المعنى الإجماليُّ للحديث
عن أَنَسِ بْن مَالِكٍ، قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «يا بْنَ آدَمَ»
نداءٌ لكلِّ بني آدم؛ أي: أيها الإنسان. «إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي»؛ أي: إنك ما دُمْتَ تدعوني، وترجو مَغفِرتي. «غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي»؛ أي: غفرتُ لك جميع ذنوبك غيرَ مُبالٍ بكثرتها. «يا بْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ»؛ أي: لو كانت ذنوبُكَ تملأ ما بين السماء والأرض. «ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، وَلَا أُبَالِي»؛ أي: ثم تبتَ إليَّ توبةً نَصُوحًا، وطلبتَ مني المغفرة بصدق وإخلاص وافتقار، غفرتُ لك جميع هذه الذنوب، غيرَ مُبالٍ بكثرتها. «يا بْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرضِ خَطَايَا»؛ أي: لو أتيتَني بما يقارب مِلْءَ الأرض ذنوبًا ومَعَاصيَ. «ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا، لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً»؛ أي: ثم متَّ على التوحيد والإيمان لا تُشرك بي شيئًا، لأتيتُكَ بمِلْئِها رحمةً ومغفرةً.
الشرح المفصَّل للحديث
العبدُ مأمورٌ بعبادة الله على الدَّوَام، وفي كلِّ الأوقات، وعلى جميع الأحوال؛
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾
إلا أن الإنسان بطبعه كثيرُ الذنوب والمعاصي؛
عَنْ أَنَسِ بْن مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:
«كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»
فكان من رحمة الله تعالى أن فَتَح له أبواب مغفرته، إذا ما دعا الله، وأقبل إليه، مهما عظُمت ذنوبُه؛
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ۚ﴾
فالذنوبُ مهما عظُمت، فرحمةُ الله أعظم، طالما أنه موحِّد لربِّه، لا يُشرك به شيئًا.
وفي الحديث
عَنْ أَنَسِ بْن مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ ﷺ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «يا بْنَ آدَمَ»: نداءٌ لم يُرِدْ به أحدًا بعَينه؛ فالنداء لجميع بني آدمَ، «إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي»
أي: ما دُمْتَ تدعوني، وترجو مَغفِرتي، ولا تَقنَط من رحمتي، «غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي»؛ أي: غفرتُ لك جميع ذنوبك، فلا تَعظُم عليَّ، ولا أبالي بكثرتها، "وفي عدم المبالاة معنى
﴿لَا يُسۡـَٔلُ عَمَّا يَفۡعَلُ﴾
وهو معنى
﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾
فالله - عزَّ وجلَّ - يغفر الذنوب، صغيرَها وكبيرَها، ومن صفاته وأسمائه الحسنى أنه غفور رحيم، ومعنى (غفرتُ لك): سترتُ عليك ذنوبَكَ، فلا أُعاقبُكَ بها، والعفوُ مِثْلُ الغفران، تقول: عَفَوْتُ عن الرجل، إذا تركتُ ذنبه ولم تُعاقبه، وأشار ابن عطيَّة رحمه الله إلى فرق لطيف بينهما؛ فقال:
﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ﴾
فيما واقَعْناه وانكَشَف،
أي: اسْتُرْ ما علمتَ منا،
تفضَّل مبتدِئًا برحمة منك"[3]
قوله: «يا بْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ»؛ أي: لو كانت ذنوبُكَ بحيث تملأ ما بين السماء والأرض، والتعبيرُ بهذا اللفظ فيه دلالةٌ على كثرة الذنوب، «ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، وَلَا أُبَالِي»؛ أي: ثم طلبتَ مني المغفرة بصدق وإخلاص وافتقار، وتبتَ إليَّ توبةً نَصوحًا، غفرتُ لك جميع هذه الذنوب، غيرَ مُبالٍ بكثرتها، فإذا كانت الذنوب والخطايا كبيرةً، فعفوُه أعظمُ وأكبر؛
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ - عزَّ وجلَّ - قَالَ
«أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا، فَقَالَ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ
قوله:
«يا بْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرضِ خَطَايَا»؛ أي: لو جئتني بملء الأرض ذنوبًا ومَعَاصيَ، «ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا، لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً»
أي: ثم متَّ على التوحيد والإيمان لا تُشرك بي شيئًا، لجِئتُكَ بمِلْئِها رحمةً وغُفرانًا، وفيه: دلالة على فضل التوحيد وأهميته، وأنه سببٌ لمغفرة الذنوب؛
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ۚ﴾
والحديث من أرجى الأحاديث في السنَّة، وأعظمِها، ففيه بيانُ سَعةِ عَفْوِ الله تعالى، ومغفرته لذنوب عباده، ورحمته بهم، وهو يدلُّ على عِظَم شأن التوحيد، والأجر الذي أَعَدَّه الله للموحِّدين، كما أن فيه الحثَّ والترغيب على الاستغفار، والتوبة، والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى. والدعاء من أعظم وأجلِّ العبادات التي يتقرَّب بها العبد إلى ربِّه؛
فعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِير رضي الله عنه، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ»
ثُمَّ قَرَأَ
﴿ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ﴾
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾
فالله تعالى أَمَرنا بالدعاء، ووَعَدنا بالإجابة، وفي الدعاء إظهارُ الذُّلِّ، والافتقار، والحاجة إلى الله تعالى.
