الفوائد العلمية
في هذا الحديث بِشارةٌ عظيمة، وحِلْمٌ وكَرَم عظيم، وما لا يُحصى من أنواع الفضل، والإحسان، والرأفة، والرحمة، والامتنان[1]
هذا الحديث من أرجى الأحاديث في السنَّة، وأعظمِها، ففيه بيانُ سَعةِ عَفْوِ الله تعالى، ومغفرته لذنوب عباده، ورحمته بهم، وهو يدلُّ على عِظَم شأن التوحيد، والأجر الذي أَعَدَّه الله للموحِّدين.
في الحديث الحثُّ والترغيب على الاستغفار، والتوبة، والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى.
الدعاء من أعظم وأجلِّ العبادات التي يتقرَّب بها العبد إلى ربِّه؛
فعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِير رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ»
ثُمَّ قَرَأَ
﴿ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ﴾
دَلَّ الله تعالى الإنسان على طريق الخير وطريق الشرِّ، وتَرك له حرية الاختيار بينهما؛
﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾
﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ( 7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾
أي: بيَّن لها الخير والشرَّ، وهداها لما قُدِّر لها، ثم أرسل الرُّسل، وأنزل الكتب؛ حتى يستقيم الإنسان على عبادته، فيَحُوز خيرَيِ الدنيا والآخرة.
إن الإنسان وهو سائر في طريقه إلى الله، معرَّض للوقوع في الذنوب والمعاصي والأخطاء؛ إذ النقصُ من جملة صفاته؛
﴿وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾
إذا كان الإنسان بطبعه كثيرَ المعاصي، فإن ذلك ليس مبرِّرًا له في الاسترسال في الذنوب والمعاصي، فهو مأمورٌ بتصحيح ذنبه؛ قال ﷺ: «وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»[3]؛ أي: والخيرية والأفضلية إنما تكون للرّجَّاعين والتائبين والمستغفرين، إلى الله بالتوبة من المعصية إلى الطاعة.
﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾
أثنى على المستغفِرين، وفي ضِمْنِ ثنائه بالاستغفار لوَّح بالأمر به، كما قيل: إن كلَّ شيء أَثنى اللهُ على فاعله، فهو آمِرٌ به، وكلَّ شيء ذَمَّ فاعلَه، فهو ناهٍ عنه[4].
على المسلم إذا ما أَذنَب أن يُسارع إلى التوبة، ولا يَيْئَس من رحمة الله عزَّ وجلَّ، فاليأس من رحمة الله صفة من صفات الكافرين وأهل الضلال؛
﴿وَلَا تَاْيْـَٔسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ ۖ إِنَّهُۥ لَا يَاْيْـَٔسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْقَوْمُ ٱلْكَٰفِرُونَ﴾
﴿قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِۦٓ إِلَّا ٱلضَّآلُّونَ﴾
إن العبد الصالح كلَّما قارَف ذنبًا، عاد مسرِعًا تائبًا من ذنبه، منيبًا إلى ربِّه، لا أنه مُصِرٌّ على الذنوب، وذلك معنى
﴿إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٍۢ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍۢ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًۭ﴾
11. إذا تاب المذنبون، وأنابوا إلى ربهم، قَبِل توبتهم، وفتح لهم أبواب رحمته
﴿وَهُوَ ٱلَّذِى يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِۦ وَيَعْفُواْ عَنِ ٱلسَّيِّـَٔاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾
12. إن الإنسان بطبعه كثيرُ الذنوب والمعاصي، فكان من رحمة الله تعالى أن فَتَح له أبواب مغفرته، إذا ما دعا الله، وأقبل إليه، مهما عظُمت ذنوبُه؛
عَنْ أَنَسِ بْن مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:
«كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»
«إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيُعْظِمِ الرَّغْبَةَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ»؛ فذنوبُ العبد وإن عَظُمت، فإنّ عفوَ اللّه ومغفرته أعظم منها وأعظمُ، فهي صغيرة في جنب عفوِ اللّه ومغفرته
13. الاستغفار: طلب المغفرة، والمغفرةُ: هي وقاية شرِّ الذّنوب مع سَتْرها[7]
14. كثيرًا ما يُقرَن الاستغفار بذكر التّوبة، فيكون الاستغفارُ حينئذ عبارةً عن طلب المغفرة باللّسان، والتّوبةُ عبارةً عن الإقلاع من الذّنوب بالقلوب والجوارح[8].
