عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «إنَّ أخْوَفَ ما أخافُ عليكم الشِّركُ الأصْغَرُ»، قالوا: وما الشِّركُ الأصْغَرُ يا رسولَ اللهِ؟ قال: «الرِّياءُ؛ يقولُ اللهُ - عزَّ وجلَّ - لهم يومَ القِيامةِ إذا جُزِيَ الناسُ بأعمالِهم: اذْهَبوا إلى الذين كنتُم تُراؤون في الدُّنيا، فانظُروا هل تَجِدون عِندَهُم جزاءً؟!»

عناصر الشرح

غريب الحديث:

الرِّيَاءُ: مصدر راءَى، فاعَلَ، ومصدرُه يأتي على بناء مُفَاعَلة وفِعَال، وهو مهموز العَين؛ لأنّه من الرُّؤية، ويجوز تخفيفها بقلبها ياءً، وحقيقتُه لغةً: أن يُرِيَ غيرَه خلاف ما هو عليه [1]

المراجع

  1.  "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 660).

المعنى الإجماليُّ للحديث:

يروي محْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ رضِي الله عنه عن رَسُولِ اللَّهِ ‏ﷺ  أنه قال: «إنَّ أخْوَفَ ما أخافُ عليكم الشِّركُ الأصْغَرُ»، قالوا: وما الشِّركُ الأصْغَرُ يا رسولَ اللهِ؟ قال: «الرِّياءُ»: جعل النبيُّ ﷺ الرياءَ من الشرك الأصغر، الذي هو أخوفُ ما يخاف علينا؛ لأنه قد يَدخُل في قلب الإنسان من غير شعور؛ لخفائه وتطلُّع النفْس إليه؛ فإن كثيرًا من النفوس تُحبُّ أن تُمدَح بالتعبُّد لله؛ فالرياء هو إظهارُ الشخصِ العبادةَ لقصد رؤية الناس، فيَحمَدونه عليها.

قوله ﷺ: «يقولُ اللهُ - عزَّ وجلَّ - لهم يومَ القِيامةِ إذا جُزِيَ الناسُ بأعمالِهم: اذْهَبوا إلى الذين كنتُم تُراؤون في الدُّنيا، فانظُروا هل تَجِدون عِندَهُم جزاءً؟!»: دليلٌ على أن الله - عزَّ وجلَّ - يُحبط أعمالهم تلك، ولا يُجازيهم بها.

الشرح المفصَّل للحديث

يُبيِّن النبيُّ  في هذا الحديث أمرًا خطيرًا، وذَنبًا من مُحبِطات الأعمال، وهو الرياء، وقد سمَّاه النبيُّ  شِركًا لخطورته.

وقد حرَص النبيُّ  على استرعاء أسماع المخاطَبين، فجذب انتباههم بقوله: «إن أخوف ما أخاف عليكم»، فكأنه يُثير حفيظتَهم إلى معرفة ذلك الأمر الجَلَل.

وقوله: «الشرك الأصغر» يدُلُّ على أن الشركَ شِركَان: أكبرُ، وهو الذي يَخرُج به المرءُ عن مسمَّى الإسلام، وشركٌ أصغرُ، وهو ما كان من قَبيل المعاصي التي مَنْشَؤُها طاعةُ غير الله، أو خوفُه، أو رجاؤه، أو تعظيمه، كما ورد في النصِّ على أمور أنها من الشرك؛ كالحَلِف بغير الله، وعلى مَن قال: ما شاء الله وشئتَ، وكذلك التشاؤم، وإتيان الكهَّان، والرُّقى المكروهة، وغير ذلك مما لا يُنافي التوحيدَ منافاةً مطلقةً[1]

على أن هذه الأمور قد تكون من الشرك الأكبر؛ فإن الإنسان إذا حلَف بغير الله معتقدًا تعظيمَه، وكذلك لو صدَّق الكُهَّان في زعمهم أنهم يعلمون الغيب، والرياء كذلك إنْ كان في كلِّ أعماله، أو كان الرياء في أصل الاعتقاد، وكذلك إن ظنَّ أن التمائم والرُّقى هي التي تمنع الضرَّ، وتكشف المرض[2]

وقد اختلف العلماء في الشرك الأصغر: هل يدخُل تحت المشيئة كغيره من الذنوب، ويكون المراد

بقوله تعالى:

﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفۡتَرَىٰٓ إِثۡمًا عَظِيمًا ﴾

[النساء: 48]

مقصورًا على الشِّرك الأكبر فحسبُ؟ أم يدخل فيه كلُّ ما يُسمَّى شِركًا، فلا يغفره الله إلا بالتوبة؟ وعلى القولَينِ فصاحب الشرك الأصغر على خطرٍ عظيم، فينبغي عليه أن يُبادر إلى التوبة والإنابة[3]

والرياء: مشتَقٌّ من الرؤية، والمراد أن يُظهر الإنسانُ العبادةَ ليراها الناس فيحمَدوه عليها، فإذا صلَّى الإنسان، أو تصدَّق، أو قام الليل، أو جاهد في سبيل الله، يُريد أن يرى الناس فِعله، كان مُرائيًا[4]

ويُطلَق الرياء كذلك على كل ما يفعله الإنسان يُريد أن يَسمعَه غيرُه؛ كالصيام وقراءة القرآن؛ فالإنسان إن قرأ القرآن يُريد أن يَسمعَه الناسُ، كان مُرائيًا كذلك، وإن كان لا عَلاقة للرؤية بها، وإنما أُطلِق الرياء على الكل تغليبًا؛ كما يقال لأبي بكر وعمر: العُمَران[5]

وينقسم الرياء باعتبار الإسلام والشرك إلى قسمين:

القسم الأول: الرياء الذي يدخل في أصل الاعتقاد، وهذا شركٌ أكبرُ؛

قال تعالى:

﴿ وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُواْ ٱلزَّكَوٰةَۚ وَذَٰلِكَ دِينُ ٱلۡقَيِّمَةِ  ﴾

[البينة: 5].

القسم الثاني: وهو لِمَن سَلِم له عَقْد الإيمان من الشرك، ولحِقه شيءٌ من الرياء في بعض أعماله، فليس ذلك بمُخرِج من الإيمان إلا أنه مذمومٌ فاعلُه؛ لأنه أشرك في بعض أعماله حَمْدَ المخلوقين مع حَمْدِ ربِّه، فحُرِم ثوابَ عمله ذلك، وهذا الشرك الأصغر الذي سمَّاه النبيُّ [6]

والرياء إن كان من القسم الثاني، فهو من حيث إبطالُهُ العبادةَ ينقسم قسمين:

القسم الأول: أن يكون في أصل العبادة؛ كأن يكونَ ما قام للصلاة – مثلًا - إلا ليُرائيَ بها الناس، فهذا عمله باطلٌ مردودٌ؛

قال الله تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾

[البقرة: 264]،

وقال أيضًا:

﴿إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمۡ وَإِذَا قَامُوٓاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلٗا﴾  

[النساء: 142]

وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:

قال رسول الله ﷺ:

«قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَن عَمِل عملًا أشرك فيه معي غيري، تركتُه وشِرْكَه»

[7]

القسم الثاني: أن يكون أصلُ العمل لله، وإنما طرأ عليه الرياء؛ كأن يقومَ الرجُل يُصلي، ثم يرى أُناسًا يَنظُرون إليه، فيُطيل الركوعَ والسجودَ ونحوَ ذلك. فهذا على حالَينِ:

الحال الأُولى: أن يدافع ذلك الرياء، فهذا لا يَضرُّه.

الحال الثانية: أن يَسترسل معه ويَستمر، فهذا يُبطل فِعله[8]

وقوله : «يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ لهم يومَ القِيامةِ إذا جُزِيَ الناسُ بأعمالِهم: اذْهَبوا إلى الذين كنتُم تُراؤون في الدُّنيا، فانظُروا هل تَجِدون عِندَهُم جزاءً؟!» دليلٌ على أن الله - عزَّ وجلَّ - يُحبط

 أعمالهم تلك، ولا يُجازيهم بها. وقد أخرج مسلم عن أبي هريرة رضِي الله عنه، أن النبيَّ   قال: «إن أول الناس يُقْضى يومَ القيامة عليه رجُلٌ استُشهِدَ، فأُتِيَ به، فعرَّفه نِعَمَهُ فعرَفها، قال: فما عملتَ

