149 - سَعةُ رَحمةِ اللهِ تعالى

عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: «جَعَلَ اللهُ الرَّحمةَ في مِائَةِ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِي الأرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الخَلْقُ، حَتَّى تَرْفَعَ الفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا؛ خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ» متفق عليه

عناصر الشرح

​ المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه سَمِع رَسُولَ اللهِ  يَقول: «جَعَلَ اللهُ الرَّحمةَ في مائَةِ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِي الأرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الخَلْقُ، حَتَّى تَرْفَعَ الفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا؛ خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ»: المعنى: إن ما يُرى من أثَر الرحمة في جميع المخلوقات، في الإنسان وغيره، ما يَعقِل منها، وما لا يعقِل، حتى ما يُرى في رحمة الفرس بولدها وغير ذلك، كلُّه أثرُ رحمة واحدة، فكيف بتسعٍ وتسعين رحمةً؟!

الشرح المفصَّل للحديث

اللهُ سبحانَهُ وتعالى أرْحمُ الراحمينَ، وأكرَمُ الأكرَمينَ، ورحمتُه سبحانه عمَّتِ السم‍واتِ والأرضَ؛ وهيَ لا تقتصِرُ على الإنسانِ فحسبُ، بلْ وسِعَت كلَّ شيءٍ، حتَّى الحيوانَ والطيرَ. 

وفي هذا الحديث يُبيِّن النبيُّ ﷺ سَعةَ رحمة الله ۵، فيُخبر أنه: «جَعَلَ اللهُ الرَّحمَةَ في مِائَةِ جُزْءٍ»، والرحمةُ صفة ثابتة لله ۵، وصف بها نفْسه، فهو سبحانه الرحمنُ الرحيم، والرحمةُ أيضًا صفةٌ يوصَف بها المخلوق، وللخالق سبحانه من الوصف ما يَليق بكماله، وللمخلوق ما يَتناسب معه، وتعالى سبحانه عن أن يُشبه خلقه، أو يُشبهه شيءٌ من خَلْقه.

وأصلُ الرحمة أنها رِقَّةٌ في النفْس، تبعث على سَوق الخير لِمَن تتعدَّى إليه[1]. وحاشاه سبحانه أن يعتريَه ضعفٌ، أو نقصٌ، أو رقَّةٌ كما هو الحال في وصف الرحمة بالنسبة للمخلوقات.

واختلف العلماء في الرحمة المذكورة هنا، هل المراد بها الرحمة التي خلقها الله  في نفوس مخلوقاته، أو رحمته سبحانه؟ فقيل: إن الرحمة المشار إليها في هذا الحديث هي الرحمةُ التي خَلَقها اللهُ ، وأودعها سبحانه في نفوس خَلْقه؛ إذ رحمته سبحانه صفةٌ أزليةٌ لا يُمكِن أن تكون مخلوقةً، ولا يُمكِن تجزئتُها.

هذه الرحمةُ هي رحمتُه سبحانه التي خَلَقها لعباده، وجعلها في نفوسهم، والتي أمسك عند نفْسه هي ما يتراحمون به يوم القيامة، ويتغافرون من التباعات التي كانت بينَهم في الدنيا، وقد يجوز هذا في تلك الرحمة المخلوقة فيهم، بخلاف رحمته سبحانه التي وَسِعت كلَّ شيء، والتي لا يجوز أن تكون مخلوقةً، وهي صفةٌ من صفات ذاته تعالى، لم يزل موصوفًا بها، فهي التي يرحمهم بها زائدًا على الرحمة التي جعلها لهم، وقد يجوز أن تكون الرحمة التي أمسكها عند نفْسه هي التي عند ملائكته المستغفِرين لِمَن في الأرض؛ لأن استغفارهم لهم دليلٌ على أن في نفوس الملائكة رحمةً على أهل الأرض[2]

وقيل: إن الرحمةَ المشارَ إليها في الحديث هي رحمتُه سبحانه وتعالى، وإنما ذكَرَها على هذه الصورة من باب التمثيل وتقريب المعاني للأفهام؛ فـ"رحمة الله غير متناهيةٍ، لا مِائة، ولا مِائتان؛ لكنها عبارةٌ عن القُدرة المتعلِّقة بإيصال الخير، والقُدرة صفةٌ واحدةٌ، والتعلُّق غير مُتناهٍ، فحصرُه في مائة على سبيل التمثيل؛ تسهيلًا للفَهم، وتقليلًا لما عندنا، وتكثيرًا لما عنده سبحانه وتعالى"[3].

