133 - حسابُ الحَسَناتِ والسَّيِّئات

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنْ رَسُولِ اللهِ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، قَالَ: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا، كَتَبَهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا، كَتَبَهَا اللهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً».


عناصر الشرح

غريب الحديث

هَمَّ: أَرَادَ وقَصَد، والهمُّ بالشيء: القَصْدُ إليه بالقَلْبِ، والعَزْمُ على فعله.

كَتَبها الله: أَمَر الحفَظَةَ بكتابتها.

المعنى الإجماليُّ للحديث

روى ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، قَالَ: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ»؛ أي: قدَّر الحسناتِ والسيِّئات. «ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ»؛ أي: ثم وضَّح أمر الكتابة، وكَشَفَ اللَّبْسَ عنها، وفصَّل حُكْمها، فلا حاجة إلى الاستفسار في كلِّ وقت عن كيفية الكتابة؛ لكونه أمرًا مفروغًا منه. «فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً»؛ أي: فمن قَصَد حسنةً، وحدَّث نَفسَه بها، وعَقَد العَزْمَ عليها؛ ولكنه لم يعملها لعائقٍ حالَ بينه وبين فعلها، كَتَبها الله له حسنةً كاملة. «وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا، كَتَبَهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ»؛ أي: إن قَصَدها وعَمِلها، فإن الله يَكْتُبها عشْرَ حسناتٍ، إلى سبعمائة ضِعف، إلى أضعاف كثيرة. «وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً»؛ أي: وإن قَصَد إلى فعل سيِّئة فتركها لله، كتَبَها الله عنده حسنةً كاملة. «وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا، كَتَبَهَا اللهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً»؛ أي: وإن عَمِلها، كَتَبها الله سيِّئةً واحدة.

الشرح المفصَّل للحديث

إن أفعالَ الله تعالى تَدُور بين الفضل والعَدْل، فما كتبه الله تعالى وقدَّره في هذه الحياة الدنيا، وكلُّ ما في الدنيا والآخرة، هو دائرٌ بين فضل الله وعَدْلِه؛ فرحمةُ الله تعالى فضلٌ، وتعذيبُه للعاصين عَدْلٌ، وقد أخبر سبحانه أن رحمتَه سَبَقت غضبه، وأن رحمته وَسِعَتْ كلَّ شيء، وأَمَرَنا أن نسأله من فضله وعطائه الجزيل.

وقد خَلَق الله تعالى الخَلْقَ لغايات عظيمة، وحِكَم جليلة، من أجلِّها عبادةُ الله عزَّ وجلَّ وتوحيده؛

قال تعالى:

{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}

[الذاريات: 56]،

وقال تعالى:

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}

[الأنبياء: 25]،

والإنسانُ مأمورٌ بمعرفة الله، وتوحيده، وعبادته، وأَوْدَع اللهُ في كلِّ إنسان خَلَقَه القُدرةَ على فعل الخير والشرِّ؛

قال تعالى:

{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}

[البلد: 10]؛

أي: دَلَلْناه على طريق الخير وطريق الشرِّ، وتَركْنا له حرية الاختيار بينهما،

وقال تعالى:

{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا 7 فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}

[الشمس: 7-8]

أي: بيَّن لها الخير والشرَّ، وهداها لما قُدِّر لها، ثم أرسل الرُّسل، وأنزل الكتب؛ حتى يستقيم الإنسان على عبادته، فيَحُوز خيرَيِ الدنيا والآخرة.

وفي هذا الحديث القدسيِّ الشريف يروي رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، قَالَ:

«إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا، كَتَبَهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا، كَتَبَهَا اللهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً».

فقد بَيَّن الحديثُ مقدارَ تفضُّل الله على عباده، بأن جَعَلَ همَّ العبدِ بالحسنة، وإن لم يَعمَلها، حسنةً، وجعل همَّه بالسيِّئةِ، إن لم يَعمَلها، حسنةً، وإن عَمِلها كُتِبت سيِّئةً واحدة، وإن عَمِل الحسنةَ كُتِبت عَشْرًا، وربما تضاعفت إلى أكثرَ من سبعمائة ضعف.