 فيها؟ قال: قاتلتُ فيكَ حتى استُشهِدْتُ، قال: كذبتَ؛ ولكنكَ قاتلتَ لأنْ يُقالَ: جَريءٌ، فقد قيل، ثم أُمر به فسُحبَ على وجهه حتى أُلْقِيَ في النار. ورجُلٌ تعلَّم العلمَ وعلَّمه، وقرأ القرآنَ، فأُتِيَ به

 فعرَّفه نعمَه فعرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلَّمتُ العلمَ وعلَّمتُه، وقرأتُ فيكَ القرآن. قال: كذبتَ؛ ولكنكَ تعلَّمتَ العلم ليُقال: عالِمٌ، وقرأتَ القرآن ليُقال: هو قارئٌ، فقد قيل، ثم أُمر به فسُحِب

 على وجهه حتى أُلقي في النار. ورجُل وسَّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأُتي به فعرَّفه نِعمَه فعرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيل تحب أن يُنْفَقَ فيها إلا أنفقتُ فيها لكَ، قال: كذبتَ؛ ولكنكَ فعلتَ ليُقال: هو جَوَادٌ، فقد قيل، ثم أُمِرَ به فسُحِبَ على وجهه، ثم أُلْقيَ في النار»[9]

وعند مسلمٍ أيضًا 

عن ابن عباس رضِي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ:

«مَن سَمَّع سَمَّع اللهُ به، ومَن رَاءَى رَاءَى اللهُ به»

[10].

ومعناه: مَن رَاءى بعمله وسمَّعه الناس؛ ليُكرموه ويُعظِّموه ويَعتَقدوا خيره، سَمَّع الله به يوم القيامة الناسَ وفَضَحَه. وقيل: معناه: مَن أراد بعمله الناسَ، أسمعه اللهُ الناسَ، وكان ذلك حظَّه منه [11]

وإنما جعل النبيُّ الرياءَ وغيرَه من الشرك الأصغر أخوفَ ما يخاف علينا؛ لأنه قد يدخُل في قلب الإنسان من غير شعور؛ لخفائه وتطلُّع النفْس إليه؛ فإن كثيرًا من النفوس تُحب أن تُمدَح بالتعبُّد لله [12]

المراجع

  1.  انظر: "التوحيد" لابن رجب (ص: 23)، "شرح كشف الشبهات ويليه شرح الأصول الستة" لابن عثيمين (ص: 115).
  2.  انظر: "فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام" لابن عثيمين (6/ 357).
  3.  انظر: "القول المفيد على كتاب التوحيد" لابن عثيمين (1/ 207).
  4.  انظر: "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (3/ 410)، "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (6/ 615).
  5.  انظر: "القول المفيد على كتاب التوحيد" (1/ 117).
  6.  انظر: "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (1/ 113).
  7.  رواه مسلم (2985).
  8.  انظر: "القول المفيد على كتاب التوحيد" لابن عثيمين (1/ 118).
  9.  رواه مسلم (1905).
  10.  رواه مسلم (2986).
  11.  "شرح صحيح مسلم" للنووي (18/ 116).
  12.  انظر: "القول المفيد على كتاب التوحيد" لابن عثيمين (1/ 125).

النقول

قال ابن القيم رحمه الله: "فأما نجاسة الشرك فهي نوعان: نجاسة مغلَّظة، ونجاسة مخفَّفة، فالمغلَّظة: الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله عزَّ وجلَّ، فإن الله لا يغفر أن يشرك به. والمخفَّفة: الشرك الأصغر؛ كيسير الرياء، والتصنُّع للمخلوق، والحلِف به، وخوفه، ورجائه"[1]

قال الصنعانيُّ رحمه الله: "الرِّيَاءُ: مصدر راءَى، فاعَلَ، ومصدرُه يأتي على بناء مُفَاعَلة وفِعَال، وهو مهموز العَين؛ لأنّه من الرُّؤية، ويجوز تخفيفها بقلبها ياءً، وحقيقتُه لغةً: أن يُرِيَ غيرَه خلاف ما هو عليه، وشرعًا: أن يفعل الطّاعةَ، ويَترُك المعصية، مع ملاحظة غير اللّه، أو يُخبر بها، أو يحبَّ أن يطّلع عليها لمقصد دنيويٍّ من مال أو نحوه، وقد ذمَّه اللّه في كتابه، وجعله من صفات المنافقين في

قوله:

﴿إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمۡ وَإِذَا قَامُوٓاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلٗ﴾  