ولقبول الدعاء شروطٌ لابدَّ من توفُّرها، وهي:
- الإخلاص لله تعالى؛
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله الله، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:
قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»
- ألَّا يدعوَ المرء بإثم أو قطيعة رحم، ولا يتعجَّل الإجابة؛
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله الله، عَنِ النَّبِيِّ ﷺأَنَّهُ قَالَ:
«لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ، مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ»
- أن يدعوَ بقلب حاضر، وهو موقِن بالإجابة؛
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله الله، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ»
ومن أعظم شروط الدعاء: حضورُ القلب، ورجاءُ الإجابة من الله تعالى؛ إذ الرجاءُ فيه حُسْنُ ظنٍّ بالله؛
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله الله، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:
يَقُولُ اللهُ - عزَّ وجلَّ -: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي….»
فلا يكون العبد متردِّدًا في الدعاء، أو شاكًّا في الإجابة؛ بل يَجزِم في الدعاء، ولا يعلِّقه على المشيئة؛
عَنْ أَنَسِ بْن مَالِكٍ رضي الله الله، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ، وَلا يَقُولَنَّ: اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِي؛ فَإِنَّهُ لا مُسْتَكْرِهَ لَهُ»
ويُلِحُّ في الدعاء، حتى وإن طالت المدَّة، فالله يحُّب الْمُلِحِّين في الدعاء، وما دام العبدُ يُلِحُّ في الدعاء، ولم يقطع الرجاء في الإجابة، وفيما عند الله؛ فإن الله يستجيب له، ويُبلِّغه مطلوبه ولو بعد حِين، ومن أَدمَن قَرْعَ الباب يوشك أن يُفتَح له؛
﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾
والاستغفار: هو طلب المغفرة، والمغفرةُ: هي وقايةُ شرِّ الذنوب مع سَتْرِها، ويُستحبُّ للعبد أن يُكثِر من الاستغفار في شتَّى الأوقات والأحوال، فهو سببٌ من أسباب غفران الذنوب والمعاصي، حتى لو بلغت من كثرتها السَّحاب، فملأت ما بين السماء والأرض؛
«يا بْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، وَلَا أُبَالِي»
﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾
وقد أمر الله به المؤمنين،
﴿وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾
﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾
فكان من هَدْيِ النبيِّ أن يستغفِرَ في اليوم أكثرَ من سبعين مرَّةً، وفي رواية: أكثر من مِائة مرَّةٍ؛
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله الله، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ:
«وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً»
وعَنِ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ رضي الله الله، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ
«إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ، فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ»
وفي هذا دلالة على أهمية الاستغفار وعظم ثوابه، حتى إن النبيَّ كان يداوم عليه في اليوم أكثرَ من مِائة مرَّةٍ، وقد مَدَح الله المؤمنين بكثرة الاستغفار؛
﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾
والاستغفارُ الذي يُوجِب المغفرةَ، هو: الاستغفار مع عدم الإصرار على المعصية والذنب؛
﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾
فلا إصرار مع الاستغفار، وهو دواء ناجع، وعلاج مفيد للذنوب؛ قال قتادةُ: "إن هذا القرآن يدلُّكم على دائكم ودوائكم، فأما داؤكم، فالذنوب، وأما دواؤكم، فالاستغفار"[13]
وللاستغفار صِيَغ متعدِّدة يَطلُب بها العبد مغفرة ربِّه، فيقول: "أستغفر الله"، أو يقول: "اللهم اغفر لي" ، وأفضل هذه الصيغ "سيد الاستغفار"،
كما في حديث شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ:
أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ» قَالَ: «وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ»
وللاستغفار ثمار كثيرة، من أهمها:
توبة الله على المستغفِر، وإصابة رحمته؛
﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾
﴿لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾
أمانٌ من العذاب؛
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾
إصابة السعادة والسرور، والتمتُّع في الحياة؛
﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾
نزول الغَيث، وزيادة المال، وكثرة الأولاد؛
﴿فَقُلۡتُ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارٗا (10) يُرۡسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡكُم مِّدۡرَارٗا (11) وَيُمۡدِدۡكُم بِأَمۡوَٰلٖ وَبَنِينَ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ جَنَّٰتٖ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ أَنۡهَٰرٗا (12)﴾
زيادة القوَّة؛
﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ﴾
ومن أعظم أسباب المغفرة، وأجلّها عند الله تعالى: توحيدُه، وإفرادُه بالعبادة، وترك الشرك؛
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۙ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾
وفي الحديث:
«يا بْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً».
