غريب الحديث:
نَجْد: منطقة مرتفعة بالسعودية، تمتَدُّ من الحجاز شرقًا إلى اليمامة غربًا، ومن مدنها اليومَ الرياضُ،
والقصيمُ، والأفلاج، وقديمًا عَدَّ الناسُ ما كان على بُعد مِائة كيلو متر من شرق المدينة نجدًا[1]
ثَائِرُ الرأس: مُتَفرِّقُ الشَّعر[2]
دَوِيُّ صَوْتِهِ: الدَّوِيُّ: صوت مُتكرِّر لا يُفْهَم؛ وذلك لأنه نادى من بُعْدٍ [3].
المراجع
- انظر: "أطلس الحديث النبوي" شوقي أبو خليل (ص: 365)
- انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (1/ 106).
- انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (1/ 106).
المعنى الإجماليُّ للحديث
يروي طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ رضي الله عنه أنه: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، ثَائِرُ الرَّأْسِ)؛ أي: أتى رسولَ الله ﷺ رجلٌ من أعراب نَجْدٍ، منتفِشُ ومُتَفَرِّقُ الشَّعْرِ. (يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ، وَلاَ يُفْقَهُ مَا يَقُولُ)؛ أي: يسمعون صوته دون فَهم كلامه. (حتَّى دَنَا، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلامِ): فلَمَّا اقترب منهم، فَهِموا أنه يسأل عن شرائع الإسلام.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي اليوْمِ وَاللَّيْلَةِ»؛ أي: فأجابه ﷺ أن عليه خمسَ صلوات فرائضَ في اليوم والليلة. فَقَالَ الرجل: (هَلْ عَليَّ غَيْرُهَا؟)؛ أي: فسأله: هل هناك صلوات مفروضة عليه غير هذه الخمس؟
قَالَ ﷺ: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ»: فأجابه ﷺ أنه ليس عليه غير هذه الخمس، إلا أن يتطوَّع بالسُّنن والنوافل.
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «وَصِيَامُ رَمَضَانَ»؛ أي: وصيام شهر رمضان فرضٌ عليك.
قَالَ الرجل: هَلْ عَليَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ ﷺ: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ»؛ أي: إلا أن تتطوَّع بنوافلِ الصِّيَامِ.
وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ الزَّكَاةَ: قَالَ: هَلْ عَليَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ»؛ أي: ذكر له أن الزكاة مفروضة عليه، وليس عليه نَفقةٌ غيرها إلَّا أن يتطوَّع بالصَّدَقة.
قَالَ طلحة: (فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلاَ أَنْقُصُ)؛ أي: غادر الرجل وهو يقول: والله لا أُغيِّر الفروضَ المذكورَةَ بزيادةٍ فيها ولا نُقْصَانٍ منها، وألتزم بأداء تلك الفروض.
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ»؛ أي: أفلح إن صدق في التزامه بقوله هذا.
الشرح المفصَّل للحديث:
من القواعد الأساسية التي بُنِيَ عليها الإسلامُ: الرحمةُ والتيسيرُ في كلِّ الفرائض والعبادات؛ فالإسلام دين مُلائمٌ للفِطرة السليمة في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ، تلك الفطرةُ التي لا تَستجيبُ إلا لـما تُطِيقُ، فاللهُ عز وجل لا يُكَلِّفُ نفْسًا إلا وُسْعَها، وحينما أمر اللهُ عبادَهُ بالتقوى، رَبَطَ هذه التقوى بالاستطاعةِ؛ فالإنسانُ يُحاولُ أن يَتَّقِيَ اللهَ ما استطاع إلى ذلك سبيلًا دُونَ مشقَّةٍ، ودُونَ إلزامٍ من شأنه إلحاقُ الضَّرَرِ بالنفْس البشرية؛ فشريعتُنا شريعةٌ لا إفراطَ فيها ولا تَفْرِيطَ؛ تتميَّزُ بالكثير من مظاهرِ التيسير التي لا حَصْرَ لها، ومن ذلك التيسيرُ في أبواب العبادات.