 ولولا هذا التفضُّلُ العظيم من الله تعالى على عباده المؤمنين، لم يَدخُلِ أحدٌ الجنَّة؛ لأن السيِّئاتِ من العباد أكثرُ من الحسنات، والإنسان بطبعه كثيرُ الذنوب والمعاصي؛

فعَنْ أَنَسِ بْن مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله ليه وسلم قَالَ:

«كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»

[1]،

ومهما عظُمت الذنوب، فرحمةُ الله أعظم؛ طالما أن الْمَرْءَ موحِّد لربِّه، لا يُشرك به شيئًا؛

قال تعالى:

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ۚ }

[النساء: 48].

بل إن الكافرَ إذا أَسلَم، فإنه يُمحى عنه كلُّ سيِّئة؛

قال تعالى:

{ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}

[الأنفال: 38]،

وعن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النبيَّ صلي الله عليه وسلم قال:

«إِذَا أَسْلَمَ العَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلامُهُ، يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَفَهَا، وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ القِصَاصُ: الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهَا»

[2].

فكان من لُطْفُ الله بعباده أن ضاعَفَ لهم الحسناتِ، ولم يُضاعِف عليهم السيِّئاتِ، وكان من رحمة الله تعالى أن فَتَح له أبواب مغفرته، مهما عظُمت ذنوبُه.

وإنما جَعَل الله تعالى الهمَّ بالحسنةِ حَسَنةً؛ لأن الهمَّ بالخَير هو فعلُ القلب بعقد النيَّة على ذلك. فإن قيل: فكان ينبغي على هذا القول أن يَكتُب لمن همَّ بالشرِّ ولم يعمله سيئةً؛ لأن الهمَّ بالشرِّ عَمَلٌ من أعمال القلب للشرِّ. قيل: ليس كما توهَّمْتَ، ومن كفَّ عن فعل الشَّرِّ، فقد نَسَخ اعتقاده للسيِّئة باعتقادٍ آخَرَ نوى به الخير، وعصى هَواه الْمُريد للشَّرِّ، فذلك عَمَلٌ للقلب من أعمال الخير، فجُوزِيَ على ذلك بحسنة،

وهذا كقوله ﷺ:

«على كلِّ مُسلمٍ صَدَقةٌ». قالوا: فإن لم يَفعَل؟ قال: «يُمسِكُ عن الشرِّ؛ فإنه صَدَقةٌ»

[3]؛

فالكفُّ عن الشر والسيئات صدقة[4].

فهذا الحديث خصَّص من هَمَّ بسيِّئة، فتَرَكها لوجه الله تعالى، وأما من تَرَكها مُكرَهًا على تركها بأن يُحالَ بينه وبينها، فلا تُكتَب له حسنة، ولا يَدخُل في معنى الحديث.

"وفى هذا الحديث تصحيحُ مقالة من يقول: إن الحَفَظَة تَكتُب ما يَهُمُّ به العبد من حسنة أو سيِّئة، وتَعلَم اعتقادَه لذلك، وردُّ مَقَالة من زَعَم أن الحَفَظة، إنما تَكتُب ما ظَهَر من عمل العبد وسُمِع"[5].

وفي معنى هذا الحديث أحاديثُ أُخَرُ متعدِّدة، فتضمَّنت هذه النّصوص كتابة الحسنات والسّيّئات، والهمَّ بالحسنة والسّيّئة، فهذه أربعة أنواع[6]:

النّوع الأوّل: عمل الحسنات، فتُضاعف الحسنة بعشْر أمثالها إلى سَبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومضاعفة الحسنة بعشر أمثالها لازم لكلِّ الحسنات، وقد دلَّ عليه قوله تعالى:

{مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ۖ}

[الأنعام: 160].

وأمّا زيادة المضاعفة على العشر لمن شاء اللّه أن يضاعِف له، فدلَّ عليه قوله تعالى:

{مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنۢبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِى كُلِّ سُنۢبُلَةٍۢ مِّائَةُ حَبَّةٍۢ ۗ وَٱللَّهُ يُضَٰعِفُ لِمَن يَشَآءُ ۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ }

[البقرة: 261]،

فدلّت هذه الآية على أنّ النّفقة في سبيل اللّه تُضاعَف بسبعمائة ضعف.