[النساء: 142]"[2]

قال ابن قدامة رحمه الله: "اعلم أنَّ أصلَ الرِّياء: حُبُّ الجاهِ والمنزلة، وإذا فُصِّلَ رَجَعَ إلى ثلاثةِ أُصولٍ، وهي: حُبُّ لذَّةِ الحمدِ، والفرارُ من ألم الذمِّ، والطمعُ فيما في أيدي الناس"[3]

قال ابن عثيمين رحمه الله: "والشرك على نوعين؛ النوع الأول: شركٌ أكبرُ مُخرِج عن الْمِلَّة، وهو كلُّ شِرْكٍ أَطلَقه الشارعُ وهو مُنافٍ للتوحيد منافاةً مُطلَقة؛ مثل أن يَصرِف شيئًا من أنواع العبادة لغير الله، بأن يُصلِّيَ لغير الله، أو يَذبَح لغير الله، أو يَنذِر لغير الله، أو أن يدعوَ غيرَ الله تعالى؛ مثل أن يدعوَ صاحبَ قَبْرٍ، أو يدعوَ غائبًا لإنقاذه من أمر لا يَقدِر عليه إلا الحاضر. وأنواعُ الشرك معلومةٌ فيما كَتَبه أهلُ العلم. النوع الثاني: الشركُ الأصغر وهو كلُّ عَمَل قَوليٍّ، أو فِعْليٍّ، أَطلَق عليه الشارع وَصْفَ الشرك؛ لكنه لا ينافي التوحيد منافاةً مُطلَقة؛ مثل: الحَلِف بغير الله؛ فالحالف بغير الله الذي لا يعتقد أن لغير الله تعالى من العَظَمة ما يُماثِل عظمة الله، مُشرِكٌ شركًا أصغرَ، ومثل الرياء، وهو خطير؛ قال فيه النبيُّ  ﷺ: «أخوفُ ما أخاف عليكم الشركُ الأصغرُ»، فسُئِل عنه، فقال: «الرياء»، وقد يَصِل الرياء إلى الشرك الأكبر، وقد مثَّل ابنُ القيِّم رحمه الله للشرك الأصغر بيسير الرياء، وهذا يدلُّ على أن كثير الرياء قد يصل إلى الشرك الأكبر، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن 

قوله تعالى:

﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفۡتَرَىٰٓ إِثۡمًا عَظِيمًا﴾

[النساء: 48]،

يشمل كلَّ شرك ولو كان أصغرَ، فالواجبُ الحَذَرُ من الشرك مُطلَقًا؛ فإن عاقبته وخيمة"[4]

قال ابن قدامة المقدسيُّ رحمه الله: "واعلم: أن الرياء مشتَقٌّ من الرؤية، والسُّمعة مشتقَّة من السَّمَاع، فالمرائي يُري الناسَ ما يَطلُب به الحَظْوة عندهم، وذلك أقسام؛ الأول: الرياء في الدين، وهو أنواع؛ أحدها: أن يكون من جهة البَدَن، بإظهار النُّحول والصَّفار؛ ليُريَهم بذلك شدَّة الاجتهاد، وغَلَبة خوف الآخرة... النوع الثاني: الرياء من جهة الزيِّ؛ كالإطراق حالة المشيِ، وإبقاء أثر السجود على الوجه، وغلظ الثياب، ولُبس الصُّوف... لتنصرف إليه الأعين بالتمييز بتلك العادة. وهؤلاء طبقات، منهم من يطلب المنزلة عند أهل الصلاح... وطبقة أخرى: يطلبون القَبول عند أهل الصلاح، وعند أهل الدنيا من الملوك والأمراء والتجَّار... والنوع الثالث: الرياء بالقول، ورياء أهل الدين بالوعظ والتذكير وحفظ الأخبار والآثار؛ لأجل المحاورة، وإظهار غزارة العلم والدلالة على شدة العناية بأحوال السلف، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس، وإظهار الغضب للمنكرات بين الناس، وخفض الصوت وترقيقه بقراءة القرآن؛ ليدلَّ بذلك على الخوف والحزن ونحو ذلك. والنوع الرابع: الرياء بالعمل، كمرآة المصلِّي بطول القيام، وتطويل الركوع والسجود، وإظهار الخشوع، ونحو ذلك... والنوع الخامس: المراءاة بالأصحاب والزائرين، كالذي يتكلَّف أن يستزير عالِمًا أو عابدًا؛ ليقال: إن فلانًا قد زار فلانًا، وإن أهل الدين يتردَّدون إليه، ويتبركون به، وكذلك من يرائي بكثرة الشيوخ، ليقال: لَقِيَ شيوخًا كثيرة، واستفاد منهم، فيباهى بذلك، فهذه مجامع ما يرائي به المراؤون، يطلبون بذلك الجاه والمنزلة في قلوب العباد.