وفي هذا الحديث يأتي رسولَ الله ﷺ رجُلٌ من الأعراب من ساكني الصحراء، وهو من أهل نَجْد، قيل: اسمُه ضِمَامُ بنُ ثعلبةَ t وافدُ بني سعدِ بنِ بكرٍ[1] ووصفه راوي الحديث طلحةُ بنُ عُبيد الله رضي الله عنه بأنه كان (ثَائِرَ الرَّأْسِ)؛ أي: منتفِشَ ومُتَفَرِّقَ الشَّعْرِ؛ وذلك لِتَرْكِ الرفاهية على عادة الأعراب، وأَوْقَعَ اسمَ الرأسِ على الشَّعْرِ إما على سبيل الْمُبالَغة، أو لأن الشَّعرَ يَنْبُتُ من الرأس[2]. ومثل الحالة التي كان عليها في شكله الظاهريِّ من انتفاش شَعره، كان صوته ومنطقه، فيذكر طلحةُ أن هذا الأعرابيَّ كان (يُسمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ)؛ أي: بُعدُهُ في الهواء؛ مأخوذٌ من دَوِيِّ الرَّعْدِ، والدَّوِيُّ: صوتٌ مرتفعٌ متكرِّر، (ولا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ)؛ أي: ولا يُفهَم ما يقوله؛ وإنما لم يَفهموا ما يقول لأنه نَادَى من بُعْدٍ، فلمَّا دَنَا فَهِموه[3]. (فإذا هُو يسألُ عن الإسلام)؛ أي: جاء هذا الرجُلُ يسأل عن شرائع الإسلام، وإنما لم يَذكُر له ﷺ الشهادةَ؛ لأنه علِم أنه يَعلَمها، أو عَلِم ﷺ أنه إنما يسأل عن شرائع الإسلام الفِعلية دون القَولية، أو ذكَرَها ولم يَنقُلها الراوي لشُهرتها، وإنما لم يَذكُر الحجَّ؛ إما لأنه لم يكن فُرِض بعدُ، أو لأنه لم يكن واجبًا عليه، أو أنه ذكَره وراوي الحديث اختصره[4]
فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ في اليَوْمِ واللَّيْلَةِ»؛ وهي الصَّلَوَاتُ التي فرضَها اللهُ I على نبيِّه في ليلة الإسراء والمِعْرَاج، وهي صلاةُ الفجر، والظُّهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، وهي أعظمُ أركان الإسلامِ بعد الشهادتين، وهي عَمودُ دين الإسلام، وأَكثَرُ العبادات ذِكْرًا في القرآن، وآخرُ وصايا الرسول ﷺ، وقد سَمَّاها اللهُ تعالى إِيمانًا.
فسأل الأعرابيُّ رسولَ الله ﷺ: «هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟»؛ أيْ: إذا أَدَّيْتُها على الوجه الذي أراده الله I في أوقاتِها، وَأَتَيْتُ بِكَامِلِ أركانِها وواجباتِها وهَيْئَاتِها، مُخْلِصًا لله وَحْدَهُ فيها، فهل أنا مُكَلَّفٌ بصلاةٍ غيرِها؟
فأجاب النبيُّ ﷺ «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ»؛ أي: ليس عليك صلواتٌ مفروضةٌ غير هذه الخمس، إلا أن تَزيد عليها بطَواعِيَتكَ من غير إلزام من الشرع[5]، فتتطوَّع بالنوافل؛ وفي ذلك إشارةٌ إلى أن الفرائضَ وحدها إذا التزمها صاحِبُها على الوجه الذي يرضاه الخالقُ سبحانه فهو من الناجين يومَ القيامة بلا شكٍّ، وإن تَرَكَ غيرها من النوافل، وإنْ كان هذا التَّرْكُ مذمومًا، فإنَّ الله سبحانه بَيَّن أنه ما تَقَرَّب إليه العبدُ بشيءٍ أحبَّ إليه مما افترضه عليه.
