الفوائد العلمية
في الحديث حرص الصحابة على أن يسألوا فيما ينفَعُهم في دينهم، لا سيَّما الأمورُ التي تتعلَّق بالفتن والابتلاءات؛ لكي يُسارعوا إلى النجاة منها.
في الحديث بيان أن الصلاة والصدقة والأعمال الصالحة تُكفِّر صغائرَ السيِّئات، وكما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال:
«الصلواتُ الخمسُ، والجمُعةُ إلى الجمُعةِ، ورمضانُ إلى رمضانَ، مُكفِّراتٌ ما بينَهن إذا اجتنبَ الكبائر»
كان الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مأمنًا من الفتن، ومِفتاحًا لعزِّ الإسلام مدَّةَ خلافته؛ ففي الحديث أنّ الحائل بين الفِتَن والإسلام عمرُ - رضي اللّه عنه - وهو الباب، فما دام حيًّا لا تَدخُل الفِتن، فإذا مات، دخلت الفتن [2].
قوله: «إلا ما أُشرب من هواه» يعني: لا يعرف القلب إلا ما قَبِل من الاعتقادات الفاسدة والشهوات النفسانية[3]. فهذا القلب إذا عُرضت عليه فتنة أُشربها، كما يَشرَب السفنج الماء، فتُنكت فيه نكتة سوداءُ، فلا يزال يشرب كلَّ فتنة تُعرض عليه حتى يَسْوَدَّ وينتكس، فيصير كالكوز مُجَخِّيًا؛ أي: مكبوبًا منكوسًا.
إذا اسودَّ القلب وانتكس، عَرَض له من هاتين الآفتين مَرَضان خَطِران متراميان به إلى الهلاك؛ أحدهما: اشتباه المعروف عليه بالمنكَر، فلا يعرف معروفًا، ولا يُنكِر منكرًا، وربما استحكم عليه هذا المرض حتى يعتقد المعروفَ منكرًا، والمنكَرَ معروفًا، والسنَّةَ بدعة، والبدعةَ سنَّة، والحقَّ باطلاً، والباطلَ حقًّا، الثاني: تحكيمه هواه على ما جاء به الرسول ﷺ، وانقياده للهوى، واتِّباعه له[4]
الفتن التي تُعرَض على القلوب هي أسباب مَرِضها، وهي فتن الشهوات وفتن الشُّبهات، فتن الغيِّ والضلال، فتن المعاصي والبدع، فتن الظُّلم والجهل، فالأولى توجب فساد القصد والإرادة، والثانية توجب فساد العلم والاعتقاد[5]
في الحديث علامةٌ من علامات النبوَّة، فإن الفتن ظهرت بعد موت عمرَ رضي الله عنه كالفتنة التي قُتل فيها عثمانُ بنُ عفَّانَ رضي الله عنه، ثم ظهور الخوارج، والقتال بين عليٍّ ومخالفيه.
المراجع
- رواه مسلم (233).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 174، 175)
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (11/ 3402).
- "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 12)
- "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 12)
الفوائد اللغوية
8. قوله: (فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ): قال جمهور أهل اللُّغة: (سَكَتَ وَأَسْكَتَ) لُغتان بمعنى صَمَتَ، وقال الأصمعيُّ: سَكَتَ: صَمَتَ، وَأَسْكَتَ: أَطْرَقَ، وإنّما سَكَت القوم لأنّهم لم يكونوا يَحفَظون هذا النَّوع من الفتنة؛ وإنّما حَفِظوا النّوع الأوَّل[1].
9. أصلُ الفتنة الامتحانُ والاختبارُ، ثم صارت في العُرف عبارةً عن كلِّ أمر كشَفه الاختبارُ عن سوء[2]
10. فُتِنَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ فُتُونًا إذا وقع في الْفِتْنَةِ وتَحَوَّل من حال حَسَنَةٍ إلى سَيِّئَةٍ، وفِتنةُ الرَّجُل في أهله وماله ووَلَده ضُرُوبٌ مِن فَرْطِ مَحَبَّته لهم، وشُحِّه عليهم، وشُغْلِه بهم عن كثير من الخير؛ كما
إِنَّمَآ أَمۡوَٰلُكُمۡ وَأَوۡلَٰدُكُمۡ فِتۡنَةٞۚ وَٱللَّهُ عِندَهُۥٓ أَجۡرٌ عَظِيمٞﱠ
أو لتفريطه بما يَلزَم من القيام بحقوقهم وتأديبهم وتعليمهم؛ فإنّه راعٍ لهم ومسؤول عن رعيَّته، وكذلك فتنةُ الرّجل في جارِه من هذا [3]
11.(كالحصير)؛ أي: كما يُنسَج الحصير عُودًا عودًا، وعلى هذا يترجَّح رواية ضمِّ العَين؛ وذلك أنّ ناسج الحصير عند العرب كلَّما صنع عُودًا أخذ آخَرَ ونَسَجه، فشبَّه عَرْضَ الفِتن على القلوب واحدةً بعد أخرى بعرض قُضبان الحصير على صانعها واحدًا بعد واحد[4]
12. «أسودُ مُرْبادًّا كالكوز مُجخِّيًا»؛ أي: أسود اللون، يختلط سَوَادُه بكُدرة، وهو مع ذلك مقلوب منكوس كالكوز المائل الذي لا يثبُت الماء فيه[5].