و"رحمةُ الله لا نهاية لها، فلم يُرِد بما ذكره تحديدًا؛ بل تصويرًا للتفاوت بين قسط أهل الإيمان منها في الآخرة، وقسط كافَّة المربوبين في الدنيا"[4].

وقيل: إن المقصود رحمةُ الله ، والمرادُ بهذه الأجزاء المائة متعلَّق الرحمة، وهي النِّعم والمنافع، ولا يصحُّ التجزئة إلا لها، بخلاف الرحمة ذاتها التي هي صفتُه سبحانه، فلا يمكِن أن تتجزَّأ[5]

وأما عن جَعْلِه سبحانه الرحمة مائةَ جزء، فإن المراد بالعدد التكثيرُ لا النصُّ على العدد بعَينه، وقيل: فيه إشارةٌ إلى عدد درجات الجنة المائة الواردة في الحديث: «إن في الجنة مائةَ درجة، أعدَّها اللهُ للمجاهدين في سبيل الله»[6]، فكانت كلُّ رحمة مقابلَ درجة من درجات الجنة؛ إذ الجنةُ لا يدخلها أحدٌ إلا برحمة الله ، فمَن أصابته رحمةٌ واحدةٌ كان في الدرجة الأُولى، ومَن أصابته أكثرُ كان في درجة من الجنة بمثل ما أصابه من رحمة الله [7].

ويُحتمَل أن المراد بالأجزاء الْمِائة أنواعُ الرحمة[8] وعليه؛ فالمعنى: جعل الله الرحمةَ مِائة نوع، فجعل سبحانه في الأرض نوعًا واحدًا منها، وأمسك البقيةَ لعباده المؤمنين يوم القيامة؛ فـ"مُقتضى هذا الحديث أن الله عَلِم أن أنواع النعم التي يُنعم بها على خلقه مِائة نوع، فأنعمَ عليهم في هذه الدنيا بنوع واحدٍ، انتظمت به مصالحهم، وحصلتْ به مرافقهم، فإذا كان يوم القيامة كمل لعباده المؤمنين ما بَقِيَ، فبلغتْ مِائة"[9]. 

وقوله ﷺ:

«فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِي الأرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا»

هو تفصيلٌ بعد إجمال، والمعنى: أمسك سبحانه عنده تسعةً وتسعين جزءًا يرحم بها عبادَه المؤمنين يوم القيامة، وأرسل في خلقه كلِّهم جزءًا واحدًا يتراحمون به فيما بينهم في الدنيا. وفيه إشارةٌ لسَعة رحمة الله ، أو عظم الرحمة التي أوجدها اللهُ عزَّ وجلَّ، وأرادها بخَلقه؛ فـ"هذه الأحاديثُ من أحاديث الرجاء والبِشارة للمسلمين، قال العلماء: لأنه إذا حصل للإنسان من رحمة واحدة في هذه الدار الْمَبنيَّة على الأكدار: الإسلامُ، والقرآن، والصلاة، والرحمة في قلبه، وغير ذلك مما أنعمَ اللهُ تعالى به، فكيف الظنُّ بمِائة؟![10]. 

 ثم يسوق ﷺ مثلًا لعظمة هذه الرحمة وسَعتها،

فيقول:

"فَمِنْ ذَلِكَ الجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الخَلْقُ، حَتَّى تَرْفَعَ الفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا؛ خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ»،

والحافرُ بالنسبة للفرس هو بمنزل الظِّلف من البقر، والخُفِّ من الجَمَل[11]

وضرَبَ رسولُ اللهِ ﷺ المثلَ بالفرسِ؛ "لأنَّها كانَت أكثرَ الحيوَانات المألُوفةِ التِي يُشاهدُ الناسُ حركتَها معَ ولدِها، ولِما في الفرَسِ مِنَ الِخفَّةِ والسُّرعةِ في التنقُّلِ، ومعَ ذلكَ تَتجنَّبُ أَنْ يصِلَ الضرَرُ مِنهَا إِلى ولدِهَا"[12]، والمعنى: إن ما يُرى من أثَر الرحمة في جميع المخلوقات، في الإنسان وغيره، ما يعقِل منها، وما لا يعقِل، حتى ما يُرى في رحمة الفرس بولده وغير ذلك، كلُّه أثرُ رحمة واحدة، فكيف بتسعةٍ وتسعين؟! 

