عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ، فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي، فَقَالَ: «أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: ﴿اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: 24]». ثُمَّ قَالَ لِي: «لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي القُرْآنِ، قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ». ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، قُلْتُ لَهُ: «أَلَمْ تَقُلْ: لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي القُرْآنِ؟»، قَالَ: «﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 2]، هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ».

عناصر الشرح

غريب الحديث:

السَّبْعُ الْمَثَانِي: سُمِّيَت السَّبْع؛ لأنها سبعُ آيات، ومثاني؛ لأنها تُثنَّى في الصلاة؛ أي: تُكرَّر فيها في كلِّ ركعة مرَّةً، وقيل: لأنها استُثنيت لهذه الأمَّة؛ أي: استَخرَجت ما لم يَنزِل على مَن قبلها مِن الثناء، أو لِمَا فيها من الثناء[1]. 

القُرْآن العَظِيم: أي: لعِظَم ثَواب قراءتها؛ وذلك لِما تجمَّع من الثَّناء والدُّعاء والسُّؤال[2].

المراجع

  1. "شرح مصابيح السنة للإمام البغويِّ" لابن الملك (3/ 16).
  2. "اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح" لشمس الدين البرماويِّ (11/ 491).


سبب نزول سورة الفاتحة:

عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ:

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا بَرَزَ، سَمِعَ مُنَادِيًا يُنَادِيهِ: "يَا مُحَمَّدُ"، فَإِذَا سَمِعَ الصَّوْتَ انْطَلَقَ هَارِبًا، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: إِذَا سَمِعْتَ النِّدَاءَ فَاثْبُتْ حَتَّى تَسْمَعَ مَا يَقُولُ لَكَ. قَالَ: فَلَمَّا بَرَزَ النِّدَاء: "يَا مُحَمَّدُ"، فَقَالَ: لَبَّيْكَ، قَالَ: قُلْ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّه، ثُمَّ قَالَ: قُلْ: {ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ (2) ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ (3) مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ}  ﭠﮊ حَتَّى فَرَغَ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ"، وهذا قول عليِّ بنِ أبي طالبٍ

[1].

المراجع

  1. "أسباب نزول القرآن" للواحديِّ (ص: 19).


المعنى الإجماليُّ للحديث:

يروي أَبو سَعِيدِ بْنُ المُعَلَّى، قَالَ: (كُنْتُ أُصَلِّي فِي المَسْجِدِ، فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي): فيُخبر الصحابيُّ الجليل أبو سعيد أنه كان يصلِّي في المسجد، فنادى عليه النبيُّ ﷺ، فلم يُجبِ ولم يردَّ عليه؛ لأنه كان يصلِّي.

فَقَالَ ﷺ:

«أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}»

أي: فعاتَبَه النبيُّ ﷺ على عدم إجابته بأمر الله للمؤمنين أن يُجيبوه ﷺ  إذا دعاهم.

ثُمَّ قَالَ ﷺ له: «لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي القُرْآنِ، قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ)»؛ أي: ثم قال له النبيُّ ﷺ: لأُعَلِمنَّك - الآن قبل أن تخرج من المسجد - سورةً هي أعظمُ السور في القرآن في الأجر، وفي ثواب قراءتها، وفي فضلها.

قال أبو سعيد: (ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، قُلْتُ لَهُ: أَلَمْ تَقُلْ: لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي القُرْآنِ؟)؛ أي: فأخذ النبيُّ ﷺ بيدِ أبي سعيد، وهمَّ أن يَخرُج من المسجد، فإذا بأبي سعيد يذكّره بقوله ﷺ: «لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي القُرْآنِ»، يريد معرفتها.

قَالَ ﷺ:

{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ}

أي: فأخبره النبيُّ  ﷺ أن سورة الفاتحة، هي أعظمُ سورة في القرآن.
وقال ﷺ: «هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ»؛ أي: هي السبع الآيات، الْمَثَاني؛ التي: يُثنَى بها على الله تعالى، أو لأنها تُثنَّى – أي: تُكرَّر وتُعاد - في كلِّ ركعة، والقرآن العظيم الذي أُوتيَه ﷺ.

