عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: رأيتُ النبيَّ ﷺ يَرْمي على راحلتِهِ يومَ النَّحْرِ، ويقول: «لِتأخُذوا مناسكَكم؛ فإني لا أدْري لعلِّي لا أحُجُّ بعد حَجَّتي هذه.

عناصر الشرح

غريب الحديث

مناسككم: المناسك جمعُ مَنْسك -بفَتح السين وكَسرها-: أفعال الحجِّ وشعائره [1].

المراجع

1. قال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر" (5/ 48): "الْمَنْسك هو المتعبَّد، ويقع على المصدر والزمان والمكان، ثم سُمِّيت أمور الحج كلها مناسك".

المعنى الإجماليُّ للحديث

(يروي جابر رضي الله عنهما يقول: رأيتُ النبيَّ يَرْمي على راحلتِهِ يومَ النَّحْرِ)؛ أي: يرمي راكبًا؛ ليُريَ أصحابه كيف يَرمي، وليُبيِّن لهم أن الرميَ يجوز ماشيًا وراكبًا.

يقول : «لِتأخُذوا مناسكَكم»؛ أي: خُذوا عني مناسكَكم. «فإني لا أدْري لعلِّي لا أحُجُّ بعد حَجَّتي هذه»: فيه إشارةٌ إلى توديعهم وإعلامِهم بقُرب وفاته ﷺ، وحثِّهم على الاعتناء بالأخذ عنه، وانتهازِ الفُرصة من ملازمته، وتعلُّم أمور الدّين.


الشرح المفصَّل للحديث

في هذا الحديث بيانُ قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهي تقريرُ حُجِّيَّة أفعال النبيِّ ﷺ، وأنها كقوله في الاتِّباع ووجوب الامتثال.

قوله: (رأيتُ النبيَّ ﷺ يَرْمي على راحلته يومَ النحر)؛ أي: يرمي راكبًا، وهذا ليُريَ أصحابه كيف يَرمي، وكيف يؤدِّي مناسك الحجِّ [1]، وليُبيِّن لهم أن الرميَ يجوز ماشيًا وراكبًا [2].

وقد أجمع أهلُ العلم على أن الرميَ يُجزئ كيف كان ماشيًا أو راكبًا إذا رمى في الْمَرمى، غيرَ أنهم اختلفوا في الأفضل؛ فذهب مالك والشافعيُّ إلى أن السُّنَّة لِمَن وصل مِنًى راكبًا أن يرميَ جمرة العقبة يوم النحر راكبًا، ومَن وَصَل إليها ماشيًا، استُحِبَّ له أن يرميَها ماشيًا، أما أيام التشريق، ففي السُّنَّة في اليومينِ الأوَّلين أن يرميَ ماشيًا، وفي اليوم الثالث يرمي راكبًا، تأسِّيًا بفعله، وذهب أحمدُ بنُ حنبلٍ، وإسحاقُ بنُ راهوَيْهِ إلى أن السُّنَّة يوم النحر الرمي ماشيًا، وهذا - كما قلنا - خلافٌ في الأحسن والأفضل [3].

وقوله: «لتأخذوا مناسكَكم» اللام هنا لام الأمر، والمعنى: خُذوا عني مناسكَكم، أمرٌ للاقتداء به، وإحالة على فِعله الذي وقع به البيانُ لِمُجمَلات الحجِّ في كتاب الله تعالى، فهو كقوله ﷺ في الصلاة في الحديث عن مالكِ بنِ الحُوَيرث: «صَلُّوا كما رأيتُموني أُصلي» [4]، فيَلزَم من هذا أن تكون أفعاله في الصلاة والحجِّ واجبةً، إلا ما دلَّ الدليل على عدم وجوبها [5].

قال ابن الطيِّب: "ما كان من أفعال الرسول ﷺ بيانًا لِمُجمَل؛ كالصلاة، والصيام، والحجِّ، وما دعا إلى فعله كقوله: «خذوا عني مناسككم»، وقوله: «صَلُّوا كما رأيتُموني أُصلي»؛ فلا خلافَ بين العلماء أنها على الوجوب" [6].

وتقدير هذا الأمر: هذه الأمور التي أتيتُ بها في حَجَّتي من الأقوال والأفعال والهيئات هي أمور الحجِّ وصفته، وهي مناسكُكم فخُذوها عني، واقْبَلوها، واحفَظوها، واعملوا بها، وعلِّموها الناس [7].