المراجع

  1. "التحرير والتنوير" لابن عاشور (26/ 24).
  2.  "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (9/ 213- 214) بتصرُّف يسير.
  3.  "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (9/ 19).
  4. "مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للمباركفوري (8/ 78).
  5.  انظر: "التنوير شرح الجامع الصغير" للصنعانيِّ (5/ 267).
  6.  رواه البخاريُّ (2790).
  7.  انظر: "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (9/ 19).
  8.  "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 253)
  9.  "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (10/ 432).
  10.  "شرح النوويِّ على مسلم" (17/ 68).
  11.  انظر: "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" لمحمد علي بن علان الصديقي (4/ 322).
  12.  "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (10/ 432) بتصرُّف يسير.
النقول

قال ابن بطَّال رحمه الله : "قال المهلَّبُ: هذه الرحمةُ هي رحمتُه سبحانه التي خَلَقها لعباده، وجعلها في نفوسهم، والتي أمسك عند نفْسه هي ما يتراحمون به يوم القيامة، ويتغافرون من التباعات التي كانت بينَهم في الدنيا، وقد يجوز هذا في تلك الرحمة المخلوقة فيهم، بخلاف رحمته سبحانه التي وَسِعت كلَّ شيء، والتي لا يجوز أن تكون مخلوقةً، وهي صفةٌ من صفات ذاته تعالى، لم يزل موصوفًا بها، فهي التي يرحمهم بها زائدًا على الرحمة التي جعلها لهم، وقد يجوز أن تكون الرحمة التي أمسكها عند نفْسه هي التي عند ملائكته المستغفرين لمَن في الأرض؛ لأن استغفارهم لهم دليلٌ على أن في نفوس الملائكة رحمةً على أهل الأرض"[1]

قال القسطلانيُّ  رحمه الله: "ورحمة الله غير متناهيةٍ، لا مِائة، ولا مِائتان؛ لكنها عبارةٌ عن القُدرة المتعلِّقة بإيصال الخير، والقُدرة صفةٌ واحدةٌ، والتعلُّق غير مُتناهٍ، فحصرُه في مائة على سبيل التمثيل؛ تسهيلًا للفَهم، وتقليلًا لما عندنا، وتكثيرًا لما عنده سبحانه وتعالى[2].

قال الطِّيبيُّ  رحمه الله: "رحمةُ الله لا نهاية لها، فلم يُرِد بما ذكره تحديدًا؛ بل تصويرًا للتفاوت بين قسط أهل الإيمان منها في الآخرة، وقسط كافَّة المربوبين في الدنيا"[3]

قال القرطبيُّ  رحمه الله: "مُقتضى هذا الحديث أن الله عَلِم أن أنواع النعم التي يُنعم بها على خلقه مِائة نوع، فأنعمَ عليهم في هذه الدنيا بنوع واحدٍ، انتظمت به مصالحهم، وحصلتْ به مرافقهم، فإذا كان يوم القيامة كمل لعباده المؤمنين ما بَقِيَ، فبلغتْ مِائة"[4] 

قال النوويُّ  رحمه الله: "هذه الأحاديثُ من أحاديث الرجاء والبِشارة للمسلمين، قال العلماء: لأنه إذا حصل للإنسان من رحمة واحدة في هذه الدار الْمَبنيَّة على الأكدار: الإسلام، والقرآن، والصلاة، والرحمة في قلبه، وغير ذلك مما أنعمَ اللهُ تعالى به، فكيف الظنُّ بمِائة؟!"[5].

