الفوائد العلمية
1- في الحديث بيان أمر خطير، وذَنب عظيم من مُحبِطات الأعمال، وهو الرياء، وقد سمَّاه النبيُّ شِركًا لخطورته، وجعله من الشرك الأصغر؛ لأنه قد يدخُل في قلب الإنسان من غير شعور؛ لخفائه وتطلُّع النفْس إليه؛ فإن كثيرًا من النفوس تُحب أن تُمدَح بالتعبُّد لله[1]
2- أصلَ الرِّياء: حُبُّ الجاهِ والمنزلة، وإذا فُصِّلَ رَجَعَ إلى ثلاثة أصول، هي: حُبُّ لذَّةِ الحمد، والفرارُ من ألم الذمِّ، والطمعُ فيما في أيدي الناس[2]
3- يُطلَق الرياء على كل ما يفعله الإنسان يُريد أن يَسمَعَه غيرُه؛ كالصيام وقراءة القرآن؛ فالإنسان إن قرأ القرآن يُريد أن يَسمعَه الناسُ، كان مُرائيًا كذلك، وإن كان لا عَلاقة للرؤية بها، وإنما أُطلِق الرياء على الكل تغليبًا؛ كما يقال لأبي بكر وعمر: العُمَران[3]
4- أوَّل من تُسعَّر به النار من الموحِّدين المراؤون بأعمالهم، وأوَّلهم العالم، والمجاهد، والمتصدِّق للرياء؛ لأن يَسِير الرياء شرك، ما نظر المرائي إلى الخلق بعمله إلا لجهله بعظمة الخالق[4]
5- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيَّ ﷺ قال:
«إن أول الناس يُقْضى يومَ القيامة عليه رجُلٌ استُشهِدَ، فأُتِيَ به، فعرَّفه نِعَمَهُ فعرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيكَ حتى استُشهِدْتُ، قال: كذبتَ؛ ولكنكَ قاتلتَ لأنْ يُقالَ: جَريءٌ، فقد قيل، ثم أُمر به فسُحبَ على وجهه حتى أُلْقِيَ في النار. ورجُلٌ تعلَّم العلمَ وعلَّمه، وقرأ القرآنَ، فأُتِيَ به فعرَّفه نعمَه فعرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلمتُ العلمَ وعلَّمتُه، وقرأتُ فيكَ القرآن. قال: كذبتَ؛ ولكنكَ تعلَّمتَ العلم ليُقال: عالِمٌ، وقرأتَ القرآن ليُقال: هو قارئٌ، فقد قيل، ثم أُمر به فسُحِب على وجهه حتى أُلقي في النار. ورجُل وسَّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأُتي به فعرَّفه نِعمَه فعرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيل تحب أن يُنْفَقَ فيها إلا أنفقتُ فيها لكَ، قال: كذبتَ؛ ولكنكَ فعلتَ ليُقال: هو جَوَادٌ، فقد قيل، ثم أُمِرَ به فسُحِبَ على وجهه، ثم أُلْقيَ في النار»
6- عن ابن عباس رضي الله عنه قال:
«مَن سَمَّع سَمَّع اللهُ به، ومَن رَاءَى رَاءَى اللهُ به»
7- المرائي يُري الناسَ ما يَطلُب به الحَظْوة عندهم، وذلك أقسام؛ كالرياء في الدين، ومنه أن يكون من جهة البَدَن، بإظهار النُّحول والصَّفار؛ ليُريَهم بذلك شدَّة الاجتهاد، وغَلَبة خوف الآخرة.