ومنهم من يطلب مجرَّد الجاه، وكم من عابدٍ اعتزل في جبل، وراهبٍ انزوى إلى دير، مع قطع طمعهم من مال الناس؛ لكنه يحب مجرَّد الجاه! ومنهم من يكون قصده المال، ومنهم من قصده الثناء وانتشار الصيت"[5]

قال ابن تيمية رحمه الله: "والشرك له شُعَب تكبِّره وتنمِّيه، كما أن الإيمان له شُعب تكبِّره وتنمِّيه، وإذا كان كذلك، فإذا تقابلت الدعوتان، فمن قيل: إنه مشرك أَوْلى بالوعيد ممن قيل فيه: إنه ينتقص الرسول، فإن هذا إن كان مشركًا الشركَ الأكبر، كان مخلَّدًا في النار، وكان شرًّا من اليهود والنصارى، وإن كان مشركًا الشرك الأصغر، فهو أيضًا مذمومٌ ممقوت مستحِقٌّ للذمِّ والعقاب،  وقد يقال: الشرك لا يُغفَر منه شيء، لا أكبر ولا أصغر، على مقتضى عموم القرآن، وإن كان صاحب الشرك الأصغر يموت مسلمًا؛ لكن شركه لا يُغفَر له؛ بل يعاقب عليه، وإن دخل بعد ذلك الجنة"[6]

قال النوويُّ رحمه الله: «معناه: مَن رَاءى بعمله وسمَّعه الناس؛ ليُكرموه ويُعظِّموه ويَعتَقدوا خيره، سَمَّع الله به يوم القيامة الناسَ وفَضَحَه. وقيل: معناه: مَن أراد بعمله الناسَ، أسمعه اللهُ الناسَ، وكان ذلك حظَّه منه»[7]

قال ابن عثيمين رحمه الله: "واعلم أن الشرك خَفيٌّ جِدًّا، وقد خافه خليل الرحمن وإمام الحُنفاء؛

كما حكي الله عنه:

وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِيمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا ٱلۡبَلَدَ ءَامِنٗا وَٱجۡنُبۡنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعۡبُدَ ٱلۡأَصۡنَامَ

[إبراهيم: 35]

 وتأمَّل قوله: (واجنبني)، ولم يقل: (وامنعني)؛ لأن معنى (اجنبني)؛ أي: اجعلني في جانب، وعبادة الأصنام في جانب، وهذا أبلغ من (امنعني)؛ لأنه إذا كان في جانب، وهي في جانب، كان أبعدَ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: «أَدْرَكْتُ ثَلاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ  ﷺ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ [8]"[9]

قال ابن بطَّال رحمه الله: "والرياء ينقسم قسمين: فإن كان الرياء في عَقد الإيمان، فهو كفر ونفاق، وصاحبه في الدرك الأسفل من النار، فلا يصحُّ أن يُخاطَب بهذا الحديث، وإن كان الرياء لمن سلم له عَقْد الإيمان من الشرك، ولحِقه شيءٌ من الرياء في بعض أعماله، فليس ذلك بمُخرِج من الإيمان إلا أنه مذمومٌ فاعلُه؛ لأنه أشرك في بعض أعماله حَمْدَ المخلوقين مع حَمْدِ ربِّه، فحُرِم ثوابَ عمله ذلك [10] 

 

قال ابن قدامة المقدسيِّ رحمه الله: "فإن قيل: هل الرياء حرام، أم مكروه، أم مباح؟

فالجواب: أن فيه تفصيلاً، وهو إما أن يكون بالعبادات، أو بغيرها، فإن كان الرياء بالعبادات، فهو حرام، فإن المرائيَ بصلاته وصدقته وحجَّته، ونحو ذلك، عاصٍ آثمٌ؛ لأنه يقصد بذلك غير الله تعالى المستحقِّ للعبادة وحدَه، فالمرائي بذلك في سخط الله.