وقوله: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ»: الفعل بتشديد الطاء والواو، وأصلُه "تَتَطَوَّع"، فأُدغمت التاء الثانية في الطاء، وصارت طاءً مُشدَّدةً[6]، والتَّطَوُّعُ معناه: أن يتقرَّب العبد إلى الله تعالى بما لم يَفرضه عليه من العبادات؛ رَغْبَةً في عُلُوِّ الدرجات يَوْمَ القيامة، وهذه الأعمالُ في الشَّرْعِ مندوبٌ إليها، يُثَابُ فاعلها، ولا يُعاقَب تَارِكُها[7]
وقوله ﷺ: «إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ»؛ استثناءٌ منقطعٌ، ومعناه: لكن يُستحبُّ لك أن تتطوَّع، وَجَعَله بعضُ العلماء استثناءً متَّصِلًا، ومعناه: لا يجب عليك غيرُها إلا أن تتطوَّع فتَصير مُلزَمًا بإتمام التطوُّع؛ لأنك شرعتَ فيه، واستدلُّوا بهذا المعنى على أن مَن شرع في صلاة نفل، أو صوم نفل، وَجَب عليه إتمامُه.
ونوافلُ الصلاة كثيرةٌ، آكَدُها ما كان يَحرِصُ عليه النبيُّ ﷺ في كلِّ يَوْمٍ وليلة؛ وهي صلاةُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ ركعةً، مَن صلَّاهَا بَنَى الله له بيتًا في الجنَّة[8]؛ فعن أمِّ حبيبةَ - رضي الله عنها - قالت: قال رسولُ الله ﷺ: «مَن صلَّى في يوم وليلة ثِنْتَيْ عَشْرةَ ركعةً، بُني له بيتٌ في الجنَّة: أربعًا قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الفجر صلاة الغداة»[9]
وأمّا أفضل هذه النّوافل، فصلاةٌ في الثُّلث الأخير من الليل؛ فهو وقتٌ مبارك ينزل فيه ربُّنا إلى السماء الدُّنيا، فيغفر للمستغفرين، ويتوب على التّائبين، ويُعطي السّائلين؛ كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسولَ الله ﷺ قال: «يَنزِلُ ربُّنا تبارك وتعالى كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا، حين يَبقى ثلثُ الليل الآخر يقول: مَن يدعوني، فأستجيبَ له؟ مَن يسألني فأُعطيَه؟ مَن يستغفرني فأغفرَ له؟»[10]
ولا يَعْلَمُ أحدٌ ما أَعَدَّ اللهُ للمُتَهَجِّدِينَ بالليلِ يومَ القيامةِ مِن قُرَّةِ أعينٍ جزاءً بما كانوا يعملون، مِصداقَ
﴿تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمۡ عَنِ ٱلۡمَضَاجِعِ يَدۡعُونَ رَبَّهُمۡ خَوۡفٗا وَطَمَعٗا وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ16 فَلَا تَعۡلَمُ نَفۡسٞ مَّآ أُخۡفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعۡيُنٖ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾
ثم يستأنفُ النبيُّ ﷺ بيانَ ما على الأعرابيِّ مِنَ الفرائضِ المخاطَبِ بها، فيقول ﷺ «وَصِيَامُ رَمَضَانَ»، وهو الرُّكْنُ الرابعُ من أركان الإسلام، وهو الإمساكُ عن الطعام والشراب وسائر المفطِّرات من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس[11]، وصيامُ شهر رمضانَ من أَعْظَمِ الفروض وأَجَلِّها، خصَّهُ اللهُ ﷺ بالكثير من الخصائص؛ منها أنَّ كُلَّ عَمَلِ الإنسان له إلا الصَّوْمَ، فإنَّهُ لله؛ كما أخبرَ بذلك الله U، وكلُّ الأعمالِ معلومٌ جزاؤُها إلا الصَّوْمَ، فالله سبحانه يُوَفِّي الصائمين أجرَهم يومَ القيامة جزاءً مَوْفورًا؛ كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال:
«قال الله: كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له، إلا الصيامَ، فإنه لي، وأنا أَجْزي به، والصيامُ جُنَّةٌ ...»