15.تارةً يُفرَد الاستغفار، ويرتَّب عليه المغفرة، كما ذُكِر في هذا الحديث وما أشبهه، فقد قيل: إنّه أُريد به الاستغفار المقترن بالتّوبة، وقيل: إنّ نصوص الاستغفار المفرَدة كلَّها مطلَقة تقيَّد بما ذُكر في الآية:
﴿وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوْ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾
16. من عدم الإصرار، فإنّ اللّه وعد فيها بالمغفرة لمن استغفره من ذنوبه، ولم يُصِرَّ على فعله، فتُحمَل النّصوص المطلَقة في الاستغفار كلُّها على هذا المقيَّد[9].
17.مجرَّد قول القائل: اللّهمّ اغفر لي. هو طلبٌ منه للمغفرة ودعاءٌ بها، فيكون حكمه حكمَ سائر الدّعاء، فإن شاء اللّه أجابه وغفر لصاحبه، لا سيَّما إذا خرج عن قلب منكسِر بالذّنب، أو صادَف ساعةً من ساعات الإجابة؛ كالأسحار وأدبار الصّلوات[10]
18. إن استغفار اللّسان مع إصرار القلب على الذّنب، هو دعاء مجرَّد، إن شاء اللّه أجابه، وإن شاء ردَّه. وقد يكون الإصرار مانعًا من الإجابة[11]
19.قال بعض العارفين: من لم يكن ثمرة استغفاره تصحيحَ توبته، فهو كاذب في استغفاره، وكان بعضهم يقول: استغفارنا هذا يحتاج إلى استغفار كثير[12]
20. أفضل الاستغفار ما اقترن به ترك الإصرار، وهو حينئذ توبة نَصوح[13].
21. إن قال بلسانه: أستغفر اللّه، وهو غير مقلِع بقلبه، فهو داعٍ للّه بالمغفرة، كما يقول: اللّهمّ اغفر لي، وهو حسن، وقد يُرجى له الإجابة، وأمّا من قال: توبة الكذّابين، فمُراده أنّه ليس بتوبة، كما يعتقده بعض النّاس، وهذا حقٌّ؛ فإنّ التّوبة لا تكون مع الإصرار[14].
22. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ،
فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ - عزَّ وجلَّ - قَالَ: «أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا، فَقَالَ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ»
23. من شروط قبول الدعاء: الإخلاص لله تعالى؛
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»
24. من شروط قبول الدعاء: ألَّا يدعوَ المرء بإثم أو قطيعة رحم، ولا يتعجَّل الإجابة؛
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ:
«لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ، مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ
25. من شروط قبول الدعاء: أن يدعوَ بقلب حاضر، وهو موقِن بالإجابة؛
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ»
26. من أعظم شروط الدعاء: حضورُ القلب، ورجاءُ الإجابة من الله تعالى؛ إذ الرجاءُ فيه حُسْنُ ظنٍّ بالله؛
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: يَقُولُ اللهُ - عزَّ وجلَّ -: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي....»
27. على العبد أن لا يكون متردِّدًا في الدعاء، أو شاكًّا في الإجابة؛ بل يَجزِم في الدعاء، ولا يعلِّقه على المشيئة؛
عَنْ أَنَسِ بْن مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ، وَلا يَقُولَنَّ: اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِي؛ فَإِنَّهُ لا مُسْتَكْرِهَ لَهُ»
28. على العبد أن يُلِحَّ في الدعاء، حتى وإن طالت المدَّة؛ فالله تعالى يحُّب الْمُلِحِّين في الدعاء، وما دام العبدُ يُلِحُّ في الدعاء، ولم يقطع الرجاء في الإجابة، وفيما عند الله؛ فإن الله يستجيب له، ويُبلِّغه مطلوبه ولو بعد حِين.