وقوله: «لعلِّي لا أحُجُّ بعد حجَّتي هذه»، (لعلَّ) قد تُفيد الظن، فيكون المراد: لا أدْري ما يُفعَل بي، وأظنُّ أني لا أحُجُّ بعد حَجَّتي هذه، وقد تُفيد التحقيق كما تُستخدم في القرآن، فيكون قد أيقن ﷺ بموته؛ وذلك لأنه قد أُنزِلَت عليه:

﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾

[المائدة: 3]،

ولقول فاطمة رضي الله عنها في الحديث لَمَّا أسرَّ إليها النبيُّ ﷺ قبل موته فبكت، فلمَّا مات قالت: "أَسَرَّ إليَّ: «إن جبريل كان يُعارِضُني القرآن كلَّ سَنة مرةً، وإنه عارضني العام مرتينِ، ولا أراه إلا حضر أَجَلي» [8]؛ فربما قال ذلك بناءً على هذه الْمُنَبِّئات [9].

فقوله ذلك فيه إشارةٌ إلى توديعهم وإعلامهم بقُرْب وفاته ﷺ، وحَثِّهم على الاعتناء بالأخذِ عنه وانتهاز الفرصة من ملازمته، وتعلُّم أمور الدين منه قبل أن يُدركه الأجَل [10].

وهذه الحَجَّة التي حَجَّها هي حجَّته الوحيدة، وقد سُمِّيت حَجَّة الوداع لقوله ﷺ فيها: «لعلي لا أحجُّ بعد حجَّتي هذه»، وطفِق بعدها يودِّع أصحابه ويَعِظهم [11].





المراجع

1. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (3/ 400).

2. انظر: "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (3/ 312).

3. انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 45)، "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1997)، "تحفة الأحوذي" للمباركفوري (3/ 549).

4. رواه البخاريُّ (6008).

5. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (3/ 399).

6. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (10/ 345).

7. "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 45).

8. رواه البخاريُّ (3624)، ومسلم (2450).

9. انظر: "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1998)، "تفسير ابن رجب الحنبليِّ" (1/ 312).

10. انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 45)، "فيض القدير" للمناويِّ (5/ 260).

11. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (3/ 297)، "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقن (11/ 565).






النقول

قال ابن الأثير رحمه الله: "الْمَنْسك هو المتعبَّد، ويقع على المصدر والزمان والمكان، ثم سُمِّيت أمور الحجِّ كلها مناسك" [1].

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "الحجُّ في اللغة القَصْدُ، وفي الشرع: قَصْدُ البيت على الوجه المخصوص في الزمان المخصوص، وهو شوَّال، وذو القَعْدَة، وعَشْرُ ليالٍ من ذي الحِجَّة" [2].

قال النوويُّ رحمه الله: "فيه دلالة لما قاله الشّافعيُّ وموافقوه أنّه يُستحبُّ لمن وصل منًى راكبًا أن يرميَ جمرة العقبة يوم النّحر راكبًا، ولو رماها ماشيًا جاز، وأمّا من وصلها ماشيًا فيرميها ماشيًا، وهذا في يوم النّحر، وأمّا اليومان الأوّلان من أيّام التّشريق، فالسُّنّة أن يرميَ فيهما جميع الجمرات ماشيًا، وفي اليوم الثّالث يرمي راكبًا، ويَنفِر، هذا كلُّه مذهب مالك والشّافعيِّ وغيرهما، وقال أحمدُ وإسحاق: يُستحبُّ يومَ النحر أن يرميَ ماشيًا. قال ابن المنذر: وكان ابن عمر وابن الزُّبير وسالم يرمون مشاةً، قال: وأجمعوا على أنّ الرّميَ يجزيه على أيِّ حال رماه إذا وقع في المرمى، وأمّا قوله ﷺ: «لتأخذوا مناسككم»، فهذه اللّام لام الأمر، ومعناه: خذوا مناسككم، وهكذا وقع في رواية غير مسلم، وتقديره هذه الأمور الّتي أتيت بها في حَجَّتي من الأقوال والأفعال والهيئات هي أمور الحجِّ وصِفته، وهي مناسككم، فخذوها عني، واقبلوها، واحفظوها، واعملوا بها، وعلِّموها النّاس، وهذا الحديث أصل عظيم في مناسك الحجِّ، وهو نحو قوله ﷺ في الصّلاة: «صلّوا كما رأيتموني أصلّي»،

وقوله ﷺ:

«لعلّي لا أحجّ بعد حجّتي هذه»

فيه إشارة إلى توديعهم وإعلامهم بقُرب وفاته ﷺ، وحثِّهم على الاعتناء بالأخذ عنه، وانتهاز الفرصة من ملازمته، وتعلُّم أمور الدّين، وبهذا سُمِّيت حجَّة الوداع، واللّه أعلم" [3].

