عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضي اللَّه عنهمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ»
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضي اللَّه عنهمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ»
في تشريع الوصية رحمة ولُطف بالعباد؛ ففيها تذكيرٌ دائم بالموت، والاستعداد له، ومن ثَمَّ الحرص على تأدية الحقوق، أو الإيصاء بتأديتها بعد الموت، وكذلك الإيصاء بأعمال البِرِّ التي تَعُود على الناس بالخيرِ، وتَعود على الموصي بالأجْرِ والثَّوابِ.
في الحديث الحثُّ على الْمُبادَرة بكتابة الوصية قبل مُباغتة الموت.
في الحديث بيان أنَّه لا ينبغي للمسلم - رجُلًا كان أو امرأةً - ولا يحقُّ له إذا كان يمتلك شَيئًا يُوصِي فيه من الأموالِ ونحوها، أو عليه من الحقوق والديون، أو فرَّط في شيء من الكفَّارات والزَّكواتِ، وهَلُمَّ جرًّا، أنْ تَمضِيَ عليه لَيلتانِ أو أكثرُ إلَّا ووَصيَّتُه بما يتطلَّب الإيصاءَ به مَكتوبةٌ ومَحفوظةٌ عِندَه، فإذا وصَّى بذلك، أُخرِجَت الدِّيونُ مِن رَأسِ المالِ، وأُخرِجَ غيرُها مِن ثُلثِ التَّرِكة.
الوصيةُ معناها: العَهد، وهي أن يَعهَد الإنسانُ بعد موته لشخص في تصريف شيء من ماله، أو بالنظر على أولاده الصغار، أو يَعهَد لشخص في أيِّ شيء من الأعمال التي يَملِكها بعد موته، فيُوصي به؛ مِثْلُ أن يَكتُب الرجل: وصيَّتي إلى فلان بن فلان، بالنظر على أولادي الصغار، ووصيَّتي إلى فلان بن فلان بتفريق ثُلث مالي أو رُبعه أو خُمُسه في سبيل الله. وصيَّتي إلى فلان في أن ينتفع بما خلَّفت من عقار أو غيره، أو ما أشبه ذلك؛ فالوصيةُ: عهدُ الإنسان بعد موته إلى شخص بشيء يَملِكه [1].
في الحديث أن الحَزْم والاحتياط للمسلم أن تكون وصيَّتُه مكتوبةً عنده، ويُستحبُّ تعجيلُها، وأن يَكتُبها في صحَّتِه، ويُشهِدَ عليه فيها، ويَكتُب فيها ما يحتاج إليه، فإن تجدَّد له أمرٌ يحتاج إلى الوصيَّة به، ألحقه بها. قالوا: ولا يُكلَّف أن يَكتُب كلَّ يوم محقَّرات المعاملات، وجُزئيَّات الأمور المتكرِّرة [2].
في قوله: «عنده» إشارةٌ إلى أنه ينبغي أن يحتفظ الإنسان بالوصية والوثائق عامَّةً، وألَّا يسلِّط عليها أحدًا؛ بل تكون عنده في شيء محفوظ محرَّز؛ كالصندوق وغيره؛ لأنه إذا أهملها، فربَّما تضيع منه، أو يسلَّط عليها أحد يَأخُذها ويُتلِفها، أو ما أَشبَه ذلك [3].
عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي اللَّه عنه، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ بَلَغَ بِي مِنَ الوَجَعِ وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلاَ يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: «لاَ» فَقُلْتُ: بِالشَّطْرِ؟ فَقَالَ: «لاَ» ثُمَّ قَالَ: «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَبِيرٌ - أَوْ كَثِيرٌ - إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ»
[4].
1. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 460، 461).
2. "شرح النوويِّ على مسلم" (11/ 74).
3. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 465).
4. رواه البخاريُّ (1295)، ومسلم (1628).