قال بدر الدين العينيُّ  رحمه الله: "قَوْله: «مائَة جُزْء» ويروى: «فِي مائَة جُزْء»، وَكلمَة (فِي) في هذه الرِّوَايَة زائدة كما فِي قوله: (وَفِي الرَّحْمَن للضُّعفاء كافٍ)؛ أي: الرّحمن لهم كافٍ. قوله: «فأمسك عنده» وفي رواية عطاء: «وأخَّر عنده تسعة وتسعين رحمة»، قيل: رحمة الله غير متناهية، لا مائة ولا مائتان. وأجيب بأن الرّحمة عبارة عن القدرة المتعلّقة بإيصال الخير، والقدرة صفة واحدة، والتعلّق غير متناهٍ، فحصره في مائة على سبيل التّمثيل؛ تسهيلاً للفَهم، وتقليلاً لما عندنا، وتكثيرًا لما عنده. قوله: «وأنزل في الأرض»، كان القياس أن يقال: إلى الأرض؛ ولكن حروف الجرّ ينوب بعضها عن بعض، وفيه تضمين، والغرض منه المبالغة؛ يعني: أنزلها منتشرةً في جميع الأرض. فإن قلت: ما الحكمة في تعيين المائة من بين الأعداد، ولم تجر عادة العرب إلَّا في السّبعين؟ قلت: أجيب بأنّه أطلق هذا العدد الخاصَّ لإرادة التكثير والمبالغة، والسّبعون من أجزاء المائة، وقيل: ثبت أن نار الآخرة تفضل نار الدّنيا بتسعة وستّين جزءًا، فإذا قوبل كلّ جزء برحمة، زادت الرحمات ثلاثين جزءًا، فيؤخذ منه أن الرّحمة في الآخرة أكثر من النِّقمة فيها، ويؤيّده قوله: غلبت رحمتي غضبي. قوله: «يتراحم الخلق» بالراء من التفاعل الّذي يشترك فيه الجماعة. قوله: «حتّى ترفع الفرس حافرها». الحافر للفرس كالظِّلف للشاة، وخصَّ الفرس بالذكر لأنّها أشدُّ الحيوان المألوف الّذي يعاين المخاطبون حركتها مع ولدها، ولما في الفرس من الخفّة والسرعة في التنقُّل، ومع ذلك تتجنَّب أن يصل الضّرر منها إلى ولدها، وفي رواية عطاء: فبها يتعاطفون وبها يتراحمون، وبهذا يعطف الوحش والطير بعضها على بعض. قوله: «أن تصيبه» كلمة (أن)، مصدريّة؛ أي: خشية الإصابة"[6]

قال القسطلانيُّ  رحمه الله: "«جعل الله الرحمة مائة جزء»، وفي حديث سلمان عند مسلم: «إن الله خلق مائة رحمة يوم خلق السماوات والأرض، كلُّ رحمة طِبَاقَ ما بين السماء والأرض» الحديثَ. وخَلَق؛ أي: اخترع وأَوْجَد بقوله. «كل رحمة طباقَ...» إلى آخره. التعظيم والتكثير، ولأبي ذر «في مائة جزء» بزيادة (في). قال في "الكواكب": هي ظرفية يتمُّ المعنى بدونها، أو متعلِّقة بمحذوف، وفيه نوع مبالغة، حيث جعلها مظروفًا لها؛ يعني: بحيث لا يفوت منها شيءٌ، ورحمة الله غير متناهية، لا مِائة ولا مائتان؛ لكنها عبارة عن القدرة المتعلِّقة بإيصال الخير، والقدرة صفة واحدة، والتعلُّق غير متناهٍ، فحصرُه في مائة في سبيل التمثيل؛ تسهيلاً للفَهم، وتقليلاً لما عندنا، وتكثيرًا لما عنده سبحانه وتعالى، وهل المراد بالمائة التكثير والمبالغة أو الحقيقة؟ فيُحتمل أن تكون مناسبةً لعدد دَرَج الجنةِ، والجنة هي على الرحمة، فكانت كلُّ رحمة بإزاء درجة، وقد ثبَت أنه لا يَدخُل أحد الجنة إلا برحمة الله، فمن نالته منها رحمة واحدةٌ، كان أدنى أهل الجنة منزلةً، وأعلاهم مَن حصلت له جميع الأنواع من الرحمة. «فأمسك» تعالى «عنده تسعة وتسعين جزءًا»، ولمسلم من رواية عطاء عن أبي هريرة: «وأخّر عنده تسعة وتسعين رحمة»، «وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا». القياس: وأنزل إلى الأرض؛ لكن حروف الجرّ يقوم بعضها مقام بعض، أو فيه تضمينُ فِعل، والغَرَضُ منه المبالغة؛ يعني: أنزل رحمة واحدة منتشرة في جميع الأرض، وفي رواية عطاء: أنزل منها رحمة واحدة بين الجنِّ والإنس والبهائم، «فمن ذلك الجزء تتراحم الخلق» بالراء والحاء المهملة «حتى ترفع الفرس حافرها» هو كالظِّلْفِ للشَّاة. «عن ولدها؛ خشية أن تصيبه»؛ أي: خشيةَ الإصابة. وفي رواية عطاء: فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها يعطف الوحش على ولده. وفي حديث سلمان: فبها تَعطِف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، وزاد أنه يُكملها يوم القيامة مِائةَ رحمة بالرحمة التي في الدنيا"[7].