والتوحيد هو دعوة الرسل لأممهم وأقوامهم؛
﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾
والتوحيد ليس مجرَّد كلمةٍ تُنطَق باللسان، من غير فَهم لمعناها، أو عمل بمقتضاها؛ بل هي شهادة منك، وإقرارٌ بأن تعبد الله وحدَه، وتَكفُر بما سواه، واستسلامٌ وانقياد لله تعالى، وطاعة لله ورسوله، وتعلُّق القلب بالله سبحانه محبَّةً وتعظيمًا، وإجلالاً ومَهابةً، وخشية ورجاءً وتوكُّلاً؛ فمن حقَّق ذلك، كان من أهل الجنة؛
عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله الله، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، دَخَلَ الْجَنَّةَ».
المراجع
- رواه أحمد (13049)، والترمذيُّ (2499)، وابن ماجه (4251)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (3139).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1845).
- "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" لابن عطية (1/ 395).
- رواه البخاريُّ (7507)، ومسلم (2758).
- رواه أبو داود (1479)، والترمذيُّ (3247)، والنسائيُّ (3828)، وابن ماجه (3828)، وقال الترمذيُّ: حسن صحيح، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح سنن أبي داود" (3247).
- رواه مسلم (2985).
- رواه مسلم (2985).
- رواه الترمذيُّ (3479)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1653).
- رواه البخاريُّ (7405)، ومسلم (2675).
- رواه البخاريُّ (6338)، ومسلم (2678).
- رواه البخاريُّ (6307).
- رواه مسلم (2702).
- جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 415).
- رواه البخاريُّ (6306).
النقول
قال ابن رجب رحمه الله: "وَقَوْلُهُ: «إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي، غَفَرْتُ لَكَ مَا كَانَ مِنْكَ وَلَا أُبَالِي» يعني: على كثرة ذنوبك وخطاياك، ولا يتعاظَمَني ذلك، ولا أستكثره، وفي الصّحيح
«إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيُعْظِمِ الرَّغْبَةَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ»
؛ فذنوبُ العبد وإن عَظُمت، فإنَّ عفو اللّه ومغفرته أعظمُ منها وأعظم، فهي صغيرةٌ في جنب عفو اللّه ومغفرته" [1].
قال الطيبيُّ رحمه الله: "قوله: «ما دعوتني»؛ أي: ما دمتَ تَدْعوني، وترجو مغفرتي، ولا تَقنَط من رحمتي، فإني أغفر لك، ولا يَعظُم عليَّ مغفرتُك، وإن كانت ذنوبك كثيرةً، وفي عدم المبالاة معنى قوله: ﮋ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ﮊ. قوله: «عنان السماء»: العَنان السَّحَابُ، يمكِن أن يُجعَل من باب
﴿فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ﴾
تصويرًا لارتفاع شأن السحاب، وأنها بلغت السماء، وأن يُجعَل من قوله:
﴿أَوْ كَصَيِّبٍۢ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ﴾
فإن فائدة ذكر السماء، والصيِّب لا يكون إلا منها، أنه جيء بها معرفة، فبَقِي أن يتصوَّر من سماء؛ أي: من أُفق واحد من بين سائر الآفاق؛ لأن كلَّ أُفق من آفاقها سماء. و«قُراب الأرض» مِلاؤها، ومِثْلُه طباقها وطِلاعها. قوله: «خطايا» تمييز من الإضافة، نحو قولِكَ: مِلاء الإناءِ عسلاً. قوله: «ثم لقيني لا يشرك» «ثم» للتراخي في الإخبار، وأن عدم الشرك مطلوب أوليٌّ؛ ولذلك أعاد «لقيني» وعلَّقه به، وإلا لكان يكفي أن يقال: لو لقيني بقُراب الأرض خطايا لا يُشرك بي" [2].