وقوله: (هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟)؛ أي: إذا صُمْتُ شَهْرَ رمضانَ كاملًا، ورَاعَيْتُ أركانَ الصيام وواجباتِه، وأمسكتُ عليَّ جوارحي، كما أمسكتُ عن الطعام والشراب والشهوة، فهل أنا مُكَلَّفٌ بصيام أيَّامٍ أُخَرَ غير أيام هذا الشهرِ المبارَك؟
فأجاب النبيُّ ﷺ: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ»؛ أي: بنوافلِ الصِّيَامِ؛ وهي كثيرةٌ؛ منها صيامُ شهرِ الله المحرَّمِ، وهو أفضلُ الصيامِ بعد شَهْرِ رمضانَ[13]، وصيامُ يوم عَرَفةَ الذي يُكَفِّرُ ذُنوبَ سنتين: سنةٍ ماضية، وسنةٍ باقية، وصيامُ يومِ عاشوراءَ، يُكَفِّرُ ذنوبَ سنةٍ ماضيةٍ، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر هجريٍّ[14]، ونحو ذلك.
ثم ذكَر له النبيُّ ﷺ الزكاةَ، وهي: "التعبُّدُ لله تعالى بإخراج جزءٍ واجبٍ شرعًا في مال مُعيَّن لطائفة، أو جهة مخصوصة"[15]، وإنما سُمِّيت زكاةً لأنها تُزَكِّي النَّفْسَ وتُطَهِّرُهَا من الآثام؛ كما
﴿خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا ﴾
وهي حقٌّ معلوم فَرَضَهُ الله سبحانه للفقراءِ في أموال الأغنياء؛
﴿ وَٱلَّذِينَ فِيٓ أَمۡوَٰلِهِمۡ حَقّٞ مَّعۡلُومٞ24 لِّلسَّآئِلِ وَٱلۡمَحۡرُومِ﴾
فسأل الرجُل رسول الله ﷺ: (هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟)؛ أي: إذا أَدَّيْتُها على التقدير الذي افترضه الله، فهل يَلْزَمُني إنفاقُ المال في وجوه أخرى؟
فأجابه النبيُّ ﷺ: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ»؛ أي: بالصَّدَقة بفضل مالك، والصَّدَقةُ بُرهانٌ على إيمان العبد، وإنما ينال ما عند الله من الخير في الدُّنيا، والنعيم المقيم في الآخرة بالإنفاق في سبيله، والإنفاق على الفقراء والمساكين والمحتاجين، والإنفاق على طلبة العلم، والإنفاق على الزّوجة والأولاد؛ ابتغاءَ مرضاة الله، وهو أفضلُ أنواع الصّدقة، وما من عبد يُنفق نفقةً إلا ويأتي يومَ القيامة يجدها أضعافًا مضاعفةً مثلَ جبل أُحد حَسَنات.
وقوله: (فَأَدبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا، وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ)، قيل: معناه: لا أُغيِّر الفروضَ المذكورة بزيادة فيها ولا نُقْصانٍ منها. ولا يصحُّ أن يُقال: إنَّ معناه: لا أفعلُ شيئًا زائدًا على هذه الفروض المذكورة منَ السُّنَنِ، ولا من فُرُوضٍ أُخَرَ إن فُرِضَتْ؛ فإنَّ ذلك لا يجوزُ أن يقوله ولا يعتقده؛ لأنه مُنكَر، والنبيُّ ﷺ لا يُقِرُّ على مثله.