قال محمد خليل هرَّاس  رحمه الله: "وقد أنكرت الأشاعرة والمعتزلة صفة الرّحمة؛ بدعوى أنّها في المخلوق ضعف وخَوَر وتألُّم للمرحوم، وهذا من أقبح الجهل؛ فإنّ الرّحمة إنّما تكون من الأقوياء للضّعفاء، فلا تستلزم ضعفًا ولا خورًا؛ بل قد تكون مع غاية العِزَّة والقُدرة، فالإنسان القويُّ يرحم ولده الصّغير وأبويه الكبيرين، ومن هو أضعف منه، وأين الضّعف والخور- وهما من أذمِّ الصّفات - من الرّحمة الّتي وصف اللّه نفسه بها، وأثنى على أوليائه المتَّصِفين بها، وأمرهم أن يتواصوا بها؟!

وقوله:

رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا

[غافر: ٧]

من كلام اللّه عزّ وجلّ حكايةً عن حملة العرش والّذين حوله، يتوسّلون إلى اللّه عزّ وجلّ بربوبيّته وسعة علمه ورحمته في دعائهم للمؤمنين، وهو من أحسن التوسّلات الّتي يُرجى معها الإجابة. ونصب قوله:

رَحْمَةً وَعِلْمًا

على التّمييز المحوّل عن الفاعل، والتّقدير: وسعت رحمتك وعلمك كلَّ شيء. فرحمته سبحانه وسعت في الدّنيا المؤمن والكافر والبرّ والفاجر؛ ولكنّها يوم القيامة تكون خاصّةً بالمتّقين؛ كما

قال تعالي

فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ

[الأعراف: ١٥٦]،

وقوله تعالى:

كَتَبَ رَبُّكُمۡ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَ

[الأنعام: ٥٤]؛

أي: أوجبها على نفسه تفضّلاً وإحسانًا، ولم يوجبها عليه أحد"[8].

قال ابن عثيمين  رحمه الله: "وقوله:

رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا

يدلُّ على أن كلَّ شيء وَصَله علمُ الله، وهو واصل لكلِّ شيء، فإنَّ رحمته وصلت إليه؛ لأن الله قرن بينهما في الحكم.

رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا

وهذه هي الرحمة العامَّة التي تشمل جميع المخلوقات، حتى الكفَّارَ؛ لأن الله قرن الرحمة هذه مع العلم، فكلُّ ما بلغه علمُ الله - وعلمُ الله بالغٌ لكلِّ شيء - فقد بلغته رحمته، فكما يَعلَم الكافرَ، يَرحَم الكافرَ أيضًا؛ لكن رحمته للكافر رحمة جسدية بدنية دنيوية قاصرة غاية القصور بالنسبة لرحمة المؤمن، فالذي يَرزُق الكافر هو الله الذي يَرزُقه بالطعام والشراب واللباس والمسكن والمنكح وغير ذلك. أما المؤمنون، فرحمتهم رحمة أخصُّ من هذه وأعظم؛ لأنها رحمة إيمانية دينية دنيوية؛ ولهذا تجد المؤمن أحسن حالاً من الكافر، حتى في أمور الدنيا؛ لأن الله يقول:

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ

[النحل: 97]،

والحياة الطيِّبة هذه مفقودة بالنسبة للكفَّار، حياتهم كحياة البهائم، إذا شَبِع، راث، وإذا لم يشبع، جلس يصرخ، هكذا هؤلاء الكفَّار إن شبعوا، بَطِروا، وإلا جلسوا يصرخون ولا يستفيدون من دنياهم؛ لكن المؤمن إن أصابته سرَّاءُ، شكر، فهو في خير في هذا وفي هذا، وقلبُه منشرِح مطمئنٌّ متَّفِق مع القضاء والقدر، لا جزع عند البلاء، ولا بطر عند النعماء؛ بل هو متوازن مستقيم معتدل. فهذا فرق ما بين الرحمة هذه وهذه... الآية الثالثة: قوله:

﴿ وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ﱠ

[الأحزاب: 43]

. (ِبالْمُؤْمِنِين) متعلِّق بـ(رحيمًا)، وتقديم المعمول يدلُّ على الحصر، فيكون معنى الآية: وكان بالمؤمنين لا غيرِهم رحيمًا؛ ولكن كيف نجمع بين هذه الآية والتي قبلها: ﱡ

رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا

[غافر: 7]

 نقول: الرحمة التي هنا غير الرحمة التي هناك. هذه رحمةٌ خاصَّة متَّصِلة برحمة الآخرة، لا ينالها الكفَّار، بخلاف الأُولى. هذا هو الجمع بينهما، وإلا، فكلٌّ مرحوم؛ لكنْ فرق بين الرحمة الخاصَّة والرحمة العامَّة[9]

قال ابن القيم  رحمه الله: "إن الرحمن دالٌّ على الصفة القائمة به سبحانه، والرحيم دالٌّ على تعلُّقها بالمرحوم، فكان الأول للوصف، والثاني للفعل، فالأول دالٌّ أن الرحمة صفته، والثاني دالٌّ على أنه يرحم خلقه برحمته، وإذا أردتَ فَهم هذا، فتأمَّل قوله:

﴿ وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾

[الأحزاب: 43]

﴿ إِنَّهُۥ بِهِمۡ رَءُوفٞ رَّحِيمٞﱠ  ﴾

[التوبة: 117]

 ولم يجئ قطُّ (رحمن بهم)، فعُلم أن الرحمن هو الموصوف بالرحمة، ورحيم هو الراحم برحمته[10].

 قال ابن عثيمين  رحمه الله: قوله:

﴿ كَتَبَ رَبُّكُمۡ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَﱠ﴾

[الأنعام: ٥٤]

 (كَتَبَ)؛ بمعنى: أوجب على نفسه الرحمة، فالله عزَّ وجلَّ لكرمه وفضله وجُوده أَوْجَب على نفسه الرحمة، وجَعَل رحمته سابقةً لغضبه؛

وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍﱠ

[فاطر: 45]

 لكن حِلمه ورحمته أوجبت أن يبقى الخلق إلى أجل مسمًّى"[11].