الشرح المفصَّل للحديث:

من سنن الله تعالى في خلقه أنه فضَّل بعض الأماكن على بعض، وفضَّل بعض الأزمنة على بعض، وفضَّل بعض الناس على بعض، وفضَّل النبيين على سائر الناس، وفضَّل بعض النبيِّين على بعض

قال تعالى:

{ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ۖ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}

[البقرة: 253]

وفضَّل بعض الكتب المنزَّلة على بعض

قال تعالى:

{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}

[المائدة: 48]

فأنزل الله التوراة والإنجيل والقرآن، وفضَّل القرآن عليهما، وجعله مصدِّقًا لِمَا أَنزل من التوراة والإنجيل، وشاهدًا عليهما، وإنما كان كذلك لأنه لا يتطرَّق إليه التبديل ولا التحريف

قال تعالى:

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}

[الحجر: 9]

والقرآن كلام الله، أَنزَله على خير خلقِه محمَّدٍ ﷺ، له قُدُسية خاصَّة، ولسُوَره جميعِها إجلالٌ وتعظيم؛ إلا أنه فضَّل بعضها على بعض، وبعضَ آياتها على بعض

قال تعالى:

{ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}

[البقرة: 106]

"وقوله - عليه السلام – لأُبىِّ بن كعب: «أتدري أيُّ آية من كتاب الله أعظم؟» وذَكَر آية الكرسيِّ، فيه حُجَّة للقول بتفضيل بعض القرآن على بعض، وتفضيل القرآن على سائر كتب الله عند من أجازه، منهم إسحاقُ بنُ راهوَيْهِ، وغيرُه من العلماء والمتكلِّمين، وذلك راجع إلى عِظَم أجر قارئ ذلك، وجزيل ثوابه على بعضِه أكثر من سائره، وهذا مما اختَلف أهل العلم فيه، فأبى ذلك الأشعريُّ، والباقلَّانيُّ، وجماعةٌ من الفقهاء، وأهل العلم؛ لأن مقتضى الأفضل نقصُ المفضول عنه، وكلام الله لا يتبعَّض، قالوا: وما ورد من ذلك بقوله: "أفضل وأعظم" لبعض الآي والسُّور فمعناه: عظيم وفاضل"[1]،

 "والمختار: جوازُ قول: هذه الآية أو السورة أعظمُ أو أفضلُ؛ بمعنى: أن الثواب المتعلِّق بها أكثر"[2] ،

"وفي الجملة: فدلالة النصوص النبوية والآثار السلفية والأحكام الشرعية والحُجَج العقلية على أن كلام الله بعضُه أفضلُ من بعض، هو من الدلالات الظاهرة المشهورة"[3].

فدلَّ ذلك على أن بعض سور القرآن أفضلُ من بعض، وبعضَ آياته أفضلُ من بعض، ومن بين هذه السُّور التي فضَّلها ربُّ العِزَّة - عزَّ وجلَّ - سورةُ الفاتحة، وهي سورة مكية، نَزَلت بعد سورة المدَّثِر، وهي السورة الأولى ترتيبًا في المصحف، وعدد آياتها: سبعُ آيات. 
ففي الحديث (عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ المُعَلَّى، قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فِي المَسْجِدِ، فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَلَمْ أُجِبْهُ): يُخبرنا أبو سعيدِ بنُ الْمُعَلّى أنه كان يصلِّي، فنادى عليه النبيُّ ﷺ، فلم يُجبِه، (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي، فَقَالَ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ:

{اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ})

أي: فعاتَبَه النبيُّ ﷺ على عدم إجابته بالآية، أوَلَيْسَ تَجِدُ في كتاب الله تعالى قوله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}، فكان جوابه أنه كان يؤدِّي الصلاة؛ ظنًّا منه أن  الخطاب في الآية لمن هو خارج الصلاة، وفي الحديث تقديم وتأخير، (ثُمَّ قَالَ لِي: «لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي القُرْآنِ، قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ»)؛ أي: ثم قال له النبيُّ ﷺ: لأُعَلِمنَّك سورة هي أعظمُ السور في القرآن؛ أي: في أجرها، وثواب قراءتها، ولِما فيها من معاني الثناء، والسؤال، والدعاء؛ فـ"معناه: أن ثوابها أعظمُ من غيرها، واستُدلَّ به على جواز تفضيل بعض القرآن على بعض، وقد مَنَع ذلك الأشعريُّ وجماعة؛ لأن المفضول ناقص عن درجة الأفضل، وأسماء الله وصفاته وكلامه لا نقصَ فيها، وأجابوا عن ذلك بأن معنى التفاضل: أن ثواب بعضه أعظمُ من ثواب بعض؛ فالتفضيل إنما هو من حيث المعاني، لا من حيث الصفةُ، ويؤيِّد التفضيلَ قولُه تعالى:

{نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}"[4].