النّوع الثّاني: عمل السّيّئات، فتُكتَب السّيّئة بمثلها، من غير مضاعفة؛

كما قال تعالى:

{وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰٓ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}

[الأنعام: 160]،

وقوله: «كُتبت له سيّئة واحدة» إشارة إلى أنّها غير مضاعفة؛ لكنّ السّيّئة تَعظُم أحيانًا بشرف الزّمان أو المكان؛

كما قال تعالى:

{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ۚ}

[التوبة: 36].

قال عليُّ بنُ أبي طلحةَ عن ابن عبّاس في هذه الآية: 

{فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ۚ}

[التوبة: 36]

في كلّهنّ، ثمّ اختصَّ من ذلك أربعة أشهر، فجعلهنّ حُرمًا، وعظَّم حُرماتِهنّ، وجعل الذّنب فيهنّ أعظَم، والعمل الصّالح والأجر أعظم. وقال قتادة في هذه الآية: اعلموا أنّ الظُّلم في الأشهر الحُرم أعظم خطيئةً ووزرًا فيما سوى ذلك، وإن كان الظُّلم في كلِّ حال غير طائل؛ ولكنّ اللّه تعالى يعظِّم من أمره ما يشاء تعالى ربُّنا.

وقد تُضاعف السّيّئات بشرف فاعلها، وقوَّة معرفته باللّه، وقُربه منه؛ فإنّ من عصى السّلطان على بِساطه أعظم جُرمًا ممّن عصاه على بُعد؛ ولهذا توعَّد اللّه خاصَّة عباده على المعصية بمضاعفة الجزاء، وإن كان قد عصمهم منها؛ ليبيِّن لهم فضله عليهم بعصمتهم من ذلك؛

كما قال تعالى:

{وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا 74 إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ}

[الإسراء: 74، 75]،

وقال تعالى:

{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرً 30  وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا}

[الأحزاب: 30 - 31].

النّوع الثّالث: الهمُّ بالحسنات، فتُكتب حسنةً كاملةً، وإن لم يعملها؛ كما في حديث ابن عبّاس وغيره،

وفي حديث أبي هريرة الّذي أخرَّجه مسلم كما تقدَّم:

«إذا تحدَّث عبدي بأن يعمل حسنةً، فأنا أكتبها له حسنةً»،

والظّاهر أنّ المراد بالتّحدُّث حديث النّفس، وهو الهمُّ،

وفي حديث خُرَيمِ بْنِ فَاتَكٍ:

«مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، فَعَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ أَنَّهُ قَدْ أَشْعَرَ قَلْبَهُ، وَحَرَصَ عَلَيْهَا، كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً»

[7]

وهذا يدلُّ على أنّ المراد بالهمِّ هنا هو العزم المصمِّم الّذي يوجد معه الحرص على العمل، لا مجرَّد الخطرة الّتي تَخطُر، ثمّ تنفسخ من غير عزم ولا تصميم. قال أبو الدّرداء: من أتى فراشه وهو ينوي أن يصلِّيَ من اللّيل، فغلبته عيناه حتّى يُصبح، كُتب له ما نوى.

والهمُّ بالحسنة إنما هو فعل العبد بقلبه دون سائر الجوارح؛ كذكر الله بقلبه، فالمعنى الذي به يصل الملَكان الموكَّلان بالعبد إلى علم ما يَهمُّ به بقلبه، هو المعنى الذى به يصل إلى علم ذكر ربّه بقلبه، ويجوز أن يكون جعل الله لهما إلى علم ذلك سبيلاً؛ كما جعل لكثير من أنبيائه السبيل إلى كثير من علم الغيب، فغير مستنكَر أن يكون الكاتبان الموكَّلان بابن آدم، قد جعل لهما سبيلاً إلى علم ما في قلوب بنى آدم من خير أو شرٍّ، فيكتبانه إذا حدَّث به نفسه أو عزم عليه[8].