"فإن قيل: إن هذا الحديث ليس فيه فرضُ النهيِ عن المحارم، وعن ركوب الكبائر، وليس فيه الأمر باتِّباع النبيِّ ﷺ فيما سنَّه لأمَّته، فكيف يُفلح مَن لم ينتهِ عما نهاه الله، ولم يتَّبِع ما سنَّه ﷺ، وقد توعَّد الله على مخالفة نبيِّه ﷺ،
﴿فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ أَن تُصِيبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ يُصِيبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
فالجواب: أنه يُحتمَل أن يكون هذا الحديثُ كان في أول الإسلام قبل ورود النواهي... ويُحتمَل أن يكون قوله على معنى التأكيد في المحافظة على الوفاء بالفرائض المذكورة، من غير نقصان شيء من حدودها، كما يقول العبد لمولاه إذا أَمَره بأمر مهمٍّ عنده: والله لا أَزيد على ما أمرتني به ولا أنقُص؛ أي: أفعله على حسب ما حدَّدته لي، لا أُخِلُّ بشيء منه، ولا أَزيد فيه من عند نَفْسي غير ما أمرتني به، ويكون الكلام إخبارًا عن صدق الطاعة وصحيح الائتمار، ومن كان في المحافظة على ما أمر به بهذه المنزلة، فإنه متى وَرَد عليه أمرٌ لله تعالى أو لرسوله، فإنه يُبادر إليه، ولا يتوقَّف عنه، فرضًا كان أو سُنَّةً. فلا تعلُّق في هذا الحديث لمن احتجَّ أن تارك السُّنن غير حَرِج، ولا آثِم؛ لتوعُّد الله تعالى على مخالفة أمر نبيِّه. وبهذا التأويل تتَّفِق معاني الآثار والكتاب، ولا يتضادُّ شيء من ذلك"[16]
"فإن قيل: فكيف أقرَّه على حَلِفه، وقد وَرَد النكيرُ على مَن حلف ألَّا يفعل خيرًا؟ أجيب: بأن ذلك مختلِف باختلاف الأحوال والأشخاص، وهذا جارٍ على الأصل بأنه لا إثمَ على غير تارك الفرائض، فهو مفلِحٌ، وإنْ كان غيرُه أكثرَ فلاحًا منه"[17]
"ومراد الأعرابيِّ أنَّه لا يَزيدُ على الصلاة المكتوبة، والزكاة المفروضة، وصيامِ رمضانَ، وحجِّ البيت شيئًا من التطوُّع، ليس مرادُه أنَّه لا يعمل بشيءٍ من شرائعِ الإسلام وواجباته غير ذلك، وهذه الأحاديثُ لم يُذكر فيها اجتنابُ المحرَّمات؛ لأنَّ السائل إنَّما سأله عَنِ الأعمال التي يدخل بها عامِلُها الجنَّة"[18]
وقوله ﷺ: «أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ»؛ أي: فاز بمطلوبِهِ؛ "فأفلح من الإفلاح، وهو الفوزُ والبقاءُ، وقيل: هو الظفَرُ وإدراكُ البُغية، وقيل: إنه عبارةٌ عن أربعة أشياءَ: بقاء بلا فناء، وغناء بلا فقر، وعزٌّ بلا ذُلٍّ، وعلمٌ بلا جهل. قالوا: ولا كلمةَ في اللغة أجمعُ للخيرات منه، والعربُ تقول لكلِّ مَن أصاب خيرًا: مُفلح، وقال ابن دُريد: أفلح الرجُلُ وأنجحَ: أدرك مطلوبَه"[19]
المراجع
- انظر: "شرح صحيح البخاري" لابن بطَّال (1/ 106).
- انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (1/ 106).
- انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (1/ 106).
- انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (1/ 107).
- انظر: "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيِّ (1/ 266).
- انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (1/ 107).
- انظر: "مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج" للخطيب الشربينيِّ (2/ 182).
- رواه مسلم (728).