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ﴾
فالله تعالى أَمَرنا بالدعاء، ووَعَدنا بالإجابة، وفي الدعاء إظهارُ الذُّلِّ، والافتقار، والحاجة إلى الله تعالى.
﴿قوَمَن يَعْمَلْ سُوٓءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُۥ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُورًۭا رَّحِيمًۭ﴾
وقد أمر الله المؤمنين بالاستغفار
﴿وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌۭ رَّحِيمٌۭ﴾
﴿وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَٰعًا حَسَنًا إِلَىٰٓ أَجَلٍۢ مُّسَمًّۭى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِى فَضْلٍۢ فَضْلَهُۥ﴾
31. عَنِ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ:
«إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ، فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ»
32. للاستغفار صِيَغٌ متعدِّدة يَطلُب بها العبد مغفرة ربِّه، فيقول: "أستغفر الله"، أو يقول: "اللهم اغفر لي" ، وأفضل هذه الصيغ "سيد الاستغفار"، كما في حديث شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه:
أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:
«سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ» قَالَ: «وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ
33. من ثمار الاستغفار: توبة الله على المستغفِر، وإصابة رحمته؛
﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوٓءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُۥ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُورًۭا رَّحِيمًۭا﴾
34. من ثمار الاستغفار: أنه أمانٌ من العذاب؛
﴿لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾
35. من ثمار الاستغفار: إصابة السعادة والسرور، والتمتُّع في الحياة؛
﴿وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾
﴿وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَٰعًا حَسَنًا إِلَىٰٓ أَجَلٍۢ مُّسَمًّۭى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِى فَضْلٍۢ فَضْلَهُۥ﴾
36. من ثمار الاستغفار: نزول الغَيث، وزيادة المال، وكثرة الأولاد؛
﴿فَقُلۡتُ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارٗا (10) يُرۡسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡكُم مِّدۡرَارٗا (11) وَيُمۡدِدۡكُم بِأَمۡوَٰلٖ وَبَنِينَ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ جَنَّٰتٖ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ أَنۡهَٰرٗا﴾
37. من ثمار الاستغفار: زيادة القوَّة؛
﴿وَيَٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًۭا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ﴾
38 حذَّر النبيُّ ﷺ من المداوَمَة على فعل الصغائر؛ لأن فيها هلاكًا للعبد؛
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:
«إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ؛ فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ»
39. حذَّر النبيُّ الْمُصِرِّين على الصغائر بالوَيْلِ والعذاب الشديد؛
فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو بْنِ الْعَاص رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ
أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: «وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ»
40. إن باب التوبة مفتوح لا يُغلِقه الله تعالى في وجوه عباده ما لم تَبلُغ الرُّوح الحُلْقوم؛
فعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:
«إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ»
فالله عزَّ وجلَّ يَقبَل توبة عبده ما لم يَحضُره الموت، أو تَطلُع الشمس من مغربها؛
﴿وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ حَتَّىٰٓ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنِّى تُبْتُ ٱلْـَٰٔنَ﴾
41. إن الله يَفرَح بتوبة عبده، أكثرَ من فرح رجل وجد طعامه وشرابه في الصحراء بعدما فَقَدهما، وأَشرَف على الهلاك؛
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن مَسْعُود قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، يَقُولُ:
«للَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، مِنْ رَجُلٍ فِي أَرْضٍ دَوِّيَّةٍ مَهْلِكَةٍ، مَعَهُ رَاحِلَتُهُ، عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ، فَطَلَبَهَا حَتَّى أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ، ثُمَّ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِيَ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ، فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَاللهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ»
42. كان النبيُّ ﷺ يستغفر في اليوم أكثرَ من سبعين مرَّةً؛
عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ:
«وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً»
43. للتوبة شروطٌ لابدَّ منها حتى تُقبَل، هي: إخلاص النية لله تعالى، والإقلاع عن المعصية، والندم على ارتكابها، والعَزْمُ على عدم العودة إلى المعصية، وإرجاع الحقوق إلى أصحابها، إذا كان الذنب متعلِّقًا بحقٍّ من حقوق العباد، وأن تكون في الوقت المخصَّص لقَبولها؛ أي: قبل طلوع الشمس من مغربها، وقبل لحظة الموت.
