملائكة بالسجود له، فسجد الملائكة، ورَفَض الشيطان أن يَسجُد حسَدًا وحِقدًا وكُرهًا لآدمَ - عليه السلامُ -

قال تعالى:

﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَٰٓئِكَةِ ٱسْجُدُوا لِأَدَمَ فَسَجَدُوٓا إِلَّآ إِبْلِيسَ قَالَ ءَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا﴾

[الإسراء: 61]،

وقال تعالى:

﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا۠ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍۢ وَخَلَقْتَهُۥ مِن طِينٍۢ﴾

[الأعراف: 12]؛

ولذلك أَمَرَنا الله تعالى أن نتَّخِذ الشيطان عدوًّا؛

قال تعالى:

﴿إِنَّ ٱلشَّيْطَٰنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُۥ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ﴾

[فاطر: 6].

وإن مداخل الشيطان للإنسان كثيرةٌ جدًّا، منها: الوسوسة، والتَّحريشُ، وإيقاعُ العَدَاوة بين المسلمين، والصَّدُّ عن ذكْر الله، والغَضَبُ، والشَّهوة، والعَجَلة، وترْك التثبُّت، والتكاسُل في الطاعات، وارتكابُ المحرَّمات، والحَسَدُ، والتعصُّبُ للهوى والمذاهب، ومُشارَكة الإنسان في أهله وطعامه ومَبيِته، وغيرُها مِن المداخل التي لا يَسَعُ الْمَقام للتفصيل فيها.

فينبغي للعبد أن يكون حَذِرًا من هذا العدوِّ في كلِّ أحواله، وأن يتمسَّك بكتاب ربِّه وسنَّة نبيِّه ﷺ إذا أراد الفَوز والنَّجاة في الدنيا والآخرة.

وفي هذا الحديث، يُخبر النبيُّ ﷺ أن إبليس يَضَعُ سَرير مُلْكِه على الماء، ويَجلِس عليه، و"يَحْتَمِل أن يكون سَريرًا حقيقةً، يَضعُه على الماء، ويَجلِس عليه، وهذا هو الصحيح، وَيحْتَمِل كونُه تمثيلًا لتَفَرْعُنه، وشدَّة عُتُوِّه، ونفوذ أمره بين سراياه، وجيوشه، وأيًّا ما كان، فيَظهَر أن استعمال هذه العبارة الهائلة - وهي قوله:

﴿وَكَانَ عَرْشُهُۥ عَلَى ٱلْمَآءِ﴾

[هود: 7]،

والقَصْدُ أن إبليس مَسكَنُه البحر [2]، ثم يُرسِل جنوده وأعوانه في ربوع الأرض إلى الخلق؛ لإضلالهم وإغوائهم وفتنتهم، وحَمْلِهم على المعاصي، وتزيينِ الشهوات لهم، فيكون أشدُّهم إضلالاً للناس، وحملاً لهم على المعاصي، وإبعادًا لهم عن الحقِّ، هو أقربَهم إلى إبليس - عليه لعنةُ الله - في المنزلةِ والدَّرَجة، وأحبَّهم إليه، ثم يأتي هؤلاء الشياطينُ بعدما انتهَوْا من مَهَمَّتهم؛ ليُخبِروا أباهم الأكبر بما فعلوه مع الخَلْقِ، فيقول أحدهم: حملتُه على ترك الصلاة، ويقول الآخَر: حملتُه على شُرب الخَمر، ويقول الثالث: حملتُه على السرقة، ويقول الرابع: حملتُه على الزنا، ويقول الخامس: حملتُه على شهادة الزور، وهكذا جميعُ المعاصي، فيُجيبهم إبليسُ في كلِّ مرَّةٍ: ما صنعتُم شيئًا، فيستقِلُّ أفعالَهم، ويحتقرها، ولا يَأْبَه لها، حتى يقول أحدُهم: ما تركتُ الرجل وزوجته حتى فرَّقتُ بينهما، وهَدَمْتُ الأُلْفَة والمودَّة والسَّكينة في بَيْتِهما، فيَفرَح فَرَحًا شديدًا بفِعلِه، ويُثني عليه، ويُدنيه ويقرِّبه منه، ويَرفَع مكانته على أقرانه من الشياطين، ويقول له: نعمَ أنتَ؛ أي: أنتَ الذي جئتَ بالأمر العظيم، وأنتَ الذي أغنَيْتَ عنِّي، وأنت صاحب المكانة والمنزلة عندي؛ وذلك لِما في التفريق بين الزوجين من مَضَارَّ كثيرةٍ، منها: وقوعُ العَدَاوة والبغضاء والشحناء بين الزوجين وأهليهم، وفسادُ الأطفال، وانتشارُ سيِّئ الأخلاق، واحتمالُ كثرة وقوع الفاحشة، وغلبة أولاد الزنا، و"لِمَا فيه من انقطاع النسل، وانصرام بني آدم، وتوقُّع وقوع الزنا الذي هو أعظمُ الكبائر فسادًا، وأكثرُها مَعَرَّةً" [3].