- رواه الترمذيُّ (415)، وقال: حديث حسن صحيح. وقال الألبانيُّ في "صحيح الجامع الصغير وزيادته" (2/ 1088): صحيح.
- رواه البخاريُّ (1145)، ومسلم (758).
- انظر: "الشرح الممتع على زاد المستقنع" ابن عثيمين (3/ 5).
- رواه البخاريُّ (1904)، ومسلم (1151).
- كما في حديث مسلم (1163)، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «أفضلُ الصيام بعدَ رمضانَ: شهرُ الله المحرَّم، وأفضلُ الصلاة بعد الفريضة: صلاةُ الليل».
- كما في حديث مسلم (1162)، عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «ثلاث من كلِّ شهر، ورمضانُ إلى رمضانَ، فهذا صيام الدهر كلِّه، وصيام يومِ عرفةَ، أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبلَه، والسنةَ التي بعدَه، وصيام يوم عاشوراءَ، أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله».
- "الشرح الممتع على زاد المستقنع" لابن عثيمين (6/ 13).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 104- 105).
- "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (1/ 108).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 517).
- "عمدة القاري بشرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيِّ (1/ 266).
النقول
قال ابن بطَّال : "فإن قيل: إن هذا الحديث ليس فيه فرضُ النهي عن المحارم، وعن ركوب الكبائر، وليس فيه الأمر باتِّباع النبيِّ r فيما سنَّه لأمَّته، فكيف يُفلح مَن لم ينتهِ عما نهاه الله، ولم يتَّبِع ما سنَّه ﷺ، وقد توعَّد الله على مخالفة نبيِّه ﷺ،
﴿ فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ أَن تُصِيبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ يُصِيبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾
فالجواب: أنه يُحتمَل أن يكون هذا الحديثُ كان في أول الإسلام قبل ورود النواهي... ويُحتمَل أن يكون قوله على معنى التأكيد في المحافظة على الوفاء بالفرائض المذكورة، من غير نقصان شيء من حدودها، كما يقول العبد لمولاه إذا أَمَره بأمر مهمٍّ عنده: والله لا أَزيد على ما أمرتني به ولا أنقُص؛ أي: أفعله على حسب ما حدَّدته لي، لا أُخِلُّ بشيء منه، ولا أَزيد فيه من عند نفْسي غير ما أمرتني به، ويكون الكلام إخبارًا عن صدق الطاعة وصحيح الائتمار، ومن كان في المحافظة على ما أمر به بهذه المنزلة، فإنه متى وَرَد عليه أمرٌ لله تعالى أو لرسوله، فإنه يُبادر إليه، ولا يتوقَّف عنه، فرضًا كان أو سُنَّةً. فلا تعلُّق في هذا الحديث لمن احتجَّ أن تارك السُّنن غير حَرِج، ولا آثم؛ لتوعُّد الله تعالى على مخالفة أمر نبيِّه. وبهذا التأويل تتَّفِق معاني الآثار والكتاب، ولا يتضادُّ شيء من ذلك"[1]
قال ابن حجر : "فإن قيل: فكيف أقرَّه على حَلِفه، وقد وَرَد النكيرُ على مَن حلف ألَّا يفعل خيرًا؟ أجيب: بأن ذلك مختلِف باختلاف الأحوال والأشخاص، وهذا جارٍ على الأصل بأنه لا إثمَ على غير تارك الفرائض، فهو مفلِحٌ، وإنْ كان غيرُه أكثرَ فلاحًا منه"[2]