قال أبو سعيد: (ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، قُلْتُ لَهُ: أَلَمْ تَقُلْ: لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي القُرْآنِ؟)؛ أي: فأخذ النبيُّ ﷺ بيد أبي سعيد، وهمَّ أن يَخرُج من المسجد، فإذا به يذكّره بقوله ﷺ: «لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي القُرْآنِ» وفيه: حِرْصُ أبي سعيد بن الْمُعَلَّى على التعلُّم، وفيه أيضًا: تواضع النبيِّ ﷺ مع أصحابه.

قَالَ ﷺ:

«{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ}

هِيَ السَّبْعُ المَثَانِي، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ»؛ أي: فأجابَه النبيُّ ﷺ إلى سؤاله، وأخبره أن سورة الفاتحة هي أعظمُ سورة في القرآن، فقوله:{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} : هو اسم للسورة، ولم يُرِدِ الآية وحدَها، وهي: السبع؛ أي: الآيات، والْمَثَاني: سُمِّيت بذلك؛ لأنها يُثنَى بها على الله تعالى، وقيل: لأنها تُثنَّى في كلِّ ركعة؛ أي: تُكرَّر وتُعاد، وقيل: لأنها استُثْنِيَت لهذه الأمَّة، لم تنزل على غيرها، والقرآن العظيم الذي أُوتيَه ﷺ، و"فيه دلالة على أن الفاتحة هي القرآن العظيم المقصود في قوله:

{َلَقَدْ آتَيْنَاكَ}

وأن الواو ليست بالعاطفة التي تَفصِل بين الشيئين؛ وإنما هي التي تجيء بمعنى التفضيل؛ كقوله:

{وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ}،{فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}"[5]

 ويَشهَد له حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أُمُّ القُرْآنِ هِيَ السَّبْعُ المَثَانِي وَالقُرْآنُ العَظِيمُ»[6].

وقد خصَّ الله تعالى سورة الفاتحة بفضائلَ كثيرةٍ، منها:

• أنها ركنٌ من أركان الصلاة، لا تصحُّ الصلاة إلا بها

عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ:

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ»[7].

• أنها نورٌ من الله تعالى

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ:

بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ، سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: «هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ، فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَسَلَّمَ، وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ»[8].

• أنها أفضل سورة في القرآن الكريم؛ كما نصَّ عليه حديث الباب عن أبي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى.

• أنها لم تنزل سورةٌ مثلُها في فضلها، وثوابها، ومكانتها في الكتب السابقة

عَنْ أَبِي هُرَيْرَة

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ….، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا أُنْزِلَتْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الفُرْقَانِ مِثْلُهَا، وَإِنَّهَا سَبْعٌ مِنَ المَثَانِي وَالقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُعْطِيتُهُ»[9].

• أن فيها حمدًا لله تعالى، وثناءً عليه، وتمجيدًا له، وتفويضَ الأمر إليه، وتتحقَّق بها المناجاة بين العبد وربِّه

عَنْ أَبِي هُرَيْرَة، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:

«مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ – ثَلَاثًا - غَيْرُ تَمَامٍ»، فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ؟ فَقَالَ: «اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ»؛ فإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ:{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} [الفاتحة: 2]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ}[الفاتحة: 3]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ}[الفاتحة: 4] ، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي - وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي - فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ} [الفاتحة: 5] قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ:{ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ (6) صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ} [الفاتحة: 6- 7] قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ»[10].