8. في الحديث الحثُّ على الوصيَّة، وقد أجمع المسلمون على الأمر بها؛ لكنَّ مذهب الجماهير أنّها مندوبةٌ لا واجبة، وقال داود وغيره من أهل الظّاهر: هي واجبةٌ؛ لهذا الحديث، ولا دلالةَ لهم فيه؛ فليس فيه تصريح بإيجابها؛ لكن إن كان على الإنسان دَيْنٌ أو حقٌّ، أو عنده وَدِيعة ونحوُها، لَزِمه الإيصاء بذلك [1].
9. حكى ابنُ الْمُنذِر الإجماعَ على أن وصيَّة الكافر جائزةٌ في الجُمْلة، وقد بحث فيه السُّبكيُّ من جهة أنّ الوصيَّةَ شُرِعت زيادةً في العمل الصّالح، والكافرُ لا عَمل له بعدَ الموت، وأجاب بأنّهم نظروا إلى أنّ الوصيّة كالإعتاق، وهو يصحُّ من الذِّمِّيِّ والحربيِّ [2].
10. في الحديث أنَّ الأشياءَ المهمَّةَ ينبغي أنْ تُضبَطَ بالكتابة؛ لأنَّها أثبَتُ من الضَّبطِ بالحِفظ، وأقوى في الاستدلال.
11. ذهب الجمهور إلى أن الوصية لا يُعمَل بها، ولا تَنفَع إلَّا إذا كان أَشهَد عليه بها، لا أنّه يَقتصِر على الكتابة دون إشهاد. وقال الإمام محمّدُ بنُ نصرٍ الْمَرْوَزيُّ: يكفي الكتابُ من غير إشهاد؛ لظاهر الحديث [3]. وقال القرطبيُّ: ذكر الكتابة مبالغة في زيادة التّوثُّق، وإلّا فالوصيَّةُ المشهود بها متَّفق عليها ولو لم تكن مكتوبةً [4].
12. تنقسم الوصية إلى أقسام: منها واجبة، ومنها محرَّمة، ومنها مباحة.
13. الوصية الواجبة: هي أن يُوصِيَ الإنسان بما عليه من الحقوق الواجبة؛ لئلَّا يَجحَدها الوَرَثة، لا سيَّما إذا لم يكن عليها بيِّنة؛ كأن يكون على الإنسان دَيْنٌ أو حقٌّ لغيره، فيجب أن يُوصيَ به، لا سيَّما إذا لم يكن فيه بيِّنة؛ لأنه إذا لم يوصِ به، فإن الورثة قد يُنكِرونه، والورثة لا يُلزَمون أن يصدِّقوا كلَّ من جاء من الناس وقال: إن لي على ميِّتِكم كذا وكذا، لا يَلزَمهم أن يصدِّقوا، فإذا لم يوصِ الميِّت بذلك، فإنه ربما يكون ضائعًا، فمن عليه دَيْنٌ؛ يعني: حقٌّ في ذمَّته لأحد، فإنه يجب عليه أن يوصيَ به [5].
14. ذهب كثيرٌ من أهل العلم، أن الإنسان يجب أن يُوصيَ إذا كان عنده مالٌ كثيرٌ بما تيسَّر لأقاربه غير الوارثين، أما الوارثُ، فلا يجوز أن يوصى لهم؛
لقول الله تعالى:
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلْأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ ۖ }
[البقرة: 180]،
فخرج من ذلك، من الوالدين والأقربين من كانوا ورثةً؛ فإن الورثة لا يُوصى لهم، وبَقِيت الآيةُ مُحكَمةً فيما عدا الوارثين [6].
15. الوصيَّة المحرَّمة: إذا أوصى لأحد من الورثة؛ فالوصيةُ للوارث لا تجوز مُطلَقًا، فإن قدِّر أن أحدًا كان جاهلًا، وأوصى لأحد الورثة بشيء، فإنه يُرجَع إلى الورثة بعد موته، إن شاؤوا نفَّذوا الوصية، وإن شاؤوا ردُّوها [7].
