الفوائد العلمية
1. جِمَاع آداب الخير يتفرَّع من أربعة أحاديثَ، هي: قول النبيِّ ﷺ:
«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمُت»
وقوله ﷺ:
«من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»
وقوله ﷺ للذي اختصر له الوصية: «لا تغضب»، وقوله ﷺ:
«لا يؤمن أحدكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه»[1].
2. في الحديث يُرشد النبيُّ ﷺ إلى بعض خصال الخير، التي تَزيد من إيمان العبد، وتَرفع درجته، ويَكمُل بها إيمانه، ويَستقيم بها حاله، وهي من جملة الآداب والأخلاق الإسلامية.
3. أقسم النبيُّ ﷺ ثلاثًا على عدم كمال إيمان من يُؤذي جاره؛ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:
«وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ» قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الَّذِي لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ»[2].
4. يَحصُل امتثال الوصيَّة بالجار بإيصال ضُروب الإحسان إليه بحسَب الطاقة؛ كالهدية والسلام وطلاقة الوجه عند لقائه، وتفقُّد حاله، ومعاونته فيما يحتاج إليه، إلى غير ذلك، وكفِّ أسباب الأذى عنه على اختلاف أنواعه، حسِّيةً كانت أو معنويةً[3].
5. في الحديث أن من كمال إيمان المؤمن إكرامَ الضيف يومًا وليلة، وهي جائزة الضَّيف، وهديَّة الْمُضيف وعطيَّته له.
6. في الحديث أن كمال الضيافة ثلاثة أيام، وما زاد على ذلك فهو صَدَقة من الْمُضيف على ضَيفه.
7. في الحديث بيان أن القيام بحقِّ الضيافة من أخلاق المؤمنين، ومما لا ينبغي لهم أن يتخلَّفوا عنها؛ لِمَا يَحصُل عليها من الثواب في الآخرة، ولِمَا يترتَّب عليها في الدنيا من إظهار العمل بمكارم الأخلاق، وحُسن الأحدوثة الطيِّبة، وطِيب الثناء، وحصول الرَّاحة للضَّيف المتعوب بمشقَّات السَّفر، المحتاج إلى ما يخفِّف عليه ما هو فيه من المشقَّة والحاجة[4].
8. لم تزل الضيافة معمولًا بها في العرب من لَدُنْ إبراهيمَ ﷺ؛ لأنَّه أول من ضَيَّف الضَّيف، وعادة مستمِرَّة فيهم، حتى إنَّ من تركها يُذَمُّ عُرْفًا، ويُبَخَّلُ ويُقَبَّحُ عليه عادة، فنحن وإن لَمْ نقل: إنَّها واجبة شرعًا، فهي متعيِّنة؛ لِمَا يحصل منها من المصالح، ويندفع بها من الْمَضَارِّ عادَةً وعُرفًا[5].
9. في الحديث إشارة إلى أن الصمت نجاةٌ للعبد من المهالك، ويشهد له حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ ﷺ:
10. في الحديث إشارة إلى أن الواجب على المسلم أن يعمِّر وقته وحياته في الطاعات، ولا ينشغِل بغير ذكر الله - عزَّ وجلَّ - حتى لا يتحسَّر على ما فاته يومَ القيامة.
11. قال بعض السَّلَف: يُعرَض على ابن آدم يومَ القيامة ساعاتُ عُمُره، فكلُّ ساعة لم يَذكُر الله فيها، تتقطَّع نفسُه عليها حسرات، فمن هنا يُعلَم أن ما ليس بخير من الكلام، فالسكوتُ عنه أفضلُ من التكلُّم به، اللهمَّ إلَّا ما تدعو إليه الحاجة مما لابدَّ منه[7].
12. كان إكرام الضيف مما استدلَّت به أمُّ المؤمنين خديجةُ - رضي الله عنها - من أخلاق النبيِّ ﷺ عندما قال النبيُّ ﷺ لها:
«لقد خَشِيتُ على نفْسي»، فقالت: كلا، واللهِ ما يُخزيكَ الله أبدًا؛ إنك لَتَصِل الرحمَ، وتَحمِل الكَلَّ، وتَكسِب المعدومَ، وتَقْري الضيفَ، وتُعِين على نوائب الحقِّ[8].
13. عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّه عنهمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ»[9].
14. الجيرانُ ثلاثة: كافرٌ، فله حقُّ الجِوَار، ومسلمٌ أجنبيٌّ، فله حقُّ الجِوار، وحقُّ الإسلام، ومسلمٌ قريبٌ، فله حقُّ الجِوار، وحقُّ الإسلام، وحقُّ القَرابة[10].
15. كلَّما كان الجارُ أقربَ بابًا، كان آكَدَ حقًّا، فينبغي للجار أن يتعاهَدَ جارَه بالهَدية والصَّدَقة والدعوة واللطافة بالأقوال والأفعال، وعدم أذيَّته بقول أو فعل[11].
16. أوصى الله عزَّ وجلَّ بالجار في كتابه الكريم؛ فقال سبحانه:
{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ}
أي: الجار القريب والجار الذي ليس له قَرَابةٌ.