النّوع الرّابع: الهمُّ بالسّيّئات من غير عمل لها؛ ففي حديث ابن عبّاس: أنّها تُكتب حسنةً كاملةً، وكذلك في حديث أبي هريرة وأنس وغيرهما: أنّها تُكتب حسنةً، وفي حديث أبي هريرة قال: «إنّما تركها من جرَّاي»[9] يعني: من أجلي. وهذا يدلُّ على أنّ المراد من قَدَر على ما همَّ به من المعصية، فتركه للّه تعالى، وهذا لا ريب في أنّه يُكتب له بذلك حسنة؛ لأنّ تركه المعصيةَ بهذا القصد عمل صالح. فأمّا إن همَّ بمعصية، ثمّ ترك عملها خوفًا من المخلوقين، أو مراءاةً لهم، فقد قيل: إنّه يعاقَب على تركها بهذه النّيّة؛ لأنّ تقديم خوف المخلوقين على خوف اللّه محرَّم، وكذلك قصد الرّياء للمخلوقين محرَّم، فإذا اقترن به ترك المعصية لأجله، عوقب على هذا التّرك. قال الفُضيل بن عياض: كانوا يقولون: ترك العمل للنّاس رياء، والعمل لهم شرك. وأمّا إن سعى في حصولها بما أمكنه، ثمّ حال بينه وبينها القدر، فقد ذكر جماعة أنّه يعاقَب عليها حينئذ؛

لقول النّبيِّ ﷺ:

«إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النّار»، قالوا: يا رسول اللّه، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: «إنّه كان حريصًا على قتل صاحبه»

[10].

وقد قال النبيُّ ﷺ:

«إنّ اللّه تجاوز لأمّتي عمّا حدَّثت به أنفسها، ما لم تكلَّم به، أو تعمل به»

[11]

وفيه دليلٌ على أنّ الهامَّ بالمعصية إذا تكلَّم بما همَّ به بلسانه، فإنّه يعاقَب على الهمِّ حينئذ؛ لأنّه قد عَمِل بجوارحه معصيةً، وهو التّكلُّم باللّسان.

المراجع

  1. رواه أحمد (13049)، والترمذيُّ (2499)، وابن ماجه (4251)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (3139).
  2. رواه البخاريُّ (41).
  3. رواه البخاريُّ (1445)، ومسلم (1008).
  4. انظر: "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (10/ 199، 200).
  5. شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (10/ 200).
  6. انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 313 - 322).
  7. رواه أحمد (19244)، وحسّنه شعيب الأرنؤوط.
  8. "شرح صحيح البخاريّ" لابن بطال (10/ 199، 201).
  9. رواه مسلم (129).
  10. رواه البخاريّ (31)، ومسلم (2888).
  11. رواه أحمد (9097)، والترمذيّ (1183)، وقال: حديث حسن صحيح.


النقول

قال ابن رجب رحمه الله : "وفي المعنى أحاديثُ أُخَرُ متعدِّدة، فتضمَّنت هذه النّصوص كتابة الحسنات والسّيّئات، والهمَّ بالحسنة والسّيّئة، فهذه أربعة أنواع:

النّوع الأوّل: عمل الحسنات، فتُضاعف الحسنة بعشْر أمثالها إلى سَبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومضاعفة الحسنة بعشر أمثالها لازم لكلِّ الحسنات، وقد دلَّ عليه

قوله تعالى:

{ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ۖ }

[الأنعام: 160].

وأمّا زيادة المضاعفة على العشر لمن شاء اللّه أن يضاعِف له، فدلَّ عليه قوله تعالى:

{ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}

[البقرة: 261]،

فدلّت هذه الآية على أنّ النّفقة في سبيل اللّه تُضاعَف بسبعمائة ضعف"[1].