• أنها رُقْيَة، وشِفاء من الأمراض

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، قَالَ:

كُنَّا فِي مَسِيرٍ لَنَا فَنَزَلْنَا، فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ، فَقَالَتْ: إِنَّ سَيِّدَ الحَيِّ سَلِيمٌ، وَإِنَّ نَفَرَنَا غَيْبٌ، فَهَلْ مِنْكُمْ رَاقٍ؟ فَقَامَ مَعَهَا رَجُلٌ مَا كُنَّا نَأْبُنُهُ بِرُقْيَةٍ، فَرَقَاهُ فَبَرَأَ، فَأَمَرَ لَهُ بِثَلاثِينَ شَاةً، وَسَقَانَا لَبَنًا، فَلَمَّا رَجَعَ قُلْنَا لَهُ: أَكُنْتَ تُحْسِنُ رُقْيَةً - أَوْ كُنْتَ تَرْقِي؟ - قَالَ: لا، مَا رَقَيْتُ إِلَّا بِأُمِّ الكِتَابِ، قُلْنَا: لا تُحْدِثُوا شَيْئًا حَتَّى نَأْتِيَ - أَوْ نَسْأَلَ - النَّبِيَّ ﷺ، فَلَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ ذَكَرْنَاهُ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: «وَمَا كَانَ يُدْرِيهِ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ»[11].

• اشتمالها على أفضل الدعاء: وهو: الدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم، وآداب الدعاء: وهي: البَدْءُ بالحمد أولاً، ثم الثناء، ثم التمجيد، ثم إفراد العبودية له، ثم الاستعانة به دون سواه

عَنْ فَضَالَةَ بْن عُبَيْدٍ، صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قَال:

سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ لَمْ يُمَجِّدِ اللَّهَ تَعَالَى، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «عَجِلَ هَذَا»، ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: - أَوْ لِغَيْرِهِ - «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ، فَلْيَبْدَأْ بِتَمْجِيدِ رَبِّهِ جَلَّ وَعَزَّ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ يَدْعُو بَعْدُ بِمَا شَاءَ»[12].

المراجع

  1. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (3/ 177).
  2. "شرح سنن أبي داود" لبدر الدين العينيِّ (5/ 375).
  3. "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (17/ 57).
  4. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (8/ 158).
  5. "أعلام الحديث شرح صحيح البخاري" للخطَّابيِّ (3/ 1798).
  6. رواه البخاريُّ (4704).
  7. رواه البخاريُّ (756)، ومسلم (394).
  8. رواه مسلم (254).
  9. رواه مسلم (806).
  10. رواه مسلم (395).
  11. رواه البخاريُّ (5007)، ومسلم (2201).
  12. رواه أبو داود (1481)، والترمذيُّ (3477)، والنسائي (1284) وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح.


النقول:

قال ابن حجر : "نقل ابنُ التين عن الداوديِّ أن في حديث الباب تقديمًا وتأخيًرا، وهو قوله: «أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ:{اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ}». قبل قول أبي سعيد «كنت في الصلاة» قال: فكأنه تأوَّل أن من هو في الصلاة خارجٌ عن هذا الخطاب، قال: والذي تأوَّل القاضيان عبد الوهاب وأبو الوليد أن إجابة النبيِّ ﷺ في الصلاة فرضٌ يُعصى الْمَرء بتركه، وأنه حُكْمٌ يختصُّ بالنبيِّ ﷺ. قلتُ: وما ادَّعاه الداوديُّ لا دليلَ عليه، وما جَنَح إليه القاضيان من المالكية هو قولُ الشافعية على اختلافٍ عندهم بعد قولهم بوجوب الإجابة، هل تَبطُل الصلاة أم لا؟ قوله: "لأعلِمَنَّكَ سورةً هي أعظمُ السُّور» في رواية روح في تفسير الأنفال: «لأعلمنَّكَ أعظم سورة في القرآن»، وفي حديث أبي هريرة: «أتحبُّ أن أعلِّمَك سورةً لم يَنزِل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزَّبور ولا في الفرقان مِثْلَها». قال ابن التين: معناه أن ثوابها أعظمُ من غيرها، واستدلَّ به على جواز تفضيل بعض القرآن على بعض، وقد مَنَع ذلك الأشعريُّ وجماعة؛ لأن المفضول ناقصٌ عن درجة الأفضل، وأسماء الله وصفاته وكلامه لا نقصَ فيها، وأجابوا عن ذلك بأن معنى التفاضل أن ثواب بعِضه أعظمُ من ثواب بعض، فالتفضيلُ إنما هو من حيث المعاني، لا من حيث الصفةُ، ويؤيِّد التفضيلَ قولُه تعالى:

{نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} "[1]. 