قال الحافظ ابن رجب : "ومراد الأعرابيِّ أنَّه لا يَزيدُ على الصلاة المكتوبة، والزكاة المفروضة، وصيامِ رمضانَ، وحجِّ البيت شيئًا من التطوُّع، ليس مرادُه أنَّه لا يعمل بشيءٍ من شرائعِ الإسلام وواجباته غير ذلك، وهذه الأحاديثُ لم يُذكر فيها اجتنابُ المحرَّمات؛ لأنَّ السائل إنَّما سأله عَنِ الأعمال التي يدخل بها عامِلُها الجنَّة"[3]
قال ابن بطَّال : "هذا الحديث حُجَّةٌ أن الفرائض تُسمَّى إسلامًا، ودلَّ قوله: «أفلح إن صدق» على أنه إن لم يَصدُق في التزامها أنه ليس بمفلِح، وهذا خلاف قول المرجئة"[4]
قال ابن حجر : "«لا، إِلَّا أَنْ تَطوَّعَ»: (تَطَّوَّعَ) بتشديد الطّاء والواو، وأصله (تتطوَّع) بتاءين، فأُدغمت إحداهما، ويجوز تخفيف الطّاء على حذف إحداهما، واستُدلَّ بهذا على أنّ الشّروع في التّطوُّع يوجب إتمامه تمسُّكًا بأنّ الاستثناء فيه متَّصل. قال القرطبيُّ: لأنّه نفيُ وجوب شيء آخر إلّا ما تطوَّع به، والاستثناء من النّفي إثبات، ولا قائل بوجوب التّطوُّع، فيتعيَّن أن يكون المراد إلّا أن تَشرَع في تطوُّع فيَلزَمك إتمامه. وتعقَّبه الطّيبيُّ بأنّ ما تمسَّك به مغالطة؛ لأنّ الاستثناء هنا من غير الجنس؛ لأنّ التّطوُّع لا يقال فيه: عليك. فكأنّه قال: لا يجب عليك شيء إلّا إن أردتَ أن تطَّوَّع فذلك لك، وقد عُلم أنّ التّطوُّع ليس بواجب، فلا يجب شيء آخر أصلًا. كذا قال. وحرف المسألة دائر على الاستثناء، فمن قال: إنّه متَّصِل، تمسَّك بالأصل، ومن قال: إنّه منقطع، احتاج إلى دليل، والدّليل عليه ما روى النّسائيُّ وغيره أنّ النّبيَّ ﷺ كان أحيانًا ينوي صوم التّطوُّع ثمّ يُفطر، وفي البخاريِّ أنّه أمر جُويرية بنتَ الحارث أن تُفطر يومَ الجمعة بعد أن شَرَعت فيه، فدلَّ على أنّ الشّروع في العبادة لا يستلزم الإتمام إذا كانت نافلةً، بهذا النّصِ في الصّوم، وبالقياس في الباقي، فإن قيل: يَرِدُ الحجَّ. قلنا: لا؛ لأنّه امتاز عن غيره بلزوم الْمُضيِّ في فاسده؛ فكيف في صحيحه؟! وكذلك امتاز بلزوم الكفّارة في نفله كفرضه، واللّه أعلم. على أنّ في استدلال الحنفيّة نظرًا؛ لأنّهم لا يقولون بفرضيّة الإتمام؛ بل بوجوبه، واستثناء الواجب من الفرض منقطع؛ لتباينهما، وأيضًا فإنّ الاستثناء من النّفي عندهم ليس للإثبات؛ بل مسكوت عنه، وقوله: «إلّا أن تطوَّع» استثناء من قوله: «لا»؛ أي: لا فرض عليك غيرها. قوله: «وذكر رسول اللّه ﷺ الزّكاة» في رواية إسماعيل بن جعفر قال: «أخبرني بما فرض اللّه عليَّ من الزّكاة» قال: «فأخبره رسول اللّه ﷺ بشرائع الإسلام»، فتضمَّنت هذه الرّواية أنّ في القصّة أشياءَ أُجملت؛ منها: بيان نصب الزّكاة، فإنّها لم تفسَّر في الرّوايتين، وكذا أسماء الصّلوات، وكأنّ السّبب فيه شهرة ذلك عندهم، أو القصد من القصّة بيان أنّ المتمسِّك بالفرائض ناجٍ، وإن لم يفعل النّوافل"[5]