قال ابن بطَّال رحمه الله: "هذا حديثٌ شريف بَيَّن فيه النبيُّ ﷺ مقدارَ تفضُّل الله على عباده بأن جعل همومَ العبدِ بالحسنة، وإن لم يَعمَلها، حسنةً، وجعل همومَه بالسيِّئةِ إن لم يَعمَلها حسنةً، وإن عَمِلها كُتِبت سيِّئةً واحدة، وإن عَمِل الحسنةَ كُتِبت عَشْرًا، ولولا هذا التفضُّلُ العظيم، لم يَدخُل أحدٌ الجنَّة؛ لأن السيِّئاتِ من العباد أكثرُ من الحسنات، فلَطُف الله بعباده بأن ضاعَف لهم الحسناتِ، ولم يضاعِف عليهم السيِّئاتِ. وإنما جَعَل الهمومَ بالحسنةِ حَسَنةً؛ لأن الهموم بالخَير هو فعلُ القلب بعقد النيَّة على ذلك. فإن قيل: فكان ينبغي على هذا القول أن يَكتُب لمن همَّ بالشرِّ ولم يعمله سيئةً؛ لأن الهمومَ بالشرِّ عَمَلٌ من أعمال القلب للشرِّ. قيل: ليس كما توهَّمت، ومن كفَّ عن فعل الشَّرِّ، فقد نَسَخ اعتقاده للسيِّئة باعتقادٍ آخَرَ نوى به الخير، وعصى هَواه الْمُريد للشَّرِّ، فذلك عَمَلٌ للقلب من أعمال الخير، فجُوزِيَ على ذلك بحسنة،

وهذا كقوله ﷺ:

«على كلِّ مُسلمٍ صَدَقةٌ». قالوا: فإن لم يَفعَل؟ قال: «يُمسِكُ عن الشرِّ؛ فإنه صَدَقةٌ»

[2]

ذكره في كتاب "الأدب" في باب "كلُّ معروف صدقة"[3]. 

قال ابن رجب رحمه الله: " النّوع الثّاني: عمل السّيّئات، فتُكتَب السّيّئة بمثلها، من غير مضاعفة؛

كما قال تعالى:

{وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}

 [الأنعام: 160]،

وقوله: «كُتبت له سيّئة واحدة» إشارة إلى أنّها غير مضاعفة؛ لكنّ السّيّئة تَعظُم أحيانًا بشرف الزّمان أو المكان؛

كما قال تعالى:

{ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ۚ}

[التوبة: 36].

قال عليُّ بنُ أبي طلحةَ عن ابن عبّاس في هذه الآية:

{فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ۚ}

[التوبة: 36]:

في كلّهنّ، ثمّ اختصَّ من ذلك أربعة أشهر، فجعلهنّ حُرمًا، وعظَّم حُرماتِهنّ، وجعل الذّنب فيهنّ أعظَم، والعمل الصّالح والأجر أعظم. وقال قتادة في هذه الآية: اعلموا أنّ الظُّلم في الأشهر الحُرم أعظم خطيئةً ووزرًا فيما سوى ذلك، وإن كان الظُّلم في كلِّ حال غير طائل؛ ولكنّ اللّه تعالى يعظِّم من أمره ما يشاء تعالى ربُّنا.

وقد تُضاعف السّيّئات بشرف فاعلها، وقوَّة معرفته باللّه، وقُربه منه؛ فإنّ من عصى السّلطان على بِساطه أعظم جُرمًا ممّن عصاه على بُعد؛ ولهذا توعَّد اللّه خاصَّة عباده على المعصية بمضاعفة الجزاء، وإن كان قد عصمهم منها؛ ليبيِّن لهم فضله عليهم بعصمتهم من ذلك؛

كما قال تعالى:

{وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا 74 إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا }

[الإسراء: 74، 75]،

وقال تعالى:

{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرً 30  وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا}

[الأحزاب: 30 - 31]"[4].

قال ابن بطَّال رحمه الله: "وحديث ابن عباس معناه الخصوص لمن هَمَّ بسيِّئة، فتَرَكها لوجه الله تعالى، وأما من تَرَكها مُكرَهًا على تركها بأن يُحالَ بينه وبينها، فلا تُكتَب له حسنة، ولا يَدخُل في معنى الحديث. قال الطبريُّ: وفى هذا الحديث تصحيحُ مقالة من يقول: إن الحَفَظَة تَكتُب ما يَهُمُّ به العبد من حسنة أو سيِّئة، وتَعلَم اعتقادَه لذلك، وردُّ مَقَالة من زَعَم أن الحَفَظة، إنما تَكتُب ما ظَهَر من عمل العبد وسُمِع"[5].

