الفوائد العلمية
1. جَعَل الله تعالى الحياة للإنسان دارَ اختبار، ومن ذلك أنه خلقهم متفاوتين في أرزاقهم؛ فهناك الغنيُّ والفقيرُ وما بينهما، فعلى الغنيِّ الشُّكر، وعلى الفقير الصبر، ودعاهم جميعًا إلى التنافس في طاعته، والتسابُق في ميادين الخير؛
﴿وَسَارِعُوٓا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍۢ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾
﴿خِتَٰمُهُۥ مِسْكٌ ۚ وَفِى ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَٰفِسُونَ﴾
2. في الحديث بيان ما كان عليه الصحابة من التنافس في الخير، فكان هو همَّهم الأوَّل، وهدفَهم الأسمى، فشَمَّروا عن سَواعِد الجِدِّ، وانطلقوا مسارِعين إلى ربِّهم وجنَّة عرضُها السمواتُ والأرض، وقلوبُهم ملأى بالشَّوق إلى الجنَّة، ونفوسُهم تَتُوق إلى رؤية ربِّهم فيها.
3. في الحديث بيان أن الصَّحابةَ – رضوان الله عليهم – كانوا يَحزنون على ما يَتعذَّرُ عَليهم فِعلُه مِنَ الخَيرِ ممَّا يَقدِرُ عليهِ غَيرُهم؛ مثلما حَزِنَ الفُقراء على التَّخلُّف عنِ الخُروجِ في الجِهادِ؛ لِعدمِ القُدرةِ على آلتِه؛
﴿وَلَا عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَآ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ﴾
4. الصدقة في الحديث يَحتمِل تَسْمِيَتَها صدقةً أنَّ لها أجرًا كما للصَّدقة أجرٌ، وأنّ هذه الطّاعاتِ تُماثِل الصّدقاتِ في الأجور، وسمَّاها صدقةً على طريق المقابَلة، وتَجنِيس الكلام، وقيل: معناه أنّها صدقةٌ على نفسه [1].
5. يُطلَق على فَضْلِ اللَّهِ الْوَاصِل منه إلى عباده صَدَقَةٌ منه عليهم، وقد ورد ذلك في أحاديثَ كثيرةٍ عن النبيِّ ﷺ، منها قولُه فِي قَصْرِ الصلاة في السَّفَر:
«صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ»
وقوله:
«مَا مِنَ امْرِئٍ تَكُونُ لَهُ صَلَاةٌ بِلَيْلٍ، فَغَلَبَهُ عَلَيْهَا نَوْمٌ، إِلَّا كُتِبَ لَهُ أَجْرُ صَلَاتِهِ، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ»
وغيرها من الأحاديث.
6. لَمْ يَذْكُرِ النبيُّ ﷺ في شيء من الأحاديث الصَّلاةَ والصِّيامَ والحجَّ والجهادَ أنّه صدقةٌ، وأكثرُ هذه الأعمالِ أفضلُ من الصَّدقات الماليَّة؛ لأنّه إنّما ذُكِر جوابًا لسؤال الفقراء الذين سألوه عمَّا يُقاومُ تطوُّعَ الأغنياء بأموالهم، وأمَّا الفرائضُ، فإنَّهم قد كانوا كلُّهم مشتركين فيها [4].
7. لقد تَكَاثرت النُّصوصُ بتفضيل الذِّكْر على الصَّدقة بالمال وغَيْرِها من الأعمال؛
«أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ، فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»
8. الأمر بالمعروف، والنهيُ عن المنكَر، من أفضل الصدقات؛ لأنَّ به فُضِّلت هذه الأمَّة على العالَمين؛
﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ ۗ ﴾
9.
«وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ» فيه إِشارةٌ إلى ثُبُوت حُكم الصدقة في كُلِّ أمر مِمَّا يُؤمَر فيه بالمعروف وَيُنهى فيه عن المنكر؛ ولهذا نَكَّرَهُ
1. "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 91).
2. رواه مسلم (686).
3. رواه النسائيُّ (1784)، ابن ماجه (1344)، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (601).
4. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 66).
5. رواه أحمد (21702)، والترمذيُّ (3377)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1493).
6. "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 92).
الفوائد العقدية
10. التسبيحُ هو تنزيهُ الله عن النقائص والعيوب والآفات؛ فمعنى (سبحانَ الله)؛ أي: أُنزِّه الله - عزَّ وجلَّ - عن كل نَقْصٍ وعَيب.
11. التحميد: هو الثناءُ على الله - عزَّ وجلَّ - بكلِّ جَميل.
الفوائد الفقهية
12. الصدقةُ تُطلَق على جميع أنواع فعل المعروف والإحسان؛ قال النبيُّ ﷺ: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ» [1].
13. الصَّدَقَةُ بغير المال نوعان؛ أحدهما: ما فيه تَعْدِيةُ الإحسان إلى الخَلْق، فيكون صدقةً عليهم، وربّما كان أفضلَ من الصَّدقة بالمال، وهذا كالأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، فإنّه دعاءٌ إلى طاعة اللّه، وكفٌّ عن معاصيه، وذلك خيرٌ من النّفع بالمال، وكذلك تعليمُ العلم النّافع، وإقراءُ القرآن، وإزالةُ الأذى عن الطَّريق، والسَّعي في جلب النَّفع للنَّاس، ودفعُ الأذى عنهم، وكذلك الدَّعاءُ للمسلمين والاستغفار لهم. النَّوْعُ الثّاني من الصّدقة التي ليست ماليَّةً: ما نَفْعُه قاصرٌ على فاعله؛ كأنواع الذِّكر: من التّكبير، والتّسبيح، والتّحميد، والتّهليل، والاستغفار، وكذلك المشيُ إلى المساجد صَدَقةٌ [2].