قال ابن رجب رحمه الله: "السّبب الثّاني للمغفرة: الاستغفار، ولو عَظُمت الذّنوب، وبلغت الكثرة عَنَان السّماء، وهو السَّحاب. وقيل: ما انتهى إليه البصر منها، وفي الرّواية الأخرى: «لو أخطأتم حتّى بلغت خطاياكم ما بين السّماء والأرض، ثمّ استغفرتم اللّه لغفر لكم»، والاستغفار: طلب المغفرة، والمغفرة: هي وقاية شرّ الذّنوب مع سترها"" [3].
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "في هذا الحديث بِشارةٌ عظيمة، وحِلْمٌ وكَرَم عظيم، وما لا يُحصى من أنواع الفضل، والإحسان، والرأفة، والرحمة، والامتنان" [4].
قال ابن رجب رحمه الله: "وكثيرًا ما يُقرَن الاستغفار بذكر التّوبة، فيكون الاستغفار حينئذ عبارةً عن طلب المغفرة باللّسان، والتّوبةُ عبارةً عن الإقلاع من الذّنوب بالقلوب والجوارح. وتارةً يُفرَد الاستغفار، ويرتَّب عليه المغفرة، كما ذُكر في هذا الحديث وما أشبهه، فقد قيل: إنّه أُريد به الاستغفار المقترن بالتّوبة، وقيل: إنّ نصوص الاستغفار المفرَدة كلَّها مطلَقة تقيَّد بما ذُكر في آية "آل عمران" من عدم الإصرار؛ فإنّ اللّه وعد فيها بالمغفرة لمن استغفره من ذنوبه ولم يُصِرَّ على فعله، فتُحمَل النّصوص المطلَقة في الاستغفار كلُّها على هذا المقيَّد، ومجرَّد قول القائل: اللّهمّ اغفر لي. طلب منه للمغفرة ودعاء بها، فيكون حكمه حكمَ سائر الدّعاء، فإن شاء اللّه أجابه وغفر لصاحبه، لا سيّما إذا خرج عن قلب منكسِر بالذّنب، أو صادف ساعةً من ساعات الإجابة؛ كالأسحار وأدبار الصّلوات. ويُروى عن لقمان - عليه السّلام - أنّه قال لابنه: يا بُنيَّ عوِّدْ لسانك: اللّهمّ اغفر لي؛ فإنّ للّه ساعاتٍ لا يَرُدُّ فيها سائلًا. وقال الحسن: أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقكم، وفي أسواقكم، وفي مجالسكم أينما كنتم؛ فإنّكم ما تدرون متى تنزل المغفرة. وخرَّج ابن أبي الدّنيا في كتاب "حسن الظّنّ"
من حديث أبي هريرة مرفوعًا:
«بَيْنَمَا رَجُلٌ مُسْتَلْقٍ إِذْ نَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ وَإِلَى النُّجُومِ، فَقَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ لَكِ رَبًّا خَالِقًا، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، فَغَفَرَ لَهُ»، وعن مُوَرِّقٍ قال: كان رجل يعمل السّيّئاتِ، فخرج إلى البرِّيّة، فجمع ترابًا، فاضطجع عليه مستلقيًا، فقال: ربِّ اغفر لي ذنوبي، فقال: إنّ هذا ليَعرِف أنّ له ربًّا يغفر ويعذِّب، فغفر له. وعن مغيث بن سُمَيٍّ، قال: بينما رجل خبيث، فتذكَّر يومًا، فقال: اللّهمّ غُفرانَكَ، اللّهمّ غفرانك، اللّهمّ غفرانك، ثمّ مات، فغُفر له.
ويشهد لهذا ما في الصّحيحين
عن أبي هريرة، عن النّبيّ ﷺ:
«أَنَّ عَبْدًا أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْ لِي، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِهِ، غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ، فَذَكَرَ مِثْلَ الْأَوَّلِ مَرَّتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ»
وفي رواية لمسلم أنّه قال في الثّالثة: «قد غفرتُ لعبدي، فليعمل ما شاء» والمعنى: ما دام على هذا الحال كلَّما أذنب استغفر. والظّاهر أنّ مراده الاستغفار المقرون بعدم الإصرار؛ ولهذا في حديث أبي بكر الصّدّيق،
«مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً»
أخرَّجه أبو داود والتّرمذيُّ" [5].