قال ابن رجب رحمه الله: " النّوع الثّالث: الهمُّ بالحسنات، فتُكتب حسنةً كاملةً، وإن لم يعملها؛ كما في حديث ابن عبّاس وغيره

وفي حديث أبي هريرة الّذي خرَّجه مسلم كما تقدَّم:

«إذا تحدَّث عبدي بأن يعمل حسنةً، فأنا أكتبها له حسنةً»

والظّاهر أنّ المراد بالتّحدُّث حديث النّفس، وهو الهمُّ

وفي حديث خُرَيمِ بْنِ فَاتَكٍ:

«مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، فَعَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ أَنَّهُ قَدْ أَشْعَرَ قَلْبَهُ، وَحَرَصَ عَلَيْهَا، كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً»

[6]

وهذا يدلُّ على أنّ المراد بالهمِّ هنا هو العزم المصمِّم الّذي يوجد معه الحرص على العمل، لا مجرَّد الخطرة الّتي تَخطُر، ثمّ تنفسخ من غير عزم ولا تصميم. قال أبو الدّرداء: من أتى فراشه وهو ينوي أن يصلِّيَ من اللّيل، فغلبته عيناه حتّى يُصبح، كُتب له ما نوى" [7].

قال ابن بطَّال رحمه الله: "والهمُّ بالحسنة إنما هو فِعْلُ العبد بقلبه دون سائر الجوارح؛ كذِكْرِ الله بقلبه، فالمعنى الذي به يَصِل الْمَلَكانِ الموكَّلان بالعبدِ إلى عِلْمِ ما يَهُمُّ به بقلبه؛ هو المعنى الذى به يَصِل إلى علم ذِكْرِ ربِّه بقلبه، ويَجُوز أن يكون جَعَل الله لهما إلى عِلْمِ ذلك سبيلاً؛ كما جَعَل لكثير من أنبيائه السبيلَ إلى كثير من علم الغيب... قالوا: فغيرُ مستنكَر أن يكون الكاتبانِ الموكَّلان بابن آدمَ، قد جَعَل لهما سبيلاً إلى علم ما في قلوب بنى آدَمَ من خير أو شرٍّ، فيَكتُبانِه إذا حدَّث به نفسَه أو عَزَم عليه"[8].

قال ابن رجب رحمه الله: "النّوع الرّابع: الهمُّ بالسّيّئات من غير عمل لها؛ ففي حديث ابن عبّاس: أنّها تُكتب حسنةً كاملةً، وكذلك في حديث أبي هريرة وأنس وغيرهما: أنّها تُكتب حسنةً، وفي حديث أبي هريرة قال: «إنّما تركها من جرَّاي»[9] يعني: من أجلي. وهذا يدلُّ على أنّ المراد من قَدَر على ما همَّ به من المعصية، فتركه للّه تعالى، وهذا لا ريب في أنّه يُكتب له بذلك حسنة؛ لأنّ تركه المعصيةَ بهذا القصد عمل صالح. فأمّا إن همَّ بمعصية، ثمّ ترك عملها خوفًا من المخلوقين، أو مراءاةً لهم، فقد قيل: إنّه يعاقَب على تركها بهذه النّيّة؛ لأنّ تقديم خوف المخلوقين على خوف اللّه محرَّم، وكذلك قصد الرّياء للمخلوقين محرَّم، فإذا اقترن به ترك المعصية لأجله، عوقب على هذا التّرك... وقال الفُضيل بن عياض: كانوا يقولون: ترك العمل للنّاس رياء، والعمل لهم شرك. وأمّا إن سعى في حصولها بما أمكنه، ثمّ حال بينه وبينها القدر، فقد ذكر جماعة أنّه يعاقَب عليها حينئذ؛ لقول النّبيِّ ﷺ: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النّار»، قالوا: يا رسول اللّه، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: «إنّه كان حريصًا على قتل صاحبه»[10].