14. "الثَّوابُ في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أكثرُ منه في التّسبيح والتّحميد والتّهليل؛ لأنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فرضُ كِفَايةٍ، وقد يتعيَّن، ولا يُتصوَّر وقوعُه نفلًا، والتّسبيحُ والتّحميد والتّهليل نوافلُ، ومعلومٌ أنّ أجرَ الفرض أكثرُ من أجر النَّفل؛ لقوله عزَّ وجلَّ: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ» [3]" [4].
15. قوله: «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ»: فيه دليلٌ على أنَّ المباحاتِ تَصِير طاعاتٍ بالنِّيَّات الصَّادقات؛ فالجماعُ يكون عبادةً إذا نوى به قضاء حقِّ الزَّوجة ومُعاشَرتها بالمعروف الذي أَمَر اللّه تعالى به، أو طَلَبَ ولدٍ صالح، أو إعفافَ نفسِه، أو إعفاف الزَّوجة، ومَنْعَهما جميعًا من النّظر إلى حرام، أو الفِكْرِ فيه، أو الهمِّ به، أو غيرِ ذلك من المقاصد الصَّالحة [5].
16. قَوْلُهُ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَام،ٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ»: فيه جَوَازُ الْقِيَاس، وهو مَذْهَبُ العلماء كَافَّةً، وَلَمْ يُخَالِفْ فيه إِلَّا أَهْلُ الظَّاهر [6].
17. المنقولُ عن التابعين ونَحْوِهم من ذَمِّ القياس، ليس الْمُرادُ به القياسَ الذي يَعتمِده الفُقهاءُ المجتهدون [7].
18. القياسُ المذكور في هذا الحديث هو من قياس العَكس، واختلف الأصولِيُّون في العمل به، وهذا الحديثُ دليلٌ لِمَن عَمِلَ به، وهو الأَصَحُّ [8].
19. في الحديث تنبيهٌ على ما يسمِّيه الفقهاءُ "قياس العكس"، وهو إثباتُ نَقْصِ حُكم الأصل في ضِدِّ الأصل؛ لمفارقة العِلَّة؛ فهنا العِلَّة في كَون الإنسان يؤجَر إذا أتى أهله، هو أنه وَضَع شهوتَه في حلال، نَقِيضُ هذه العلَّة: إذا وَضَعَ شهوته في حرام، فإنه يُعاقَب على ذلك، وهذا هو ما يسمَّى عند العلماء بقياس العكس [9].
20. القياس أنواعٌ، منه: قياسُ عِلَّة، وقياس دلالة، وقياس شَبَه، وقِياس عَكْسٍ [10].
1. رواه البخاريُّ (6021)، ومسلم (1005).
2. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 59).
3. رواه البخاريُّ (6502).
4. "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 92).
5. "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 92).
6. "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 92).
7. "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 92).
8. "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 92).
9. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 165).
10. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 165).
الفوائد التربوية
21. في هذا الحديث فَضِيلةُ التَّسبيح، وسائرِ الأذكار، والأمرِ بالمعروف والنَّهي عن المنكَر، وإحضارُ النّيَّة في المباحات، وذِكْرُ العالِم دليلًا لبعض المسائل التي تخفى، وتنبيهُ الْمُفتي على مختصَر الأدلَّة، وجَوَازُ سؤال المستفتي عن بعض ما يَخفى من الدَّليل إذا عَلِم من حال المسؤول أنّه لا يَكرَه ذلك، ولم يَكن فيه سُوءُ أَدَبٍ [1].
22. انظر إلى الهِمَم العالية من الصحابة - رضي الله عنهم - يَغبِطون إخوانهم بما أَنعَم الله عليهم من الأموال التي يتصدَّقون بها، وليسوا يقولون: عندهم فضولُ أموال؛ يَركَبون بها المراكبَ الفخمة، ويَسكُنون القُصور المشيَّدة، ويَلبَسون الثياب الجميلة؛ ذلك لأنهم قوم يريدون ما هو خيرٌ وأبقى، وهو الآخِرة؛ فهم اشتكَوْا إلى الرسول ﷺ شكوى غِبطة، لا شَكْوى حَسَد، ولا اعْتِراض على الله - عزَّ وجلَّ - ولكن يَطلُبون فضلًا يتميَّزون به عمَّن أغناهم الله، فتصدَّقوا بفضول أموالهم [2].
المراجع
1. "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 93).
2. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 161، 162).
الفوائد اللغوية
23. «أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ»: «مَا تَصَّدَّقُونَ» الرواية فيه بتشديد الصاد والدال جميعًا؛ أي: تَتَصَدَّقُونَ بإدغام التاء الثانية في الصاد، وَيَجُوزُ فِي اللُّغَةِ تَخْفِيفُ الصَّادِ (تَصَدَّقُونَ)؛ أي: تَتَصَدَّقُونَ بحذف إحدى التاءين.
24. قوله: «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ»: يُطلَق البُضْعُ على الْجِمَاعِ، وَيُطْلَقُ على الْفَرْجِ نفسِه، وكلاهما تَصِحُّ إِرَادَتُه هنا [1].
1. "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 92).