وأما إن كان بغير العبادات، فهو كطلب المال على ما تقدَّم، لا يَحرُم من حيث إنه طلب منزلة في قلوب العباد؛ ولكن كما يمكِن كسب المال بتلبيسات وأسباب محظورة، فكذلك الجاه، وكما أن كسب قليل من المال، وهو الذي طلبه يوسف عليه السلام في قوله:


{إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}

[يوسف: 55]

ولا نقول بتحريم الجاه وإن كَثُر، إلا إذا حمل صاحبَه على ما لا يجوز على نحو ما ذكرنا في المال.

وأما سَعَة الجاه من غير حرص على طلبه، ومن غير اغتمام بزواله وإن زال، فلا ضرر فيه؛ إذ لا جاه أوسع من جاه رسول الله   وعلماء الدين بعده، ولكن انصراف الهمم إلى طلب الجاه نقصان في الدين، ولا يوصف بالتحريم.

وتحسين الثوب الذي يلبسه الإنسان عند الخروج إلى الناس، إنما هو ليراه الناس، وكذلك كل تجمُّل لأجلهم لا يقال: إنه منهيٌّ عنه.

وقد تختلف المقاصد بذلك، فإن أكثر الناس يحبُّون أن لا يُرَوا بعين نقص في حال، وفى أفراد مسلم، من حديث ابن مسعود - رضى الله عنه -

عن النبيِّ ﷺ أنه قال:

«لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ»

[11]

 ومن الناس من يؤثر إظهار نعمة الله عليه، وقد أمر رسول الله  بذلك" [12]

قال ابن تيمية رحمه الله: "ومَن كان له وِرْدٌ مشروع من صلاة الضُّحى أو قيام ليل أو غير ذلك، فإنّه يصلِّيه حيث كان، ولا ينبغي له أن يَدَع وِرْدَه المشروع لأجل كونه بين النّاس، إذا علم اللّه من قلبه أنّه يفعله سرًّا للّه مع اجتهاده في سلامته من الرّياء ومفسدات الإخلاص"[13]

قال ابن رجب رحمه الله: "أوَّل من تُسعَّر به النار من الموحِّدين العباد المراؤون بأعمالهم، وأوَّلهم العالم، والمجاهد، والمتصدِّق للرياء؛ لأن يَسِير الرياء شرك، ما نظر المرائي إلى الخلق بعمله إلا لجهله بعظمة الخالق"[14]

قال ابن حَزْمٍ : "لإبليس في ذمِّ الرياء حِبالَةٌ؛ وذلك أنه رُبَّ ممتنعٍ مِن فِعل خيرٍ خوفَ أن يُظَنَّ به الرياء"[15]

قال ابن رجب رحمه الله: " إذا عَمِل العبد العمل للَّه خالصًا، ثم ألقى اللَّه له الثناءَ الْحَسَنَ في قلوب المؤمنين بذلك، ففرِح بفضل اللَّه ورحمته، واستبشر بذلك، لم يَضُرَّه ذلك"[16]

المراجع

  1.  "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 59).
  2.  "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 660).
  3.  "مختصر منهاج القاصدين" لابن قدامة المقدسيِّ (ص: 222).
  4.  "شرح كشف الشبهات ويليه شرح الأصول الستة" لابن عثيمين (ص 115، 116).
  5. "مختصر منهاج القاصدين" لابن قدامة المقدسي (ص214 - 217).
  6.  "تلخيص كتاب الاستغاثة (الرد على البكري)" لابن تيمية (1/ 300، 301)
  7.  "شرح صحيح مسلم" للنوويِّ (18/ 116).
  8.  رواه البخاريُّ (36).
  9.  "شرح كشف الشبهات ويليه شرح الأصول الستة" لابن عثيمين (ص 117).
  10.  انظر: "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (1/ 113).
  11.  رواه مسلم (91).
  12.  "مختصر منهاج القاصدين" لابن قدامة المقدسي (ص217 - 218).
  13. مجموع الفتاوى (23/ 174).
  14.  "كلمة الإخلاص" لابن رجب (ص39).
  15.  "الأخلاق والسير في مداواة النفوس" لابن حزم (ص 16).
  16.  "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/83).

مشاريع الأحاديث الكلية