وقوله: «مَا لَمْ تَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ»[11] يدلُّ على أنّ الهامَّ بالمعصية إذا تكلَّم بما همَّ به بلسانه، فإنّه يعاقَب على الهمِّ حينئذ؛ لأنّه قد عَمِل بجوارحه معصيةً، وهو التّكلُّم باللّسان"[12].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "الحديث يسمَّى عند المحدِّثين قُدسيًّا، والحديث القُدسيُّ: كلُّ ما رواه النبيُّ ﷺ عن ربِّه عزَّ وجلَّ. لأنه منسوب إلى النبيِّ ﷺ تبليغًا، وليس من القرآن بالإجماع، وإن كان كلُّ واحد منهما قد بلَّغه النبيُّ ﷺ أمَّته عن الله عزَّ وجلَّ. وقد اختلف العلماء - رحمهم الله - في لفظ الحديث القدسيِّ: هل هو كلام الله تعالى، أو أن الله تعالى أوحى إلى رسوله ﷺ معناه، واللفظُ لفظ رسول الله ﷺ؟ على قولين: القول الأول: أن الحديث القدسيَّ من عند الله لفظُه ومعناه؛ لأن النبيَّ ﷺ أضافه إلى الله تعالى، ومن المعلوم أن الأصل في القول المضاف أن يكون بلفظ قائله لا ناقلِه، لا سيَّما أن النبيَّ ﷺ أقوى الناس أمانةً، وأوثقُهم روايةً.

القول الثاني: أن الحديث القدسيَّ معناه من عند الله، ولفظه لفظ النبيِّ ﷺ، وذلك لوجهين:

الوجه الأول: لو كان الحديث القدسيُّ من عند الله لفظًا ومعنًى، لكان أعلى سندًا من القرآن؛ لأن النبيَّ ﷺ يرويه عن ربِّه تعالى بدون واسطة، كما هو ظاهر السياق، أما القرآن، فنزل على النبيِّ ﷺ بواسطة جبريل عليه السلام

كما قال تعالى:

{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ}

[النحل: 102]،

وقال:

{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ 193 عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ 194 بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ }

[الشعراء: 193-195].

الوجه الثاني: أنه لو كان لفظ الحديث القدسيِّ من عند الله، لم يكن بينه وبين القرآن فرقٌ؛ لأن كِلَيهما على هذا التقدير كلام الله تعالى، والحكمةُ تقتضي تساويهما في الحكم حين اتَّفَقا في الأصل، ومن المعلوم أن بين القرآن والحديث القدسيِّ فروقًا كثيرة، منها: أن الحديث القدسيَّ لا يُتعَّبد بتلاوته؛ بمعنى: أن الإنسان لا يتعبَّد اللهَ تعالى بمجرَّد قراءته؛ فلا يثاب على كلِّ حرف منه عشْرَ حسنات، والقرآن يُتعبَّد بتلاوته بكلِّ حرف منه عشْرُ حسنات. ومنها: أن الله عزَّ وجلَّ تحدَّى أن يأتيَ الناس بمثل القرآن أو آية منه، ولم يَرِد مثلُ ذلك في الأحاديث القدسيَّة.

ومنها: أن القرآن محفوظ من عند الله عزَّ وجلَّ

كما قال سبحانه:

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}

[الحجر: 9]،

والأحاديث القدسية بخلاف ذلك؛ ففيها الصحيح والحسن؛ بل أُضيف إليها ما كان ضعيفًا أو موضوعًا، وهذا وإن لم يكن منها؛ لكن نُسِب إليها، وفيها التقديم والتأخير، والزيادةُ والنقص. ومنها: أن القرآن لا تجوز قراءته بالمعنى بإجماع المسلمين، أما الأحاديث القدسية، فعلى الخلاف في جواز نقل الحديث النبويِّ بالمعنى، والأكثرون على جوازه. ومنها: أن القرآن تُشرَع قراءته في الصلاة، ومنه ما لا تصحُّ الصلاة بدون قراءته، بخلاف الأحاديث القدسية. ومنها: أن القرآن لا يمسُّه إلا طاهر على الأصحِّ، بخلاف الأحاديث القدسية. أن القرآن لا تجوز قراءته بالمعنى بإجماع المسلمين، أما الأحاديث القدسية، فعلى الخلاف في جواز نقل الحديث النبويِّ بالمعنى، والأكثرون على جوازه. ومنها: أن القرآن تُشرَع قراءته في الصلاة، ومنه ما لا تصحُّ الصلاة بدون قراءته، بخلاف الأحاديث القدسية. ومنها: أن القرآن لا يمسُّه إلا طاهر على الأصحِّ، بخلاف الأحاديث القدسية. ومنها: أن القرآن لا يقرؤه الجُنُب حتى يغتسل على القول الراجح، بخلاف الأحاديث القدسية. ومنها: أن القرآن ثبت بالتواتُر القطعيِّ المفيد للعلم اليقينيِّ، فلو أَنكَر منه حرفًا أجمع القرَّاء عليه، لكان كافرًا، بخلاف الأحاديث القدسية؛ فإنه لو أَنكَر شيئًا منها مدَّعيًا أنه لم يثبت، لم يكفر، أما لو أنكره مع علمه أن النبيَّ ﷺ قاله، لكان كافرًا؛ لتكذيبه النبيَّ ﷺ. وأجاب هؤلاء عن كون النبيِّ ﷺ أضافه إلى الله، والأصل في القول المضاف أن يكون لفظ قائله بالتسليم أن هذا هو الأصل؛ لكن قد يُضاف إلى قائله معنًى لا لفظًا؛ كما في القرآن الكريم؛ فإن الله تعالى يُضيف أقوالًا إلى قائليها، ونحن نعلم أنها أضيفت معنًى لا لفظًا، كما في قصص الأنبياء وغيرهم، وكلام الهُدْهُد والنَّمْلَة؛ فإنه بغير هذا اللفظ قطعًا. وبهذا يتبيَّن رجحان هذا القول، وليس الخلاف في هذا كالخلاف بين الأشاعرة وأهل السنَّة في كلام الله تعالى؛ لأن الخلاف بين هؤلاء في أصل كلام الله تعالى؛ فأهل السنَّة يقولون: كلام الله تعالى كلام حقيقيٌّ مسموع يتكلَّم سبحانه بصوت وحرف، والأشاعرة لا يُثبتون ذلك؛ وإنما يقولون: كلام الله تعالى هو المعنى القائم بنفسه، وليس بحرف وصوت؛ ولكن الله تعالى يَخلُق صوتًا يعبِّر به عن المعنى القائم بنفسه، ولا شكَّ في بطلان قولهم، وهو في الحقيقة قول المعتزلة؛ لأن المعتزلة يقولون: القرآن مخلوق، وهو كلام الله، وهؤلاء يقولون: القرآن مخلوق، وهو عبارة عن كلام الله، فقد اتَّفَق الجميع على أن ما بين دفَّتي المصحف مخلوق. ثم لو قيل في مسألتنا (الكلام في الحديث القدسيِّ): إن الأَولَى ترك الخَوض في هذا؛ خوفًا من أن يكون من التنطُّع الهالك فاعلُه، والاقتصار على القول بأن الحديث القدسيَّ ما رواه النبيُّ ﷺ عن ربِّه وكفى. لكان ذلك كافيًا، ولعلَّه أسلمُ، والله أعلم" [13].


المراجع

1. جامع العلوم والحكم لابن (2/313)

2. رواه البخاري (1445) ومسلم (1008)

3. شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/ 199، 200)

4. جامع العلوم والحكم لابن رجب (2/ 316- 318)

5. شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/ 200)

6. رواه أحمد (19244)، وحسنه شعيب الأرنؤوط

7. جامع العلوم والحكم لابن رجب (2/ 319)

8. شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/ 199، 201)

9. رواه مسلم (129)

10. رواه البخاري (31)، ومسلم (2888)

11. رواه أحمد (9097)، والترمذي (1183)، وقال: حديث حسن صحيح

12. جامع العلوم والحكم لابن رجب (2/ 321، 322)

13.  "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 236 - 238)


مشاريع الأحاديث الكلية