قال ابن بطَّال : "وقوله ﷺ: «إلا أن تطَّوع» ندبٌ إلى التطوُّع، وقوله: «أفلح إن صدق»؛ أي: فاز بالبقاء الدائم في الخير والنعيم الذي لا يَبِيد. والفلاح في اللغة: البقاء، وهو معنى قول المؤذِّن: حيَّ على الفلاح؛ أي: هلمُّوا إلى العمل المؤدِّي إلى البقاء"[6]
قال النوويُّ : "قَوْلُهُ ﷺ: «إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ» استثناء منقطع، ومعناه: لكن يُستحبُّ لك أن تطَّوَّع، وجعله بعض العلماء استثناءً متَّصلًا، واستدلُّوا به على أن من شرع في صلاة نَفْل أو صوم نفل، وجب عليه إتمامه، ومذهبنا أنّه يُستحبُّ الإتمام ولا يجب، واللّه أعلم. قوله: (فأدبر الرّجل وهو يقول: واللّه لا أزيد على هذا ولا أنقص)، فقال رسول اللّه ﷺ: «أفلح إن صدق» قيل: هذا الفلاح راجع إلى قوله: (لا أنقص) خاصّةً، وإلا ظهر أنّه عائد إلى المجموع؛ بمعنى: أنّه إذا لم يزد ولم يَنقُص كان مُفلِحًا؛ لأنّه أتى بما عليه، ومن أتى بما عليه فهو مفلح، وليس في هذا أنّه إذا أتى بزائد لا يكون مفلحًا؛ لأنّ هذا ممّا يُعرَف بالضّرورة، فإنّه إذا أفلح بالواجب، فلأن يُفلح بالواجب والمندوب أولى، فإن قيل: كيف قال: «لا أزيد على هذا»، وليس في هذا الحديث جميع الواجبات ولا المنهيَّات الشّرعيّة، ولا السُّنن المندوبات؟ فالجواب: أنّه جاء في رواية البخاريِّ في آخر هذا الحديث زيادة توضِّح المقصود؛ قال: فأخبره رسول اللّه ﷺ بشرائع الإسلام، فأدبر الرّجل وهو يقول: (واللّه لا أزيد ولا أنقص ممّا فرض اللّه تعالى عليّ شيئًا)، فعلى عموم قوله: (بشرائع الإسلام)، وقوله: (ممّا فرض اللّه عليّ) يزول الإشكال في الفرائض، وأمّا النّوافل، فقيل: يُحتمَل أنّ هذا كان قبل شرعها، وقيل: يُحتمَل أنّه أراد: لا أزيد في الفرض بتغيير صفته؛ كأنّه يقول: لا أصلِّي الظُّهْرَ خمسًا، وهذا تأويل ضعيف، ويُحتمَل أنّه أراد: أنّه لا يصلّي النّافلة مع أنّه لا يُخِلُّ بشيء من الفرائض، وهذا مُفلح بلا شكٍّ، وإن كانت مواظبته على ترك السُّنن مذمومةً، وتُرَدُّ بها الشّهادة، إلّا أنّه ليس بعاصٍ؛ بل هو مفلح ناجٍ، واللّه أعلم"[7]
قال ابن رجب : "ومُراد الأعرابيِّ أنّه لا يَزيد على الصّلاة المكتوبة، والزّكاة المفروضة، وصيام رمضان، وحجِّ البيت شيئًا من التّطوُّع، ليس مرادُه أنّه لا يعمل بشيء من شرائع الإسلام وواجباته غيرِ ذلك، وهذه الأحاديثُ لم يُذكَر فيها اجتناب المحرَّمات؛ لأنّ السّائل إنّما سأله عن الأعمال الّتي يَدخُل بها عاملها الجنَّة"[8]
المراجع
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (1/ 104- 105).
- "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (1/ 108).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 517).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 104).
- "فتح الباري" لابن حجر (1/ 107).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 107).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (1/ 167).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 517).