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "ويجوز أن تكون اللام للتعليل، والمعلَّل محذوف، و(لعلي) مستأنف؛ أي: لا أدري ما يُفعَل بي؛ أي: أظن أني لا أحجُّ، ويُحتمَل أن يكون للتحقيق، كما يقع في كلام الله تعالى كثيرًا" [4].

قال الملا علي القاري رحمه الله: "وفي فتاوى قاضِيخَانْ، قال أبو حنيفة ومحمّد - رحمهما اللّه -: الرّميُ كلُّه راكبًا أفضل. اهـ؛ لأنّه رُوي ركوبه - عليه والصّلاة والسّلام - فيه كلِّه، وكأنّ أبا يوسف يحمل ما رُوي من ركوبه - عليه الصّلاة والسّلام - في رمي الجمار كلِّها على أنّه ليُظهِر فعلَه فيُقتدى به، ويُسأل، ويُحفَظ عنه المناسك، كما ذكر في طوافه راكبًا في الظَّهيريّة أطلق استحباب المشي. قال: يُستحبُّ المشيُ إلى الجمار، وإن ركب إليها فلا بأس به، والمشيُ أفضل، وتظهر أولويّته لأنّا إذا حملنا ركوبه - عليه الصّلاة والسّلام - على ما قلنا، يبقى كونه مؤدِّيًا عبادةً، وأداؤها ماشيًا أقرب إلى التّواضع، والخشوع، وخصوصًا في هذا الزّمان، فإنّ عامَّة المسلمين مُشاة في جميع الرّمي، فلا يأمن من الأذى بالرّكوب منهم بالزّحمة اهـ. كلامه عليه الرّحمة. (ويقول): عطف على يرمي، فيكون من قَبيل: عَلَفْتُها تِبْنًا وماءً باردًا، أو الجملة حاليَّة. (لتأخذوا): واللّام لام أمر؛ أي: خذوا عنّي مناسككم، واحفظوها وعلّموها النّاس على طريقة: (فلتفرحوا) بالخطاب شاذًّا. قال الطّيبيُّ - رحمه اللّه -: ويجوز أن تكون اللّام للتّعليل، والمعلَّل محذوف؛ أي: يقول: إنّما فعلت لتأخذوا عنّي مناسككم؛ «فإنّي لا أدري» مفعوله محذوف؛ أي: لا أعلم ماذا يكون «لعلّي لا أحجّ بعد حجّتي» بفتح الحاء، وهي محتمَل أن يكون مصدرًا، وأن يكون بمعنى السَّنة (هذه)؛ أي: الّتي أنا فيها" [5].

قال الشوكانيُّ رحمه الله: "قَوْلُهُ: «لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ» فيه إشارة إلى توديعهم، وإعلامِهم بقُرب وفاته ﷺ؛ ولهذا سمُّيِت حَجَّةَ الوداع" [6].

قال ابن القيم رحمه الله: "فالله سبحانه جعل لأهل كل مِلَّة يومًا يتفرَّغون فيه للعبادة، ويتخلَّون فيه عن أشغال الدنيا، فيومُ الجمعة يومُ عبادة، وهو في الأيام كشهر رمضانَ في الشهور، وساعةُ الإجابة فيه كليلة القدر في رمضان؛ ولهذا من صحَّ له يوم جمعته وسَلِم، سَلِمت له سائر جُمعته، ومن صحَّ له رمضان وسلم، سلمت له سائر سنته، ومن صحت له حجته وسلمت له، صحَّ له سائر عمره، فيومُ الجمعة ميزان الأسبوع، ورمضانُ ميزان العام، والحجُّ ميزانُ العمر" [7].

قال نافع رحمه الله: كان ابن عمر ﭭ يأتي الجمارَ في الأيام الثلاثة بعدَ يومِ النحر ماشيًا ذاهبًا وراجعًا، ويُخبر أنَّ النبيَّ ﷺ كان يفعلُ ذلك [8].



المراجع

1. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (5/ 48).

2. "شرح المشكاة = الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1936).

3. "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 45).

4. "شرح المشكاة = الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1998).

5. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (5/ 1814، 1815).

6. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (5/ 80).

7. "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (1/ 386).

8. "شرح مسند الشافعي" للرافعي (4/ 280).




مشاريع الأحاديث الكلية