[البقرة: 106]

قال ابن الجوزيِّ : "وفي هذا الحديث دليلٌ على أن الأمر على الفَور؛ لأنّه عاتَبه لَمّا تأخَّر عن إجابته. وفيه دليلٌ على لزوم العمل بمقتضى اللّفظ، إلّا أن يَصرِف عنه دليلٌ؛ لأنّه قال:

ألم يقل اللّه:

«{اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}».

وأما السّورة فقال ابن قُتيبة: من هَمَزَ السّورةَ جعلها من: أَسْأَرْتُ؛ يعني: أَفْضَلْتُ؛ كأنّها قطعة من القرآن، ومن لم يَهمِزْها جعلها من سورة البناء؛ أي: منزلة بعد منزلة. قال أبو عُبيدة: إنّما سُمِّيت سورة؛ لأنّها يرتفع فيها من منزلة إلى منزلة. وقوله: (الحمد لله) دليل على أن البسملة ليست منها؛ لأنّه ابتدأ بـ (الحمد). وقوله: «هي السّبع» لأنّها سبع آيات. وإنّما سُمِّيت بالمثاني؛ لأنّها تثنَّى في كُلِّ ركعة، قاله ابن الأنباريِّ. وقيل: لأنّها ممّا أُثني به على الله عزّ وجلّ، ذكره الزّجّاج"[2].

قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: «ثم أخذ بيدي» زاد في حديث أبي هريرة: «يحدِّثني وأنا أتباطأ مخافةَ أن يَبلُغ الباب قبل أن ينقضيَ الحديث». قوله: «ألم تقل: لأعلمنَّكَ سورة». في حديث أبي هريرة: «قلت: يا رسول الله، ما السورة التي قد وعدتَني؟ قال: كيف تقرأ في الصلاة؟ فقرأت عليه أم الكتاب». قوله: «قال: الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم» في رواية معاذ في تفسير الأنفال: «فقال: هي الحمد لله رب العالمين، السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» وفي حديث أبي هريرة: «فقال: إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته»، وفي هذا تصريح بأن المراد بقوله تعالى:

{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي}

[الحجر: ٨٧]

هي الفاتحة. وقد روى النسائيُّ بإسناد صحيح عن ابن عباس: "أن السبع المثاني هي السبع الطوال"؛ أي: السُّور من أوَّل البقرة إلى آخر الأعراف ثم براءة، وقيل: يونس. وعلى الأول، فالمراد بالسبع الآي لأن الفاتحة سبعُ آيات، وهو قول سعيدِ بنِ جُبيرٍ. واختُلف في تسميتها "مثاني"، فقيل: لأنها تُثنَّى كلَّ ركعة؛ أي: تُعاد، وقيل: لأنها يُثنى بها على الله تعالى، وقيل: لأنها استُثْنِيَت لهذه الأمَّة لم تنزل على مَن قَبلَها"[3].

قال الخطَّابيُّ رحمه الله: "فيه دلالة على أن الفاتحة هي القرآن العظيم المقصود في قوله:

{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ}

الآية، وأن الواو ليست بالعاطفة التي تَفصِل بين الشيئين؛ وإنما هي التي تجيء بمعنى التفضيل؛ كقوله:

{وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ}،{فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}"[4].

قال ابن حجر رحمه الله: "قال ابن التين: فيه دليل على أن (بسم الله الرحمن الرحيم) ليست آيةً من القرآن، كذا قال، عكس غيره؛ لأنه أراد السورة، ويؤيِّده أنه لو أراد