قال ابن عطيَّة رحمه الله: "في قوله تعالى:
﴿وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَآ﴾
فيما واقَعْناه وانكَشَف،
أي: اسْتُرْ ما علمتَ منا،
تفضَّل مبتدِئًا برحمة منك" [6]،
قال قتادةُ رحمه الله: "إن هذا القرآن يدلُّكم على دائكم ودوائكم، فأما داؤكم، فالذنوب، وأما دواؤكم، فالاستغفار" [7].
قال ابن رجب رحمه الله: "وأمّا استغفار اللّسان مع إصرار القلب على الذّنب، فهو دعاء مجرَّد، إن شاء اللّه أجابه، وإن شاء ردَّه. وقد يكون الإصرار مانعًا من الإجابة، وفي المسند من حديث عبد اللّه بن عمرو مرفوعًا: «ويل للّذين يُصِرُّون على ما فعلوا وهم يعلمون»، وخرَّج ابن أبي الدّنيا من حديث ابن عبّاس مرفوعًا: «التّائب من الذّنب كمن لا ذنب له، والمستغفِر من ذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربِّه» ورفعه منكَر، ولعلّه موقوف. قال بعض العارفين: من لم يكن ثمرة استغفاره تصحيحَ توبته، فهو كاذب في استغفاره، وكان بعضهم يقول: استغفارنا هذا يحتاج إلى استغفار كثير. فأفضل الاستغفار ما اقترن به ترك الإصرار، وهو حينئذ توبة نَصوح، وإن قال بلسانه: أستغفر اللّه وهو غير مقلِع بقلبه، فهو داعٍ للّه بالمغفرة، كما يقول: اللّهمّ اغفر لي، وهو حسن، وقد يُرجى له الإجابة، وأمّا من قال: توبة الكذّابين، فمُراده أنّه ليس بتوبة، كما يعتقده بعض النّاس، وهذا حقٌّ؛ فإنّ التّوبة لا تكون مع الإصرار" [8].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "الحديث يسمَّى عند المحدِّثين قُدسيًّا، والحديث القُدسيُّ: كلُّ ما رواه النبيُّ ﷺ عن ربِّه عزَّ وجلَّ. لأنه منسوب إلى النبيِّ ﷺ تبليغًا، وليس من القرآن بالإجماع، وإن كان كلُّ واحد منهما قد بلَّغه النبيُّ ﷺ أمَّته عن الله عزَّ وجلَّ. وقد اختلف العلماء - رحمهم الله - في لفظ الحديث القدسيِّ: هل هو كلام الله تعالى، أو أن الله تعالى أوحى إلى رسوله ﷺ معناه، واللفظُ لفظ رسول الله ﷺ؟ على قولين: القول الأول: أن الحديث القدسيَّ من عند الله لفظُه ومعناه؛ لأن النبيَّ ﷺ أضافه إلى الله تعالى، ومن المعلوم أن الأصل في القول المضاف أن يكون بلفظ قائله لا ناقلِه، لا سيَّما أن النبيَّ ﷺ أقوى الناس أمانةً، وأوثقُهم روايةً.
القول الثاني: أن الحديث القدسيَّ معناه من عند الله، ولفظه لفظ النبيِّ ﷺ، وذلك لوجهين:
الوجه الأول: لو كان الحديث القدسيُّ من عند الله لفظًا ومعنًى، لكان أعلى سندًا من القرآن؛ لأن النبيَّ ﷺ يرويه عن ربِّه تعالى بدون واسطة، كما هو ظاهر السياق، أما القرآن، فنزل على النبيِّ ﷺ بواسطة جبريل عليه السلام؛ كما قال تعالى:
﴿قُلْ نَزَّلَهُۥ رُوحُ ٱلْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ﴾
وقال:
﴿نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلْأَمِينُ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّۢ مُّبِينٍۢ﴾
الوجه الثاني: أنه لو كان لفظ الحديث القدسيِّ من عند الله، لم يكن بينه وبين القرآن فرقٌ؛ لأن كِلَيهما على هذا التقدير كلام الله تعالى، والحكمةُ تقتضي تساويهما في الحكم حين اتَّفَقا في الأصل، ومن المعلوم أن بين القرآن والحديث القدسيِّ فروقًا كثيرة، منها: أن الحديث القدسيَّ لا يُتعَّبد بتلاوته؛ بمعنى: أن الإنسان لا يتعبَّد اللهَ تعالى بمجرَّد قراءته؛ فلا يثاب على كلِّ حرف منه عشْرَ حسنات، والقرآن يُتعبَّد بتلاوته بكلِّ حرف منه عشْرُ حسنات. ومنها: أن الله عزَّ وجلَّ تحدَّى أن يأتيَ الناس بمثل القرآن أو آية منه، ولم يَرِد مثلُ ذلك في الأحاديث القدسيَّة.