17. قال الحسن البصريُّ: "ليس حُسْنُ الجِوار كفَّ الأذى، ولكنْ حُسْنُ الجوار احتمالُ الأذى[12].
18. اسم الجار يَشمَل المسلم والكافر، والعابد والفاسق، والصّديق والعدوَّ، والغريب والبلديَّ، والنّافع والضّارَّ، والقريب والأجنبيَّ، والأقربَ دارًا والأبعد، وله مراتبُ بعضها أعلى من بعض، فأعلاها من اجتمعت فيه الصّفات الأُوَل كلُّها، ثمّ أكثرها، وهلمَّ جرًّا، إلى الواحد، وعكسُه من اجتمعت فيه الصّفات الأخرى كذلك، فيُعطى كلٌّ حقَّه بحسَبِ حاله[13].
المراجع
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 19).
- رواه البخاريُّ (6016).
- "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (10/ 442).
- "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" للقرطبيِّ (5/ 197).
- "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" للقرطبيِّ (5/ 197).
- رواه أحمد (6481) والترمذيُّ (2501)، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2874).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 338).
- رواه البخاريُّ (3).
- رواه البخاريُّ (6015)، ومسلم (2625).
- "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (1/ 228)، "التعيين في شرح الأربعين" لسليمان بن عبد القويِّ (1/ 136) بتصرُّف.
- "تفسير السعديِّ" (ص: 178).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبليِّ (1/ 353).
- "فتح الباري" لابن حجر (10/ 442).
الفوائد العقدية
19. قَوْلُهُ ﷺ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» فليفعل كذا وكذا، يدلُّ على أنّ هذه الخصال من خصال الإيمان، والأعمال تدخل في الإيمان[1].
20. الإيمانُ يَزيد ويَنقُص، يَزيد بالطاعة ويَنقُص بالمعصية؛ قال تعالى:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}
وقال تعالى:
{وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا}
21. ليس المقصود من الحديث نفيَ الإيمان عمَّن لم يتَّصِف بالصفات الثلاث المذكورة في الحديث؛ وإنما أُريد به المبالغة، كما يقول القائل: إن كنتَ ابني فأَطِعْني؛ تهييجًا له على الطاعة، لا أنه بانتفاء طاعته ينتفي كونُه ابنَه؛ فالمقصود أنّ هذه الخصال من كمال الإيمان، ومن جُملة خصال الإيمان الواجبة، فإذا زال ذلك عنه، فقد نَقَص إيمانه بذلك.
22. أعمال الإيمان تارةً تتعلَّق بحقوق اللّه؛ كأداء الواجبات وترك المحرَّمات، ومن ذلك قولُ الخير، والصّمت عن غيره، وتارةً تتعلَّق بحقوق عباده؛ كإكرام الضّيف، وإكرام الجار، والكفِّ عن أذاه، فهذه ثلاثة أشياءَ يؤمر بها المؤمن[2].
المراجع
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 333).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 333).
الفوائد الفقهية
23. في الحديث بيان أنه على المسلم إذا أراد أن يتكلَّم، فإن كان ما يتكلَّم به خيرًا محقَّقًا، يُثاب عليه، واجبًا أو مندوبًا، فليتكلَّم، وإن لم يَظهَر له أنه خيرٌ يُثاب عليه، فليُمسِكْ عن الكلام، سواءٌ ظَهَر له أنه حرامٌ أو مكروه، أو مباحٌ مستوي الطَّرفينِ، فعلى هذا يكون الكلام المباح مأمورًا بتركه، مندوبًا إلى الإمساك عنه؛ مخافةَ انجراره إلى المحرَّم أو المكروه، وهذا يقع في العادة كثيرًا أو غالبًا، وقد قال الله تعالى:
{ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }
24. السكوت غنيمةٌ إذا كان الكلام مُفْضِيًا إلى معصية أو إثم محقَّق، فلربما كلمة ارتقت بصاحبها في درجات الجنة، وأخرى أَوْدَت بصاحبها إلى دركات النار؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:
«إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ»[2].
25. الجارُ مأمورٌ بالإحسان إلى جاره، وكذلك مأمورٌ بكفِّ الأذى عنه، وتَحرُم أذيَّتُه لجاره تحريمًا أشدَّ من تحريم أذى المسلمين مُطلقًا.
المراجع
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 19).
- رواه البخاريُّ (6478)، ومسلم (2988).
الفوائد التربوية
26. اشتمل الحديث على أمور ثلاثة، تَجمَع مكارم الأخلاق الفعلية والقولية، وهذا الحديث من جوامع الكلم؛ لأن القول كلَّه إمَّا خيرٌ، وإما شرٌّ، وإمَّا آيِلٌ إلى أحدهما، فدَخَل في الخير كلُّ مطلوب من الأقوال، فرضِها ونَدْبِها، فأَذِن فيه على اختلاف أنواعه، ودَخَل فيه ما يؤول إليه، وما عدا ذلك مما هو شرٌّ أو يَؤُول إلى الشرِّ، فأمر عند إرادة الخوض فيه بالصمت[1].
المراجع
- "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (10/ 446).