{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِين}

الآية، لم يقل: «هي السبع المثاني»؛ لأن الآية الواحدة لا يقال لها: سبع، فدلَّ على أنه أراد بها السورة. (والحمد لله رب العالمين) من أسمائها، وفيه قوَّة لتأويل الشافعيِّ في حديث أنس، قال: كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين، قال الشافعيُّ: أراد السورة، وتُعقِّب بأن هذه السورة تسمَّى سورة الحمد لله، ولا تسمَّى الحمد لله رب العالمين، وهذا الحديث يَرُدُّ هذا التعقب، وفيه أن الأمر يقتضي الفَوْرَ؛ لأنه عاتب الصحابيَّ على تأخير إجابته، وفيه استعمال صيغة العموم في الأحوال كلِّها، قال الخطَّابيُّ: فيه أن حُكم لفظ العموم أن يَجريَ على جميع مقتضاه، وأن الخاصَّ والعامَّ إذا تقابلا، كان العامُّ منزَّلاً على الخاصِّ؛ لأن الشارع حرَّم الكلام في الصلاة على العموم، ثم استثنى منه إجابةَ دعاء النبيِّ ﷺ في الصلاة. وفيه أن إجابة المصلِّي دعاءَ النبيِّ ﷺ لا تُفسد الصلاة، هكذا صرَّح به جماعةٌ من الشافعية وغيرهم. وفيه بحثٌ؛ لاحتمال أن تكون إجابته واجبةً مطلَقًا، سواءٌ كان المخاطَب مصلِّيًا أو غيرَ مصلٍّ، أما كونُه يَخرُج بالإجابة من الصلاة أو لا يخرج، فليس من الحديث ما يَستلزِمه، فيُحتمَل أن تَجِبَ الإجابةُ ولو خرج المجيب من الصلاة، وإلى ذلك جَنَح بعض الشافعية، وهل يختصُّ هذا الحكم بالنداء، أو يَشمَل ما هو أعمُّ حتى تجب إجابته إذا سأل؟ فيه بحثٌ، وقد جَزَم ابن حبَّانَ بأن إجابة الصحابة في قصَّة ذي اليَدين كان كذلك"[5]. 

قال ابن تيمية رحمه الله: "وفي الجملة: فدلالة النصوص النبوية والآثار السلفية والأحكام الشرعية والحُجَج العقلية على أن كلام الله بعضُه أفضلُ من بعض، هو من الدلالات الظاهرة المشهورة"[6].

قال ابن حجر رحمه الله: قوله: «والقرآن العظيم الذي أوتيته». قال الخطَّابيُّ: في قوله: «هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيتُه» دلالة على أن الفاتحة هي القرآن العظيم، وأن الواوَ ليست بالعاطفة التي تَفصِل بين الشيئين؛ وإنما هي التي تجيء بمعنى التفصيل

كقوله:

{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}

[الرحمن: ٦٨]

وفيه بحث؛ لاحتمال أن يكون قوله: «والقرآن العظيم» محذوفَ الخبر، والتقديرُ ما بعد الفاتحة مثلاً، فيكون وصف الفاتحة انتهى بقوله: «هي السبع المثاني»، ثم عطف قوله: «والقرآن العظيم» ما زاد على الفاتحة، وذَكَر ذلك رعايةً لنَّظم الآية، ويكون التقدير: والقرآن العظيم هو الذي أوتيتُه زيادةً على الفاتحة"[7].

قال القاضي عياض رحمه الله: "وقوله - عليه السلام – لأبىِّ بن كعب: «أتدري أيُّ آية من كتاب الله أعظم؟» وذَكَر آية الكرسيِّ، فيه حُجَّة للقول بتفضيل بعض القرآن على بعض، وتفضيل القرآن على سائر كتب الله عند من أجازه، منهم إسحاق بن راهويه، وغيرِه من العلماء والمتكلِّمين، وذلك راجع إلى عِظَم أجر قارئ ذلك، وجزيل ثوابه على بعضِه أكثر من سائره، وهذا مما اختَلف أهل العلم فيه، فأبى ذلك الأشعريُّ، والباقلَّانيُّ، وجماعةٌ من الفقهاء، وأهل العلم؛ لأن مقتضى الأفضل نقصُ المفضول عنه، وكلام الله لا يتبعَّض، قالوا: وما ورد من ذلك بقوله: "أفضل وأعظم" لبعض الآي والسُّور فمعناه: عظيم وفاضل"[8].

قال بدرُ الدين العينيُّ رحمه الله: "والمختار: جوازُ قول: هذه الآية أو السورة أعظمُ أو أفضلُ؛ بمعنى: أن الثواب المتعلِّق بها أكثر"[9].