13. قوله: (مُرْبَادًّا): هو منصوب على الحال، وهناك خلافٌ في ضبطه على ثلاثة أقوال، فمنهم من رواه (مُرْبَئِدٌّ) بهمزة مكسورة بعد الباء، وأصلُه أن لا يُهمَز، ويكون (مُرْبَدٌّ) مثلَ (مُسْوَدٌّ ومُحْمَرٌّ)؛ لأنّه من (ارْبَدَّ) إلّا على لغة من قال: (احْمَأَرَّ) بهمزة بعد الميم لالتقاء السّاكنين، فيُقال: (ارْبَأَدَّ ومُرْبَئِدٌّ) والدّال مشدَّدة على القولين[6].
14. ليس قوله: «كالكوز مجخِّيًا» تشبيهًا لما تقدَّم من سَوَاده؛ بل هو وصفٌ آخَرُ من أوصافه بأنّه قُلِب ونُكِّس حتّى لا يَعلَق به خير ولا حِكْمة، ومثَّله بالكوز المجخِّي، وبيَّنه بقوله: «لا يعرف معروفًا ولا يُنكر منكَرًا» [7]. فشَبَّهَ الْقَلْبَ الذي لا يَعِي خيرًا بِالكوزِ المنحرِف الذي لا يثبت الماء فيه[8]
15. في قوله: (ولكن أيُّكم سمعَ النبي ﷺ يذكُر التي تموج موجَ البحر؟) تشبيه للفتنة الكُبرى العامَّة بالبحر المضطرب؛ فهي كالموج في شدَّة عِظَمها، وكثرة شيوعها[9].
16. (لله أبوكَ): هي كلمة مدح تَعتاد العرب الثناء بها؛ فإن الإضافةَ إلى العظيم تشريف، كما يقال: "بيتُ الله، وناقة الله"، فإذا وُجِد من الولد ما يُحمَد، قيل له: لله أبوكَ حيث أتى بمثلِكَ[10]
17. «عُودًا عُودًا»: اختُلف في ضبطه على ثلاثة أوجه، أظهرُها وأشهرها: عُودًا عُودًا، بضمّ العين وبالدّال المهمَلة، والثّاني: بفتح العين وبالدّال المهملة (عَودًا عَودًا)؛ أي: تعاد وتُكرَّر شيئًا بعد شيء، والثّالث: بفتح العين وبالذّال المعجَمة (عَوْذًا عَوْذًا)؛ ومعناه سؤال الاستعاذة منها كما يُقال: غَفرًا غَفرًا، وغُفرانك؛ أي: نسألك أن تُعيذنا من ذلك، وأن تغفر لنا[11]
18.مَعْنَى (نُكِتَ نُكْتَةٌ): نُقِطَ نُقْطَةٌ، فكُلُّ نُقْطة في شيء بخلاف لَوْنه فهو نَكْتٌ[12].
19.قَوْلُهُ ﷺ: «عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا»: ليس تشبيهُه بالصَّفا بيانًا لبياضه؛ لكن لشدّته على عَقد الإيمان وسلامته من الخَلل، وأنّ الفتن لم تَلصَق به ولم تؤثِّر فيه كالصَّفا، وهو الحجر الأملس الّذي لا يَعلَق به شيء[13].
20. «لا أبا لكَ»: كلمة تَذكُرها العرب للحثِّ على الشيء، ومعناها: أن الإنسان إذا كان له أبٌ وحَزَبه أمرٌ ووقع في شدَّة، عاوَنَه أبوه، فلا يَحتاجُ من الجِدِّ والاهتمام إلى ما يحتاج إليه حالةَ الانفراد وَعَدَمِ الأب المعاون، فإذا قيل: "لا أبا لكَ"، فمعناه: جِدَّ في هذا الأمر، وشَمِّرْ، وتأهَّبْ تأهُّبَ مَن ليس له معاوِنٌ[14]
21.«حديثًا ليس بالأغاليط» هي جمع أُغلوطة، وهي التي يُغالَط بها، فمعناه: حدَّثتُه حديثًا صِدقًا محقَّقًا ليس هو من صُحُف الكتابيِّين، ولا من اجتهاد ذَوي الرأي؛ بل من حديث النبيِّ ﷺ الذي لا يَنطِق عن الهوى[15].
المراجع
- شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 171).
- "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/357)
- شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 170، 171).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 172).
- انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (2/173).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 172، 173).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 173).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 173).
- شرح السيوطيِّ على مسلم" (1/164).
- "شرح السيوطيِّ على مسلم" (2/171).
- شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 171، 172)
- شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 172)
- شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 172)
- شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 174)
- شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 175)
الفوائد التربوية
22. استحبابُ مذاكرة العلم، وطرح الإمام أو الداعية للأسئلة.
23. عدمُ الفُتيا بغير علم؛ فسكوت الصحابة إنما كان لعدم علمهم بما سأل عنه عمرُ رضي الله عنه.
24. يجوزُ أن يزيدَ اهتمامُ طالب العلم بنوعٍ مُعيَّن من العلوم، بعد تحصيله لأساسيات الأنواع الأخرى؛ فحذيفةُ رضي الله عنه كان أحرصَ الناس على حفظ أحاديث الفتن والشرور.
25. تشجيعُ الإمام لمَن يحفَظ، ويهتمُّ بالعلم، والدعاء له؛ كقول عمر: "لله أبوك"