عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضي اللَّه عنهمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ»



فقهٌ

يجوزُ للإنسان أن يتصرَّف في جزءٍ مِن ترِكتِه والوصيةُ بجُزءٍ منها، بشرطِ ألا يتعدَّى الثُّلُثَ، وألَّا تكون تلك الوصيةُ لوارثٍ؛

لقوله ﷺ:

«إِنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ زِيَادَةً لَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ»

[1]،

وقوله ﷺ:

«إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ أَعْطَى لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»

[2].

فربَّما أراد الرجلُ أن يُوصي بشيءٍ مِن ماله لِذَوي القُربى ممن لا يَرِثونه، أو أراد الصدقةَ من ماله.

ولذلك يَندُب النبيُّ ﷺ كلَّ مَن أراد أن يُوصي بشيءٍ من ماله أن يبادِر بكتابة وَصيتِه، فلا تمرُّ عليه ليلةٌ أو ليلتانِ إلا ووصيتُه مكتوبةٌ عنده؛ فإنه لا يَدري ربما يأتيه الموتُ فجأةً فيَحُول بينه وبين ما أراد. وقد خصَّ السَّلَفُ ذلك النَّدب إلى المسارعة بالمريض ومَن شارَف على الموت، وإنما لم يَأتِ ذلك التخصيصُ في الحديثِ لاطِّراد العادةِ بذلك [3].

على أنَّ حكم الوصيةِ في الأصل مختلَفٌ باختلاف المُوصَى به؛ فقد تكون واجبةً، وذلك حين يكون على المُوصِي دَينٌ لا يَعلمه الورثة، لا سِيَّما إذا لم يكن للدائن بيِّنةٌ عليه؛ فإنه لو لم يُوصِ بذلك لَضاع حقُّ الدَّائن. وقد تكون محرَّمةً إذا كانت وصيةً بشيءٍ حرام؛ كالوصية بالمعصية، وكالوصيةِ للوارث. وقد تكونُ مَندوبةً إذا كانت على جِهات الخير والإنفاق في سبيل الله تعالى أو لذوي القُربى من غير الوارثين.

اتباعٌ

  1. على المسلِم أن يتذكَّر الموتَ دائمًا، وأن يَجعله نُصْب عينه، فيَعمَل لهذا الوقت ولا يَنشغِل عنه بملذَّات الدنيا وشَهواتها. قال الحسن رحمه الله: المَوْتُ معقودٌ في نَوَاصِيكم، والدنيا تُطوى من ورائكم [4].

  2. استأثَر اللهُ سبحانه بتقسيم المواريث بنفسه، فلا يجوز لمسلمٍ أن يُنازعَ ربَّه فيها، أو يظنُّ أنَّ قِسمتَه خيرٌ من قسمةِ أحكمِ الحاكمِين.

  3. تفضَّل اللهُ سبحانه على عِباده بثُلث أموالهم يتصرَّفون فيها بالوصايا كيْف شاؤوا، فالكَيِّسُ مَن استغلَّ ذلك الفضلَ في مَرضاةِ الله تعالى وطاعتِه، وصَرَف ذلك القدْر َفي سبيلِه.

  4. يَنبغي للمسلم أن يبادِر بكتابة وَصيتِه – إن كان له شيءٌ يحِب أن يوصِي به – قبل أن تُنسِيه الدنيا أو يُقعِدَه المرضُ أو يَفجَأَه الموتُ. وقد بادَر إلى ذلك الصحابةُ رضوانُ الله عليهم، فابنُ عُمر رضي الله عنهما راوي الحديث يقول:

    «مَا مَرَّتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ إِلَّا وَعِنْدِي وَصِيَّتِي»

    [5].

  5. ليس معنى جوازِ التصدُّق والوصيةِ بالثُّلث أنَّه لا يجوزُ غيرُه، أو أنَّ أفضلَ الوصيةِ الوصيةُ بالثُّلث، بل إنَّ الأفضلَ للمسلِم أن يَترُك ورثته أغنياءَ لا يحتاجون شيئًا من النَّاس،

    ولهذا قال النبي ﷺ لسَعدِ بن أبي وقَّاص رضي الله عنه حين أراد الوصية بنصف ماله:

    «فَالثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ؛ إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فِي أَيْدِيهِمْ»

    [6].

    ولهذا كان ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما يقول: لو أنَّ النَّاس عَدَلوا من الثُّلث إلى الرُّبع، وأوصى أبو بَكرٍ الصدِّيقُ رضي الله عنه بخُمس ماله، وقال: أرْضى لنفسي ما رَضِيه اللهُ تعالى لنفسِه؛ يُريد قوله تعالى:

    {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}

    [الأنفال: 41].

  6. يَنبغي لطلبةِ العلمِ ومَن يكتبون للناس وَصاياهم أن يُبَيِّنوا لهم أنَّ الأمرَ مُتفاوتٌ؛ فإذا كان الوَرَثةُ فقراء محتاجِين إلى المال فالأفضل عدمُ الوصية، وإن كانوا مُوسِرين استُحِبَّ له الوصيةُ بالثلث أو أقلَّ، بحسَب حالة الورثة.

  7. قال الشاعر:

نَسِيرُ إِلَى الْآجَالِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ = وَأَيَّامُنَا تُطْوَى وَهُنَّ مَرَاحِلُ

وَلَمْ أَرَ مِثْلَ الْمَوْتِ حَقًّا كَأَنَّهُ = إِذَا مَا تَخَطَّتْهُ الْأَمَانِيُّ بَاطِلُ

وَمَا أَقْبَحَ التَّفْرِيطَ فِي زَمَنِ الصِّبَا = فَكَيْفَ بِهِ وَالشَّيْبُ لِلرَّأْسِ شَامِلُ؟!

تَرَحَّلْ مِنَ الدُّنْيَا بِزَادٍ مِنَ التُّقَى = فَعُمْرُكَ أَيَّامٌ وَهُنَّ قَلَائِلُ

8. وقال غيره:

أَمْوالُنا لِذَوِي المِيراثِ نَجمَعُها = ودَارُنا لخَرَابِ البُومِ نَبنِيها

لا دارَ لِلمَرْءِ بعْدَ الْمَوْتِ يَسْكُنُها = إلَّا الَّتِي كَانَ قَبْلَ الْمَوْتِ يَبْنِيها

فمَنْ بَنَاهَا بخَيْرٍ طَابَ مَسْكَنُهُ = ومَنْ بَنَاهَا بِشَرٍّ خَابَ بَانِيها


المراجع

1. رواه ابن ماجه برقم: (2709).

2. رواه أبو داود (2870)، والترمذي (2120)، وابن ماجه (2713).

3. "فتح الباري" لابن حجر (5/ 360).

4.  "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 382).

5. رواه مسلم (1627).

6.  رواه البخاري (2742)، ومسلم (1628).




مشاريع الأحاديث الكلية