عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ، قَالَ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».

عناصر الشرح

غريب الحديث:

حَرَج: إثْم أو ضِيق.

فليتبوَّأ: من التَّبَوُّء، وهو اتِّخاذ الْمَنْزِل.

المعنى الإجماليُّ للحديث:

يروي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عن النَّبِيِّ ﷺ، أنه قَالَ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً»؛ أي: بلِّغوا عني ولو آيةً من كتاب الله، وبلِّغوا الناسَ بما أَقُول، وبما أَفعَل، وبجميع سنَّتي. «وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ»؛ أي: عن أحوالهم، وعمَّا وَقَع لهم من أحداث، «وَلا حَرَجَ»؛ أي: ولا إثم أو ضِيق.

قوله ﷺ: «وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»؛ أي: من نَسَب إلى الرسول ﷺ شيئًا لم يَقْلُه، وكَذَب عليه متعمِّدًا، يَعلَم أنه كاذبٌ، فقد استحقَّ أن يكون من ساكني النار.

الشرح المفصَّل للحديث:

إن تبليغَ شرائع الدين، والدعوة إلى الله تعالى، هي أشرفُ الأعمال وأعظمها، وهي مَهمَّة الأنبياء والرسل - عليهم السلام - ومن أكبر النِّعَم على المرء أن يحظى بشرف تبليغ دين الله، والدعوة إليه تعالى، ويكفي شرفًا مَن يبلِّغ ما جاء به المصطفى ﷺ أنه يدخل في قوله تعالى:

{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}ﱠ

[فصلت: 33]

وهذا استفهام تقريريٌّ؛ أي: لا أحدَ أحسنُ قولًا ممن دعا إلى الله مع العمل الصالح الذي يُصدِّق قوله، ومع استسلامه لله تعالى منكِرًا ذاته، فتصبح دعوته خالصةً لله تعالى، ليس له فيها إلا التبليغ.

إن الدعوة إلى الله تعالى تكليف لكلِّ المسلمين، كلٌّ حسب طاقته ومَقدِرته؛ فقد أمرهم الله أن يَدْعوا إليه، ويكفي الداعيةَ شرفًا وجزاءً وكرمًا من الله أن يكون من المفلِحين

قال تعالى:

{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}

[آل عمران: 104]

"والمقصودُ من هذه الآية أن تكون فِرْقةٌ من الأمَّة مُتَصدِّيَةً لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبًا على كُلِّ فرد من الأُمَّة بحَسَبِه"[1].

وفي هذا الحديث يقول النبيُّ ﷺ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً»؛ أي: بلِّغوا الناسَ عني ولو آيةً من كتاب الله، وبلِّغوهم بجميع سنَّتِي، و(لو) هنا للتقليل؛ فلا يقول الإنسان: أنا لا أبلِّغ إلا إذا كنتُ عالِمًا كبيرًا؛ بل يبلِّغ ولو آيةً، بشرط أن يكون قد عَلِمها، وأنها من كلام الرسول ﷺ.

وهذا توجيهٌ إلى أن الدعوة إلى الله تعالى من أيسر الأمور، فيُمكِنك ممارستُها في كلِّ أحوالك؛ فليس شرطًا أن يقوم بها العلماء، أو المختصُّون، أو الْمُدرَّبون، أو مَن وظيفتُهم الدعوة؛ بل يَسهُل أن يقوم بها كلُّ مسلم، حتى لو نَشَر آيةً، أو حديثًا، أو ذِكرًا، فيؤجَر على ذلك.

فيأمر النبيُّ ﷺ في هذا الحديث المسلمَ بتبليغ ولو آيةً واحدة؛ حتى يُسارع كلُّ مسلم إلى تبليغ ما بَلَغه من الشرع مهما قلَّ، وحتمًا سيَصِل كلُّ ما جاء به ﷺ إذا فَعَل كلُّ مسلم ذلك.

وقد "قال: «ولو آيةً»، ولم يقل: ولو حديثًا؛ لأنَّ الأمر بتبليغ الحديث يُفهَم من هذا بطريق الأَوْلَوية؛ فإنَّ الآياتِ مع انتشارها وكثرة حَمَلتها، وتكفُّل الله سبحانه بحفظها، وصَونها عن الضياع والتحريف، إذا كانت واجبةَ التبليغ، فالحديثُ الذي لا شيء فيه مما ذُكِر أَوْلى"[2].

إن الدعوةَ إلى الله تعالى هي الدعوة إلى الإيمان به، وبما جاءت به رُسله، بتصديقهم فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أَمَروا، وهي البَلاغ والإنذار؛ تبليغُ الناس رسالة الإسلام، ودعوتهم إلى الإيمان بالله وحده، وإخلاص العبادة له، وإنذارُ المنحرفين عن دينه بأن لهم عذابًا أليمًا؛ فبالدعوة تستقيم أمور الخَلق وتصلح مَعايشُهم، ويتوجَّه المذنِب إلى التوبة، والعاصي إلى الطاعة، والكافرُ إلى الإسلام، وبالدعوة يكون المسلم في رحاب رضوان الله تعالى.

وإن كانت الدعوةُ واجبةً على كلِّ مسلم، ويَسهُلُ القيام بها بمجرَّد تبليغ ما يَعلَمه مهما قلَّ، فإنه لا بدَّ للدعوة إلى الله تعالى من داعية يمتثل وجوبها، ويَعرِف شرفَها، فيحمل همَّ دعوته، ويعرف ماهيَّتها وغايتها، والمطلوبَ منه في طريق الدعوة، وما يجب عليه من التحلِّي بالأخلاق الحسنة والشِّيم الكريمة؛ فإنه كالسراج المنير يمحو ظلماتِ الكفر والضلال والمعاصي.