قال ابن حجر رحمه الله: "قال ابن التِّين: معناه: أن ثوابها أعظمُ من غيرها، واستدلَّ به على جواز تفضيل بعض القرآن على بعض، وقد مَنَع ذلك الأشعريُّ وجماعة؛ لأن المفضول ناقص عن درجة الأفضل، وأسماء الله وصفاته وكلامه لا نقصَ فيها، وأجابوا عن ذلك بأن معنى التفاضل: أن ثواب بعضه أعظمُ من ثواب بعض؛ فالتفضيل إنما هو من حيث المعاني، لا من حيث الصفةُ، ويؤيِّد التفضيلَ قولُه تعالى:

{نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}"[10]

قال ابن تيمية رحمه الله: "فهذه السّورةُ فيها للّه الحمدُ، فله الحمد في الدّنيا والآخرة، وفيها للعبد السّؤال، وفيها العبادة للّه وحده، وللعبد الاستعانة، فحَقُّ الرّبِّ حمده وعبادته وحدَه، وهذان حمد الرّبِّ وتوحيده، يدور عليهما جميع الدّين"[11].

قال ابن هُبيرة رحمه الله: «من هذه السورة يمكن أن نستخرجَ علومَ الدُّنيا والآخرة كلها؛ وذلك أنه يُقال: في هذه السورة عِلم الحمد، وعِلم الألوهية، وعِلم الربوبية، وعِلم العالمين، وعِلم الرحمة، وعِلم الْمُلك، وعِلم الدين، وعِلم العبادة، وعِلم الاستعانة، وعِلم الهداية، وعِلم الصراط، وعِلم الاستقامة، وعِلم النعمة، وعِلم ما يُجتَنَب من الغضب، وعِلم ما يُجتَنب من الضلالة»[12].

قال ابن تيمية رحمه الله: "وهذه السّورة هي أمُّ القرآن، وهي فاتحة الكتاب، وهي السّبع المثاني والقرآن العظيم، وهي الشّافية، وهي الواجبة في الصّلوات، لا صلاة إلّا بها، وهي الكافية تكفي من غيرها، ولا يكفي غيرها عنها. والصّلاة أفضل الأعمال، وهي مؤلَّفة من كلم طيّب وعمل صالح؛ أفضل كلمها الطّيّب وأوجبه القرآن، وأفضل عملها الصّالح وأوجبه السّجود"[13].

قال ابن رجب رحمه الله: "قوله تعالى:

{إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ}

تجمَعُ سرَّ الكُتب المنزَّلة من السماء كلها؛ لأن الخَلْق إنما خُلِقوا ليُؤمَروا بالعبادة

كما قال:

{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}

[الذاريات: 56]

وإنما أُرسلت الرسل، وأُنزلت الكتب لذلك، فالعبادة حقُّ الله على عباده، ولا قدرةَ للعباد عليها بدون إعانة الله لهم، فلذلك كانت هذه الكلمة بين الله وبين عبده؛ لأن العبادة حقُّ الله على عبده، والإعانة من الله فضلٌ من الله على عبده"[14].

قال ابن تيمية رحمه الله: "أمّا الأوّل، فهو مسألة كبيرة، والنّاس متنازعون فيها نزاعًا منتشرًا، فطوائف يقولون: بعض كلام اللّه أفضل من بعض كما نطقت به النّصوص النّبويّة؛ حيث أخبر عن الفاتحة أنّه لم يَنزِل في الكتب الثّلاثة مثلُها، وأخبر عن سورة الإخلاص أنّها تَعدِل ثُلث القرآن، وعَدْلُها لثُلثه يمنع مساواتها لمقدارها في الحروف، وجعل آية الكرسيِّ أعظم آية في القرآن؛ كما ثبت ذلك في الصّحيح أيضًا، وكما ثبت ذلك في صحيح مسلم أنّ النّبيَّ ﷺ قال لأُبيِّ بنِ كعب: «يا أبا المنذر، أتدري أيُّ آية من كتاب الله معك أعظم؟» قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «يا أبا المنذر، أتدري أيُّ آية من كتاب الله معك أعظم؟» قال: قلت:

{ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}

قال: فضرب في صدري، وقال: «والله ليَهْنِكَ العلمُ أبا المنذر»، وقال في المعوِّذتين: لم ير مثلهنّ قطُّ،