8- هناك الرياء من جهة الزيِّ؛ كالإطراق في حالة المشيِ، وإبقاء أثر السجود على الوجه، وغلظ الثياب، ولُبس الصُّوف... لتنصرف إليه الأعين بالتمييز بتلك العادة. وهؤلاء طبقات، منهم من يطلب المنزلة عند أهل الصلاح، ومنهم من يطلبون القَبول عند أهل الصلاح، وعند أهل الدنيا من الملوك والأمراء والتجَّار[7]
9- هناك الرياء بالقول، ورياء أهل الدين بالوعظ والتذكير وحفظ الأخبار والآثار؛ لأجل المحاورة، وإظهار غزارة العلم والدلالة على شدَّة العناية بأحوال السلف، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس، وإظهار الغضب للمنكرات بين الناس، وخفض الصوت وترقيقه بقراءة القرآن؛ ليدلَّ بذلك على الخوف والحزن ونحو ذلك[8]
10- هناك الرياء بالعمل؛ كمرآة المصلِّي بطول القيام، وتطويل الركوع والسجود، وإظهار الخشوع، ونحو ذلك[9]
11- هناك المراءاة بالأصحاب والزائرين؛ كالذي يتكلَّف أن يطلب زيارة عالِم أو عابد؛ ليقال: إن فلانًا قد زار فلانًا، وإن أهل الدين يتردَّدون إليه، ويتبرَّكون به، وكذلك من يرائي بكثرة الشيوخ، ليقال: لَقِيَ شيوخًا كثيرة، واستفاد منهم، فيباهى بذلك[10]
12- تحسين الثوب الذي يلبسه الإنسان عند الخروج إلى الناس، إنما هو ليراه الناس، وكذلك كل تجمُّل لأجلهم لا يقال: إنه منهيٌّ عنه، وإن أكثر الناس يحبُّون أن لا يُرَوا بعين نقص في حال؛
«لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ»
13- من الناس من يؤثر إظهار نعمة الله عليه، وقد أمر رسول الله ﷺ بذلك [12]
المراجع
- انظر: "القول المفيد على كتاب التوحيد" لابن عثيمين (1/ 125).
- "مختصر منهاج القاصدين" لابن قدامة المقدسيِّ (ص: 222).
- انظر: "القول المفيد على كتاب التوحيد" (1/ 117).
- "كلمة الإخلاص" لابن رجب (ص39).
- رواه مسلم (1905).
- رواه مسلم (2986).
- "مختصر منهاج القاصدين" لابن قدامة المقدسيِّ (ص214 - 217).
- "مختصر منهاج القاصدين" لابن قدامة المقدسي (ص214 - 217).
- "مختصر منهاج القاصدين" لابن قدامة المقدسي (ص214 - 217).
- "مختصر منهاج القاصدين" لابن قدامة المقدسي (ص214 - 217).
- رواه مسلم (91).
- "مختصر منهاج القاصدين" لابن قدامة المقدسي (ص217 - 218).
الفوائد العقدية
14- في الحديث تسمية الرياء بالشرك الأصغر؛ لأنه قد قصد بعمله غير الله تعالى، ويسمَّى أيضًا بالشرك الخفيِّ؛ لأن صاحبه يُظهر أن عمله لله ويُخفي في قلبه أنه لغير الله.
15- قوله: «الشرك الأصغر» يدُلُّ على أن الشركَ شِركَان: أكبرُ، وهو الذي يَخرُج به المرءُ عن مسمَّى الإسلام، وشركٌ أصغرُ، وهو ما كان من قَبيل المعاصي التي مَنْشَؤُها طاعةُ غير الله، أو خوفُه، أو رجاؤه، أو تعظيمه، كما ورد في النصِّ على أمور أنها من الشرك؛ كالحَلِف بغير الله، وعلى مَن قال: ما شاء الله وشئتَ، وكذلك التشاؤم، وإتيان الكهَّان، والرُّقى المكروهة، وغير ذلك مما لا يُنافي التوحيدَ منافاةً مطلقةً[1]
16- ينقسم الرياء باعتبار الإسلام والشرك إلى قسمين: الأول: الرياء الذي يدخل في أصل الاعتقاد، وهذا شركٌ أكبرُ؛
﴿وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُواْ ٱلزَّكَوٰةَۚ وَذَٰلِكَ دِينُ ٱلۡقَيِّمَةِ﴾
الثاني: وهو لِمَن سَلِم له عَقْد الإيمان من الشرك، ولحِقه شيءٌ من الرياء في بعض أعماله، فليس ذلك بمُخرِج من الإيمان إلا أنه مذمومٌ فاعلُه؛ لأنه أشرك في بعض أعماله حَمْدَ المخلوقين مع حَمْدِ ربِّه، فحُرِم ثوابَ عمله ذلك، وهذا الشرك الأصغر الذي سمَّاه النبيُّ ﷺ[2]
17- الرياء الذي يُبطل العمل ويردُّه على صاحبه هو الذي يكون في أصل العبادة؛ كأن يكونَ ما قام للصلاة – مثلًا - إلا ليُرائيَ بها الناس، فهذا عمله باطلٌ مردودٌ؛
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾
﴿ إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمۡ وَإِذَا قَامُوٓاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلٗا ﴾
وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:
«قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَن عَمِل عملًا أشرك فيه معي غيري، تركتُه وشِرْكَه»
18- لو كان أصلُ العمل لله، وطرأ عليه الرياء؛ كأن يقومَ الرجُل يُصلي، ثم رأى أُناسًا يَنظُرون إليه، فأطال الركوعَ والسجودَ ونحوَ ذلك، فلا يضرُّه ذلك الرياء، لو دافَعَه، أما فلو استرسل معه واستمرَّ، فهذا يُبطل عمله[4]
19- الرياء والحلف بغير الله وتصديق الكهَّان وغيرها، قد تدخل في الشرك الأكبر؛ كحلِف الإنسان بغير الله معتقدًا تعظيمَه، وكذلك لو صدَّق الكُهَّان في زعمهم أنهم يعلمون الغيب، والرياء إنْ كان في كلِّ أعماله، أو كان الرياء في أصل الاعتقاد، وكذلك إن ظنَّ أن التمائم والرُّقى هي التي تمنع الضر وتكشف المرض[5]
20- اختلف العلماء في الشرك الأصغر: هل يدخُل تحت المشيئة كغيره من الذنوب، ويكون المراد
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفۡتَرَىٰٓ إِثۡمًا عَظِيمًا ﴾
مقصورًا على الشِّرك الأكبر فحسبُ؟ أم يدخل فيه كلُّ ما يُسمَّى شركًا، فلا يغفره الله إلا بالتوبة؟ وعلى القولَينِ فصاحب الشرك الأصغر على خطرٍ عظيم، فينبغي عليه أن يُبادر إلى التوبة والإنابة[6]
21- نجاسة الشرك نوعان: نجاسة مغلَّظة، ونجاسة مخفَّفة، فالمغلظة: الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله عزَّ وجلَّ، فإن الله لا يغفر أن يشرك به. والمخفَّفة: الشرك الأصغر؛ كيسير الرياء، والتصنُّع للمخلوق، والحلِف به، وخوفه، ورجائه[7]
22- إن المرائيَ في الحقيقة عابدٌ لغير اللَّه؛
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ:
«قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَن عَمِل عملًا أشرك فيه معي غيري، تركتُه وشِرْكَه»
23- الشرك الأصغر أعظم من الكبيرة، لذا؛ اختلف العلماء هل يدخل الشرك الأصغر في عموم الآية
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفۡتَرَىٰٓ إِثۡمًا عَظِيمًا﴾
قال بعضهم: إنه يدخل، وقال بعضهم: إنه يدخل في المشيئة وأنه قد يُغفَر، وقال آخرون: إنه لا يُغفَر وأنه يشمله عموم الآية، وهذا اختيار ابن تيمية - رحمه الله -
﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفۡتَرَىٰٓ إِثۡمًا عَظِيمًا﴾
ولم يقل شركًا أكبر، فيشمل الأكبر والأصغر؛ لكن قد لا يُعاقب عليه الإنسان.
المراجع
- انظر: "التوحيد" لابن رجب (ص: 23)، "شرح كشف الشبهات ويليه شرح الأصول الستة" لابن عثيمين (ص: 115).
- انظر: "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطّال (1/ 113).
- رواه مسلم (2985).
- انظر: "القول المفيد على كتاب التوحيد" لابن عثيمين (1/ 118).
- انظر: "فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام" لابن عثيمين (6/ 357).
- انظر: "القول المفيد على كتاب التوحيد" لابن عثيمين (1/ 207).
- "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 59).
- رواه مسلم (2985).
الفوائد التربوية
24- من الأساليب النبوية في التعليم والتربية: جذب انتباه المتلقِّي بالعبارات التي تسترعي انتباهه إلى خطورة الأمر الذي سيتحدث فيه النبيُّ؛ كقوله r: «إنَّ أخْوَفَ ما أخافُ عليكم الشِّركُ الأصْغَرُ»، فكأنه يُثير حفيظتَهم إلى معرفة ذلك الأمر الجَلَل.
الفوائد اللغوية
25- الرياء: مشتَقٌّ من الرؤية، والمراد أن يُظهر الإنسانُ العبادةَ ليراها الناس فيحمَدوه عليها، فإذا صلَّى الإنسان، أو تصدَّق، أو قام الليل، أو جاهد في سبيل الله، يُريد أن يرى الناس فِعله، كان مُرائيًا[1]. والسُّمعة مشتقَّة من السَّمَاع.
المراجع
- انظر: "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (3/ 410)، "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (6/ 615).