44. من فضائل التوبة: أنها سببٌ لنَيل محبَّة الله تعالى؛
﴿إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلْمُتَطَهِّرِينَ﴾
45. من فضائل التوبة: أنها سببٌ لنور القلب ومحوِ أثر الذنب؛
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:
«إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً، نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ، سُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ؛ ﴿كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: 14]»
46. من فضائل التوبة: أنها سببٌ لتكفير السيِّئات، وغفران الذنوب؛
﴿إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلًۭا صَٰلِحًۭا فَأُوْلَٰٓئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّـَٔاتِهِمْ حَسَنَٰتٍۢ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورًۭا رَّحِيمًۭ﴾
47. من فضائل التوبة: أنها سببٌ لدخول الجنة، والنجاة من النار؛
﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِکَ یَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا یُظْلَمُونَ شَیْئًا﴾
48. من فضائل التوبة: أنها سببٌ لنزول الغَيث، وزيادة القوَّة؛
﴿وَيَٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًۭا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ﴾
49.من فضائل التوبة: أنها سببٌ للتوفيق والفلاح؛
﴿وَتُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾
50. الاستغفار يكون على وجهين؛ الأول: طلب المغفرة باللفظ بأن يقول: اللهم اغفر لي، أو أستغفر الله. والثاني: طلب المغفرة بالأعمال الصالحة التي تكون سببًا لذلك؛
«مَنْ قَالَ: سُبحَانَ اَلله وَبِحَمْدِهِ في اليَوم مائَةَ مَرةٍ، غُفِرَت خَطَايَاه وَإِنْ كَانَت مِثْلَ زَبَدِ البَحْر»
51. إن الله تعالى يغفر الذنوب جميعًا، وهذا لمن استغفر، أما من لم يستغفر، فإن الصغائر تكون مكفَّرةً بالأعمال الصالحة؛
«الصلَواتُ الخَمسُ، وَالجُمُعَة إِلى الجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَينَهُنَّ مَا اجتَنَبَ الكَبَائِرَ»
وأما الكبائر، فلابدَّ لها من توبة خاصَّة، فلا تكفِّرها الأعمال الصالحة، أما الكفر، فلابدَّ له من توبة بالإجماع[31].
52. الذنوب على ثلاثة أقسام: قسم لابدَّ فيه من توبة بالإجماع، وهو الكفر، والثاني: ما تكفِّره الأعمال الصالحة، وهو الصغائر، والثالث: ما لابدَّ له من توبة، على خلاف في ذلك؛ لكن الجمهور يقولون: إن الكبائر لابدَّ لها من توبة[32]
53. اللهُ سبحانه لا تنفعُه طاعةُ المطيعين، ولا تضرُّه معصيةُ العاصين، مع كمال غناه عن خَلقه، فلم يخلقهم ليتقوَّى بهم من ضعف، ولا يتكثَّر بهم من قلَّة؛ بل خَلَقَهم ليعبدوه؛
﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ (56) مَآ أُرِيدُ مِنۡهُم مِّن رِّزۡقٖ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطۡعِمُونِ (57) إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلۡقُوَّةِ ٱلۡمَتِينُ﴾
المراجع
- شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 137).
- رواه أبو داود (1479)، والترمذيُّ (3247)، والنسائيُّ (3828)، وابن ماجه (3828)، وقال الترمذيُّ: حسن صحيح، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح سنن أبي داود" (3247).
- رواه أحمد (13049)، والترمذيُّ (2499)، وابن ماجه (4251)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (3139).
- فتح الباري" لابن حجر (2/ 320).
- رواه أحمد (13049)، والترمذيُّ (2499)، وابن ماجه (4251)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (3139).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 406).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 407).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 407).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 407).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 407).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 407).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 407).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 407).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 407).
- رواه البخاريُّ (7507)، ومسلم (2758).
- رواه مسلم (2985)
- رواه مسلم (2735).