المراجع

1. رواه البخاريُّ (2039)، ومسلم (2175).

2. "فيض القدير" للمناويِّ (2/ 408).

3. "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" للولويِّ (43/ 500).



النقول

قال الطيبيُّ رحمه الله: "قوله: «يضع عرشه في الماء» يَحتمِل بأن يُجرى على ظاهره، ويكون من جُملة تمرُّده وطغيانه جَعَل عرشه على الماء؛

كما في قوله تعالى:

﴿وَكَانَ عَرْشُهُۥ عَلَى ٱلْمَآءِ﴾

[هود: 7]،

وأن يُجرى على الكناية الإيمائية، عبَّر عن استيلائه على إغوائه الخلقَ، وتسلُّطه على إضلالهم بهذه العبارة.

و«السرايا» جمع سَريَّة، وهي قطيعة من الجيش يوجِّهها حاكم إلى جهة؛ لأن ينالَ من العدوِّ. طائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة تُبعَث إلى العدوِّ، سمُّوا بذلك؛ لأنهم يكونون خالصةَ العسكر وخيارَهم، من الشيء السَّرِيِّ النَّفِيس. وقيل: سُمُّوا بذلك؛ لأنهم يَنفُذون سرًّا وخُفْية، وليس بالوجه؛ لأن لام السِّرِّ راءٌ، وهذه ياء.

قوله: «فتنة»: الفتنة: الابتلاء والامتحان، وأصلُه من فتنتُ الفضَّة إذا أدخلتُها على النار؛ لتعرف جيِّدها من رديئها، وفُتِن فلانٌ بفلانة؛ أي: بُلِي بهواها، وسُمِّيت بها المعاصي. «ويجيء أحدهم» جملة مبيِّنة لقوله: «أعظمهم فتنة»، وقولهم: «نعم أنت»؛ أي: نِعْمَ العَوْنُ أنت،  «فيلتزمه» ويجوز أن يكون بدله؛ وذلك أن النكاح عقدٌ شرعيٌّ يستحلُّ به التزوُّج، وهو يريد حَلَّ ما عقده الشرع؛ ليستبيح ما حرَّمه فيَكثُر الزنا، وأولاد الزنا، فيُفسدوا في الأرض، ويهتكوا حدود الشرع،  ويتعدَّوا حدود الله" [1]. 

قال القاضي عياض رحمه الله: "قولُه في الخبر في قول إبليس لرسوله: نِعْمَ أنت: قيل: هو من المحذوفِ الْمُوجَز الذي يدلُّ عليه الكلام؛ أي: أنت الذي جِئْتَ بالطَّامَّة، وقد يكون معناه: أنت الذي أَغْنَيْتَ عنِّي، وفعلتَ رغبتي، أو أنت الحظِيُّ عندي، المقدَّم المعوَّلُ عليه من رُسلي وخلائفي، والمحمود، أو أنت الشَّهْمُ والجَذْل، وشِبه هذا" [2].

قال المناويُّ رحمه الله: "يَحْتَمِل أن يكون سَريرًا حقيقةً، يَضعُه على الماء، ويَجلِس عليه، وهذا هو الصحيح، وَيحْتَمِل كونُه تمثيلًا لتَفَرْعُنه، وشدَّة عُتُوِّه، ونفوذ أمره بين سراياه، وجيوشه، وأيًّا ما كان، فيَظهَر أن استعمال هذه العبارة الهائلة - وهي قوله: "عرشه" - تهكُّمٌ، وسخرية؛ فإنها استُعمِلت في الجبَّار الذي لا يُغالَب

وَكَانَ عَرْشُهُۥ عَلَى ٱلْمَآءِ

[هود: 7]

والقَصْدُ أن إبليس مَسكَنُه البحر [3].

قال الولويُّ رحمه الله: "لِمَا فيه من انقطاع النسل، وانصرام بني آدم، وتوقُّع وقوع الزنا الذي هو أعظمُ الكبائر فسادًا، وأكثرُها مَعَرَّةً" [4].

قال ابن القيم رحمه الله: "جهاد الشيطان مرتبتان؛ إحداهما: جهادُه على دفع ما يُلقي إلى العبد من الشُّبهات والشُّكوك القادحة في الإيمان. الثانية: جهادُه على دفع ما يُلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات، فالجهاد الأول يكون بعده اليقين، والثاني: يكون بعده الصبر" [5].

المراجع

1.  "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 523).

2. "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" للقاضي عياض (1/ 41).

3. "فيض القدير" للمناويِّ (2/ 408).

4. "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" للولويِّ (43/ 500).

5.  "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (3/ 10).

مشاريع الأحاديث الكلية