وقد قال تعالى:

{ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}

[البقرة: ١٠٦]

فأخبر أنّه يأتي بخير منها أو مثلها، وهذا بيان من اللّه لكون تلك الآية قد يأتي بمثلها تارةً، أو خير منها أخرى، فدلَّ ذلك على أنّ الآياتِ تتماثل تارةً، وتتفاضل أخرى. وأيضًا فالتّوراة والإنجيل والقرآن جميعها كلام اللّه، مع علم المسلمين بأنّ القرآن أفضل الكتب الثّلاثة

قال تعالى:

{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}

[المائدة: ٤٨]

وقد سمّى اللّه القرآن كلّه مجيدًا وكريمًا وعزيزًا، وقد تحدَّى الخلق بأن يأتوا بمثله، أو بمثل عشْرِ سور منه، أو بمثل سورة منه... والقول بأنّ كلام اللّه بعضه أفضل من بعض هو القول المأثور عن السّلف، وهو الّذي عليه أئمّة الفقهاء من الطّوائف الأربعة وغيرهم، وكلام القائلين بذلك كثير منتشر في كتب كثيرة"[15].

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قال القاضي عياض: فيه حجَّة القول بجواز تفضيل بعض القرآن على بعض، خلافًا لمن مَنعَه، وقال: تفضيلُ البعض على البعض يقتضي نقصَ المفضول، وليس في كلام الله تعالي نقصٌ. وأُجِيب بأن «أعظم» بمعنى عظيم، و«أفضل» بمعنى فاضل. وقال إسحاقُ بنُ راهوَيْهِ وغيره: المعنى راجعٌ إلى الثواب والأجر؛ أي: أعظمُ ثوابًا وأجرًا، وهو المختار.

وأقول: لا ريبَ أن القرآن من كونِه كلامَ الله تعالى، سواءٌ في الفضل والشرف؛ لكن يتفاوت بحسَبِ المذكور، فإن فضل سورة الإخلاص مثلاً على السورة التي يُذكَر فيها «تبَّت»؛ مما لا يخفى على كلِّ أحد مع أن الأسلوب من باب: هم كالحَلْقة المفرَغة لا يُدرى أين طرفاها؟ وقد مرَّ بيانُه مرارًا"[16].

قال ابن بطال رحمه الله: "قراءة القرآن أفضلُ أعمال البرِّ كلِّها؛ لأنه لَمَّا كان مَن تعلَّم القرآن أو علَّمه أفضلَ الناس وخيرَهم، دلَّ ذلك على ما قلناه؛ لأنه إنما وجبت له الخيرية والفضلُ من أجل القرآن، وكان له فضل التعليم جاريًا، ما دام كلُّ من علَّمه تاليًا"[17].

قال النوويُّ رحمه الله: "وَأَمَّا قَوْلُهُ ﷺ: «وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ»، فمعناه ظاهِرٌ؛ أي: تَنْتَفِعُ به إن تَلَوْتَهُ وَعَمِلْتَ به، وإِلَّا فهو حُجَّةٌ عليك"[18].

المراجع

  1. "فتح الباري" لابن حجر (8/ 157).
  2. "كشف المشكل من حديث الصحيحين" لابن الجوزيِّ (4/ 162، 163).
  3. "فتح الباري" لابن حجر (8/ 158، 159).
  4. "أعلام الحديث شرح صحيح البخاري" للخطَّابيِّ (3/ 1798).
  5. "فتح الباري" لابن حجر (8/ 158، 159).
  6. "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (17/ 57).
  7. "فتح الباري" لابن حجر (8/ 158، 159).
  8. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (3/ 177).
  9. "شرح سنن أبي داود" لبدر الدين العينيِّ (5/ 375).
  10. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (8/ 158).
  11. "مجموع الفتاوى" (6/ 259).
  12. "الإفصاح عن معاني الصحاح" لابن هبيرة (8/ 157).
  13. "مجموع الفتاوى" (14/5).
  14. "فتح الباري" لابن رجب (7/ 103).
  15. "مجموع الفتاوى" (17/ 10 - 13).
  16. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (5/ 1644).
  17. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (10/ 265).
  18. "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 102).


مشاريع الأحاديث الكلية