ومنها: أن القرآن محفوظ من عند الله عزَّ وجلَّ؛
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ﴾
والأحاديث القدسية بخلاف ذلك؛ ففيها الصحيح والحسن؛ بل أُضيف إليها ما كان ضعيفًا أو موضوعًا، وهذا وإن لم يكن منها؛ لكن نُسِب إليها، وفيها التقديم والتأخير، والزيادةُ والنقص. ومنها: أن القرآن لا تجوز قراءته بالمعنى بإجماع المسلمين، أما الأحاديث القدسية، فعلى الخلاف في جواز نقل الحديث النبويِّ بالمعنى، والأكثرون على جوازه. ومنها: أن القرآن تُشرَع قراءته في الصلاة، ومنه ما لا تصحُّ الصلاة بدون قراءته، بخلاف الأحاديث القدسية. ومنها: أن القرآن لا يمسُّه إلا طاهر على الأصحِّ، بخلاف الأحاديث القدسية. ومنها: أن القرآن لا يقرؤه الجُنُب حتى يغتسل على القول الراجح، بخلاف الأحاديث القدسية. ومنها: أن القرآن ثبت بالتواتُر القطعيِّ المفيد للعلم اليقينيِّ، فلو أَنكَر منه حرفًا أجمع القرَّاء عليه، لكان كافرًا، بخلاف الأحاديث القدسية؛ فإنه لو أَنكَر شيئًا منها مدَّعيًا أنه لم يثبت، لم يكفر، أما لو أنكره مع علمه أن النبيَّ ﷺ قاله، لكان كافرًا؛ لتكذيبه النبيَّ ﷺ. وأجاب هؤلاء عن كون النبيِّ ﷺ أضافه إلى الله، والأصل في القول المضاف أن يكون لفظ قائله بالتسليم أن هذا هو الأصل؛ لكن قد يُضاف إلى قائله معنًى لا لفظًا؛ كما في القرآن الكريم؛ فإن الله تعالى يُضيف أقوالًا إلى قائليها، ونحن نعلم أنها أضيفت معنًى لا لفظًا، كما في قصص الأنبياء وغيرهم، وكلام الهُدْهُد والنَّمْلَة؛ فإنه بغير هذا اللفظ قطعًا. وبهذا يتبيَّن رجحان هذا القول، وليس الخلاف في هذا كالخلاف بين الأشاعرة وأهل السنَّة في كلام الله تعالى؛ لأن الخلاف بين هؤلاء في أصل كلام الله تعالى؛ فأهل السنَّة يقولون: كلام الله تعالى كلام حقيقيٌّ مسموع يتكلَّم سبحانه بصوت وحرف، والأشاعرة لا يُثبتون ذلك؛ وإنما يقولون: كلام الله تعالى هو المعنى القائم بنفسه، وليس بحرف وصوت؛ ولكن الله تعالى يَخلُق صوتًا يعبِّر به عن المعنى القائم بنفسه، ولا شكَّ في بطلان قولهم، وهو في الحقيقة قول المعتزلة؛ لأن المعتزلة يقولون: القرآن مخلوق، وهو كلام الله، وهؤلاء يقولون: القرآن مخلوق، وهو عبارة عن كلام الله، فقد اتَّفَق الجميع على أن ما بين دفَّتي المصحف مخلوق. ثم لو قيل في مسألتنا (الكلام في الحديث القدسيِّ): إن الأَولَى ترك الخَوض في هذا؛ خوفًا من أن يكون من التنطُّع الهالك فاعلُه، والاقتصار على القول بأن الحديث القدسيَّ ما رواه النبيُّ ﷺ عن ربِّه وكفى. لكان ذلك كافيًا، ولعلَّه أسلمُ، والله أعلم" [9].
1. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 406).
2. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1845، 1846).
3. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 407).
4. "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 137).
5. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 407 - 409).
6. "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" لابن عطية (1/ 395).
7. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 415).
8. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 409، 410).
9. "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 236 - 238).