- رواه الترمذيُّ (3479)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1653).
- رواه البخاريُّ (7405)، ومسلم (2675).
- رواه البخاريُّ (6338)، ومسلم (2678).
- رواه مسلم (2702).
- واه البخاريُّ (6306).
- رواه أحمدُ (22808)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح.
- رواه أحمدُ (6541)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الأدب المفرد" (ص: 151).
- رواه أحمد (6160)، والترمذيُّ (3537)، وابن ماجه (4253) وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (3143).
- رواه البخاريُّ (6308)، ومسلم (2744).
- رواه البخاريُّ (6307).
- رواه الترمذيُّ (3334)، وابن ماجه (4244)، وقال الترمذيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
- رواه مسلم (2691).
- رواه مسلم (233).
- شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 248).
- شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 249).
الفوائد العقدية
54. من أسماء الله الحسنى أنه غفور رحيم؛
﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ﴾
فالله - عزَّ وجلَّ - يغفر الذنوب، صغيرَها وكبيرَها.
55. من أعظم أسباب المغفرة، وأجلّها عند الله تعالى: توحيدُه، وإفرادُه بالعبادة، وترك الشرك؛
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10)﴾
﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِۦ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفْتَرَىٰٓ إِثْمًا عَظِيمًا﴾
وفي الحديث: «يا بْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً».
56. «ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا، لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً» فيه: دلالة على فضل التوحيد وأهميته، وأنه سببٌ لمغفرة الذنوب؛
﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِۦ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفْتَرَىٰٓ إِثْمًا عَظِيمًا﴾
فمهما عظُمت الذنوب، فرحمةُ الله أعظم؛ طالما أنه موحِّد لربِّه، لا يُشرك به شيئًا.
الفوائد الحديثية
57. مُسْنَدُ أنس بن مالك رضي الله عنه: ألفان ومِائتان وسِتَّةٌ وثمانون، اتَّفَق له البخارِيُّ ومسلم على مِائة وثمانين حديثًا، وانفرد البخاريُّ بثمانين حديثًا، ومسلم بتسعين[1]
58. الحديث القُدسيُّ: كلُّ ما رواه النبيُّ ﷺ عن ربِّه عزَّ وجلَّ. لأنه منسوب إلى النبيِّ ﷺ تبليغًا، وليس من القرآن بالإجماع، وإن كان كلُّ واحد منهما قد بلَّغه النبيُّ ﷺ أمَّته عن الله عزَّ وجلَّ[2]
59. اختلف العلماء - رحمهم الله - في لفظ الحديث القدسيِّ: هل هو كلام الله تعالى، أو أن الله تعالى أوحى إلى رسوله ﷺ معناه، واللفظُ لفظ رسول الله ﷺ؟ على قولين؛ الأول: أن الحديث القدسيَّ من عند الله لفظه ومعناه؛ لأن النبيَّ ﷺ أضافه إلى الله تعالى، ومن المعلوم أن الأصل في القول المضاف أن يكون بلفظ قائله لا ناقلِه، لا سيَّما أن النبيَّ ﷺ أقوى الناس أمانةً، وأوثقُهم روايةً. والثاني: أن الحديث القدسيَّ معناه من عند الله، ولفظه لفظ النبيِّ ﷺ[3]
60. لو كان الحديث القدسيُّ من عند الله لفظًا ومعنًى، لكان أعلى سندًا من القرآن؛ لأن النبيَّ ﷺ يرويه عن ربه تعالى بدون واسطة، كما هو ظاهر السياق، أما القرآن، فنزل على النبيِّ ﷺ بواسطة جبريل عليه السلام؛
﴿قُلْ نَزَّلَهُۥ رُوحُ ٱلْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ﴾
وقال:
﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ 193 عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ 194 بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾
61. لو كان لفظ الحديث القدسيِّ من عند الله، لم يكن بينه وبين القرآن فرقٌ؛ لأن كِلَيهما على هذا التقدير كلام الله تعالى، والحكمةُ تقتضي تساويهما في الحكم حين اتَّفَقا في الأصل، ومن المعلوم أن بين القرآن والحديث القدسيِّ فروقًا كثيرة[5].