قال ابن القيم  رحمه الله: "فجعلُ صفة الرحمة واسم الرحمة مجازًا كجعلِ صفة الملك والربوبية مجازًا، ولا فرق بينهما في شرع ولا عقل ولا لغة. وإذا أردت أن تعرف بُطلان هذا القول، فانظر إلى ما في الوجود من آثار رحمته الخاصَّة والعامَّة؛ فبرحمته أرسل إلينا رسوله ﷺ وأنزل علينا كتابه، وعصمنا من الجهالة، وهدانا من الضلالة، وبصَّرنا من العمي، وأرشدنا من الغيِّ، وبرحمته عرَّفنا من أسمائه وصفاته وأفعاله ما عَرَفنا به أنه ربُّنا ومولانا، وبرحمته علَّمنا ما لم نكن نعلم، وأرشدنا لمصالح ديننا ودنيانا، وبرحمته أطلع الشمس والقمر، وجعل الليل والنهار، وبسط الأرض وجعلها مهادًا وفراشًا وقرارًا وكِفاتًا للأحياء والأموات، وبرحمته أنشأ السحاب وأمطر المطر، وأطلع الفواكه والأقوات والمرعى، ومن رحمته سخَّر لنا الخيل والإبل والأنعام، وذلَّلها منقادة للركوب والحمل والأكل والدَّرِّ، وبرحمته وضع الرحمة بين عباده ليتراحموا بها، وكذلك بين سائر أنواع الحيوان. فهذا التراحم الذي بينهم بعض آثار الرحمة التي هي صفته ونعمتُه، واشتقَّ لنفسه منها اسم الرحمن الرحيم، وأوصل إلى خلقه معانيَ خطابه برحمته، وبصَّرهم ومكَّن لهم أسباب مصالحهم برحمته، وأوسع المخلوقات عرشه، وأوسع الصفات رحمته، فاستوى على عرشه الذي وَسِع المخلوقات بصفة رحمته التي وسعت كل شيء، ولما استوى على عرشه بهذا الاسم الذي اشتقَّه من صفته وتسمَّى به دون خلقه، كتب بمقتضاه على نفسه يوم استوائه على عرشه حين قضى الخلق كتابًا، فهو عنده وضعه على عرشه أن رحمته سبقت غضبه، وكان هذا الكتاب العظيم الشأن كالعهد منه سبحانه للخليقة كلها بالرحمة لهم، والعفو عنهم، والمغفرة والتجاوز، والستر والإمهال، والحلم والأناة، فكان قيام العالم العلويِّ والسُّفليِّ بمضمون هذا الكتاب الذي لولاه لكان للخلق شأنٌ آخَرُ، وكان عن صفة الرحمة الجنة وسكانها وأعمالها؛ فبرحمته خُلقت، وبرحمته عمِّرت بأهلها، وبرحمته وَصَلوا إليه، وبرحمته طاب عيشهم فيها، وبرحمته احتجبت عن خلقه بالنور، ولو كُشِف ذلك الحجاب لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه. ومن رحمته أنه يعيذ من سخطه برضاه، ومن عقوبته بعفوه، ومن نفسه بنفسه، ومن رحمته أن خلق للذكر من الحيوان أنثى من جنسه، وألقى بينهما المحبة والرحمة ليقع بينهما التواصل الذي به دَوَامُ التناسل وانتفاع الزوجين، ويمتَّع كلُّ واحد منهما بصاحبه، ومن رحمته أحوج الخلق بعضهم إلى بعض لتتمَّ مصالحهم، ولو أغنى بعضهم عن بعض لتعطَّلت مصالحهم وانحلَّ نظامها، وكان من تمام رحمته بهم أن جعل فيهم الغنيَّ والفقير، والعزيز والذليل، والعاجز والقادر، والراعيَ والمرعيَّ، ثم أفقر الجميع إليه، ثم عمَّ الجميع برحمته.

ومن رحمته أن خلق مائة رحمة، كلُّ رحمة منها طِبَاقَ ما بين السماء والأرض، فأنزل منها إلى الأرض رحمة واحدة نشرها بين الخليفة ليتراحموا بها، فبها تعطف الوالدة على ولدها، والطير والوحش والبهائم، وبهذه الرحمة قِوَام العالم ونظامه"[12]

المراجع

  1. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (9/ 213- 214) بتصرف يسير.
  2. "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (9/ 19)
  3. مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للمباركفوري (8/ 78)
  4. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (10/ 432).
  5. شرح النوويِّ على مسلم" (17/ 68).
  6. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (22/ 101، 102).
  7. إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (9/ 19).
  8. "شرح العقيدة الواسطية" لمحمد خليل هرَّاس (ص: 106، 107)
  9. "شرح العقيدة الواسطية" للعثيمين (ص: 248 - 251).
  10. "بدائع الفوائد" لابن القيم (1/ 24).
  11. شرح العقيدة الواسطية" للعثيمين (ص: 251).
  12. "مختصر الصواعق المرسلة" لابن القيم (ص: 481 - 483).


مشاريع الأحاديث الكلية