16. الوصية المباحة: هي أن يوصيَ الإنسان بشيء من ماله لا يتجاوز الثُّلث؛ لأن تجاوُزَ الثُّلث ممنوع؛ لكن ما دون الثُّلث فهو حرٌّ فيه، وله أن يوصيَ فيه لمن شاء إلا الورثةَ [8].
17. لا يجوز الزيادة على ثُلث التركة في الوصية، وما دون الثُّلث كالرُّبع والخُمس فهو أفضلُ. لذا؛
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -:
لو أن الناس غضُّوا من الثُّلث إلى الربع، فإن النبيَّ ﷺ قال لسعدِ بن أبي وقَّاص: «الثُّلث والثُّلث كثير»
[9]،
وكان أبو بكر - رضي الله عنه - أوصى بخُمس ماله، وقال: أرضى بما رضيَ الله لنفسه الخُمس، فأوصى بخُمس ماله؛ وهذا أحسن ما يكون [10].
18. إذا كان الورثة محتاجين، فتركُ الوصية أولى، هم أحقُّ من غيرهم؛
قال النبيُّ ﷺ:
«إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ»
[11].
فإذا كان الورثةُ الذين يَرِثونك تَعرِف أن حالهم وَسَطٌ والمالُ شَحيحٌ عندهم، وأنهم إلى الفقر أقربُ، فالأفضلُ ألَّا توصِيَ [12].
19. نَسَب ابن عبد البرِّ القول بعدم وجوب الوصية إلى الإجماع سوى من شذَّ، وقال بوجوب الوصية الزُّهْريُّ وأبو مِجْلَز وعطاء وطلحةُ بنُ مصرِّف في آخرين، وحكاه البيهقيُّ عن الشّافعيِّ في القديم، وبه قال إسحاق وداودُ، واختاره أبو عوانة الإسفرايينيِّ وابن جرير وآخرون [13].
20. في الحديث العملُ بالكتابة؛
لقوله ﷺ:
«إلا ووصيته مكتوبة عنده»،
فدلَّ هذا على وجوب العمل بالكتابة. وفي قوله: «مكتوبة» اسم مفعول إشارة إلى أنه لا فرق بين أن يكون هو الكاتبَ أو غيرَه ممن تَثبُت الوصية بكتابته، فلا بدَّ أن تكون الكتابة معلومةً، إما بخطِّ الموصي نفسِه، أو بخطِّ شخص معتمَد، وأما إذا كانت بخطٍّ مجهول، فلا عبرةَ بها، ولا عَمَلَ عليها [14].
21. الجمهور على أنّ الوصيّة غير واجبة لعَيْنها، وأنّ الواجب لعَينه الخروجُ من الحقوق الواجبة للغير، سواء كانت بأداء أو وصيَّة، ومحلُّ وجوب الوصيّة إنّما هو فيما إذا كان عاجزًا عن أداء ما عليه، وكان لم يعلم بذلك غيره ممَّن يَثبُت الحقُّ بشهادته، فأمّا إذا كان قادرًا أو عَلم بها غيره، فلا وجوب [15].
22. الوصيّة قد تكون واجبةً، وقد تكون مندوبةً فيمن رجا منها كثرة الأجر، ومكروهةً في عكسه، ومباحةً فيمن استوى الأمران فيه، ومحرَّمةً فيما إذا كان فيها إضرارٌ؛ كما ثبت عن ابن عبّاس: الإضرار في الوصيّة من الكبائر، رواه سعيد بن منصور موقوفًا بإسناد صحيح، ورواه النّسائيُّ، ورجاله ثقات [16].
1. "شرح النوويِّ على مسلم" (11/ 74).
2. "فتح الباري" لابن حجر (5/ 357).
3. "شرح النوويِّ على مسلم" (11/ 74 - 76).
4. "فتح الباري" لابن حجر (5/ 359).
5. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 461).
6. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 461، 462).
7. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 462، 463).
8. شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 463).
9. رواه البخاريُّ (1295)، ومسلم (1628).
10. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 463).
11. رواه البخاريُّ (1295)، ومسلم (1628).
12. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 463، 464).
13. "فتح الباري" لابن حجر (5/ 358).
14. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 464، 465).
15. "فتح الباري" لابن حجر (5/ 359).
16. "فتح الباري" لابن حجر (5/ 359).
23. في الحديث سرعةُ امتثال الصحابة لأمر النبيِّ ﷺ،
لذا؛ قال ابن عمر - رضي الله عنهما - بعد ما سمع هذا الحديث من النبيِّ ﷺ:
(مَا مَرَّتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ ذَلِكَ إِلَّا وَعِنْدِي وَصِيَّتِي)
[1].
1. رواه مسلم (1627).
24. لابْنِ عُمَرَ فِي "مُسنَدِ بَقِيٍّ" ألفان وسِتُّمائةٍ وثلاثون حديثًا بالمكرَّر، وَاتَّفَقا له على مِائةٍ وثمانيةٍ وسِتِّين حديثًا، وانْفَرد له البخاريُّ بأَحَدٍ وثمانين حديثًا، ومسلمٌ بأحد وثلاثين [1].
25. قوله: «ليلتين» كذا لأكثر الرّواة، ولأبي عوانة والبيهقيِّ من طريق حمّاد بن زيد عن أيّوبَ: «يبيت ليلةً أو ليلتين»، ولمسلم والنّسائيِّ من طريق الزُّهْريِّ عن سالم عن أبيه: «يبيت ثلاث ليال»، وكأنّ ذكر اللّيلتين والثّلاث لرفع الحرج؛ لتزاحُم أشغال المرء الّتي يحتاج إلى ذكرها، ففسح له هذا القدر ليتذكَّر ما يحتاج إليه، واختلاف الرّوايات فيه دالٌّ على أنه للتقريب لا التَّحديد، والمعنى: لا يمضي عليه زمان وإن كان قليلًا إلّا ووصيّته مكتوبة، وفيه إشارة إلى اغتفار الزّمن اليسير، وكأنّ الثّلاث غاية للتّأخير؛ ولذلك قال ابن عمر في رواية سالم المذكورة: لم أبت ليلةً منذ سمعتُ رسول اللّه ﷺ يقول ذلك إلّا ووصيَّتي عندي. قال الطِّيبيُّ في تخصيص اللّيلتين والثّلاث بالذّكر: تسامح في إرادة المبالغة؛ أي: لا ينبغي أن يبيت زمانًا ما، وقد سامحناه في اللّيلتين والثّلاث، فلا ينبغي له أن يتجاوز ذلك [2].
26. قولُه: «ما حقُّ امرئٍ مسلم»: كذا في أكثر الرّوايات، وسقط لفظ (مسلم) من رواية أحمد عن إسحاق بن عيسى عن مالك، والوصفُ بالمسلم خَرَج مَخرَج الغالب، فلا مفهومَ له، أو ذُكِر للتَّهْيِيج لتقع المبادرة لامتثاله؛ لِما يَشعُر به من نفيِ الإسلام عن تارك ذلك [3].
1. "سير أعلام النبلاء" للذهبيِّ (4/ 303).
2. "فتح الباري" لابن حجر (5/ 357، 358).
3. "فتح الباري" لابن حجر (5/ 357).
27. "الوصيَّة: مشتقَّة من وَصَيْتُ الشَّيْءَ أُوصِيه إذا وَصَلْتُه، وسُمِّيت وصيةً؛ لأنه وَصَل ما كان في حياته بما بَعْدَه، ويُقال: وصَّى وأَوْصى إيصاءً، والاسمُ الوصية والوَصاة" [1].
28. قوله: «يبيت»: كأنَّ فيه حذفًا، تقديرُه: (أن يبيت)، ويجوز أن يكون (يبيت) صفةً لمسلم، وقولُه: «يوصي فيه» صفةُ (شيء).
1. "شرح النوويِّ على مسلم" (11/ 74).