62. من الفروق بين القرآن والحديث القدسيِّ: أن الحديث القدسيَّ لا يُتعَّبد بتلاوته؛ بمعنى: أن الإنسان لا يتعبَّد اللهَ تعالى بمجرَّد قراءته؛ فلا يثاب على كلِّ حرف منه عشْرَ حسنات، والقرآن يُتعبَّد بتلاوته بكلِّ حرف منه عشْرُ حسنات[6]
63. من الفروق بين القرآن والحديث القدسيِّ: أن الله عزَّ وجلَّ تحدَّى أن يأتيَ الناس بمثل القرآن أو سورة منه، ولم يَرِد مثلُ ذلك في الأحاديث القدسيَّة[7]
64. من الفروق بين القرآن والحديث القدسيِّ: أن القرآن محفوظ من عند الله عزَّ وجلَّ؛ كما
﴿إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ﴾
والأحاديث القدسية بخلاف ذلك؛ ففيها الصحيح والحسن؛ بل أُضيف إليها ما كان ضعيفًا أو موضوعًا، وهذا وإن لم يكن منها؛ لكن نُسِب إليها، وفيها التقديم والتأخير، والزيادةُ والنقص[8]
65. من الفروق بين القرآن والحديث القدسيِّ: أن القرآن لا تجوز قراءته بالمعنى بإجماع المسلمين، أما الأحاديث القدسية، فعلى الخلاف في جواز نقل الحديث النبويِّ بالمعنى، والأكثرون على جوازه[9]
66. من الفروق بين القرآن والحديث القدسيِّ: أن القرآن تُشرَع قراءته في الصلاة، ومنه ما لا تصحُّ الصلاة بدون قراءته، بخلاف الأحاديث القدسية[10]
67. من الفروق بين القرآن والحديث القدسيِّ: أن القرآن لا يمسُّه إلا طاهر على الأصحِّ، بخلاف الأحاديث القدسية[11]
68. من الفروق بين القرآن والحديث القدسيِّ: أن القرآن لا يقرؤه الجُنُب حتى يغتسل على القول الراجح، بخلاف الأحاديث القدسية[12]
69. من الفروق بين القرآن والحديث القدسيِّ: أن القرآن ثبت بالتواتُر القطعيِّ المفيد للعلم اليقينيِّ، فلو أَنكَر أحدٌ منه حرفًا أجمع القرَّاء عليه، لكان كافرًا، بخلاف الأحاديث القدسية؛ فإنه لو أَنكَر شيئًا منها مدَّعيًا أنه لم يثبت، لم يكفر، أما لو أنكره مع علمه أن النبيَّ ﷺ قاله، لكان كافرًا؛ لتكذيبه النبيَّ ﷺ[13]
70. إن أحسن ما يقال في الحديث القدسيِّ: إنه ما رواه النبيُّ ﷺ عن ربِّه عزّ وجل، ونقتصر على هذا ولا نبحث هل هو من قول الله لفظًا ومعنى، أو من قول الله معنى ومن لفظ النبيِّ ﷺ؛ لأن هذا فيه نوع من التكلُّف، وقد نُهينا عن التكلُّف، ونُهينا عن التنطُّع وعن التعمُّق[14]
المراجع
- "سير أعلام النبلاء" للذهبيِّ (4/423).
- شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 236)
- شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 236)
- شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 236)
- شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 236)
- "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 236، 237).
- شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 237).
- "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 237).
- "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 237).
- "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 237).
- "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 237).
- "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 237).
- "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 237).
- شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 243).
الفوائد اللغوية
71. معنى (غفرتُ لك): سترتُ عليك ذنوبكَ، فلا أُعاقبُكَ بها، والعفوُ مِثْلُ الغفران، تقول: عَفَوْتُ عن الرجل، إذا تركتُ ذنبه ولم تُعاقبه.
72. قُراب الأرض خطايا: مِلْؤُها، فخطايا: تمييز من الإضافة، نحو قولِكَ: مِلء الإناءِ عسلاً.