وإذا كانت الدعوةُ هي إخبارَ الناس بدينهم، وهذا لا يكون إلا بعلم وتثبُّت وحُجَّة مقنِعة، كان لا بدَّ أن تكون هناك علومٌ تُعين الداعية على إبلاغ الرسالة للناس، علومٌ دينية ودنيوية تؤهِّل الداعية، وتُنير له صراط دعوة الناس إلى ربهم؛ أي: إن الدعوة هي نداء الناس، وحثُّهم على الدخول في دين الله تعالى بكل وسيلة ممكِنة، والارتقاء بالدعاة، ورفع مستواهم العلميِّ والأخلاقيِّ، ويَكفيهم بِشارة النبيِّ ﷺ لهم إذ يقول: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ، وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ، حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الحُوتَ، لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْر»[3]. 

وقد ذكر الله تعالى كيفية الدعوة في قوله تعالى:

{ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}

[النحل: 125]

"أَطلَق الحِكْمةَ ولم يقيِّدْها بوصف الحَسَنة؛ إذ كلُّها حَسَنةٌ، ووصفُ الحُسْن لها ذاتيٌّ، وأمَّا الموعظة، فقيَّدها بوصف الإحسان؛ إذ ليس كلُّ موعظة حسنةً، وكذلك الجَدَلُ، قد يكون بالتي هي أحسن، وقد يكون بغير ذلك"[4].

وليس مقصودُ الحديث تبليغَ أيِّ شيء لأيِّ أحد؛ فالدعوة تحتاج إلى بصيرة

كما قال تعالى:

{قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}

[يوسف: 108]

بصيرة في كلِّ أمور الدعوة، ومنها مراعاةُ حال المدعوِّين ومستواهم العقليِّ، فما يُناسب شخصًا قد لا يُناسب آخَرَ، وما يَفهَمه أحدُ المدعوِّين قد لا يفهمه مدعوٌّ آخَرُ؛ قال عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه: "حَدِّثُوا النَّاسَ بما يَعْرِفُونَ؛ أَتُحِبُّون أن يُكذَّبَ اللَّهُ ورسولُه؟!"[5]. 

وفي الآية "قول الله تعالى لعبده ورسوله إلى الثَّقَلين: الإنسِ والجنِّ، آمرًا له أن يُخبر النَّاس: أنَّ هذه سبيلُه؛ أي: طريقُه ومَسلَكُه وسنَّتُه، وهي الدَّعوة إلى شهادة أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، يدعو إلى اللّه بها على بصيرة من ذلك، ويَقِين وبُرْهان، هو وكلُّ من اتَّبَعه، يدعو إلى ما دعا إليه رسول اللّه ﷺ على بصيرة ويقين وبرهان شرعيٍّ وعقليٍّ"[6].

هذا وإن الغاية العظمى من الدعوة للإسلام ما قاله رِبْعِيُّ بْنُ عَامِرٍ: "اللَّهُ ابتَعَثَنا لنُخرِجَ مَن شاء من عبادة العباد إلى عبادة اللَّه، ومن ِضيق الدُّنيا إلى سَعَتها، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام، فأَرسَلنا بدينه إلى خَلقِه لندعوَهم إليه"[7].

فإن على العبد المؤمن أن يتحيَّن كلَّ فرصة سانحةٍ؛ لكي يسابق بالخيرات، ويزاحم الآخرين بالطاعات، ويدعو إلى ذلك، فينال أجره وأجورهم؛ فيكفي الداعيةَ جزاءً وأجرًا دخولُه في قوله ﷺ:

«مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا»[8].

وفي قوله ﷺ:

«مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ»[9].

وفي قوله ﷺ:

«فواللهِ، لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ»[10].

قوله ﷺ: «وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج»؛ أي: لا ضِيقَ عليكم في الحديث عنهم؛ لأنّه كان تَقدَّم منه ﷺ الزَّجْرُ عن الأخذ عنهم، والنَّظَر في كُتبهم، ثمَّ حَصَل التّوسُّع في ذلك، وكأنَّ النّهيَ وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية، والقواعد الدِّينية؛ خشيةَ الفتنة، ثمَّ لَمَّا زال المحذور، وقع الإذن في ذلك؛ لِما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار.

"وقوله: ولا حَرَج، قرينةٌ على أنه ليس بواجب، ولا هو للنَّدْبِ، وقال الكرمانيُّ: الأمر للإباحة؛ إذ لا وجوب ولا نَدْبَ فيه بالإجماع"[11].

وقيل: المرادُ رفعُ الحرج عن حاكي ذلك؛ لِما في أخبارهم من الألفاظ الشَّنيعة؛ نحوُ قولِهم:

{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}

[المائدة: 24]

وقولهم:

{اجْعَلْ لَنَا إِلَٰهًا}

[الأعراف: ١٣٨]

وقيل: المعنى: حدِّثوا عنهم بمثل ما وَرَد في القرآن والحديث الصَّحيح.

وقيل: المراد جواز التّحدُّثِ عنهم بأيِّ صورة وَقَعت من انقطاع أو بلاغ؛ لتعذُّر الاتِّصال في التّحدُّث عنهم، بخلاف الأحكام الإسلامية؛ فإنَّ الأصل في التّحدُّث بها الاتِّصال، ولا يتعذَّر ذلك؛ لقُرب العهد.

قال مالكٌ رحمه الله: الْمُراد جوازُ التحدُّث عنهم بما كان من أمرٍ حَسَنٍ، أمَّا ما عُلِم كَذِبُه، فلا. وقال الشّافعيُّ رحمه الله: من المعلوم أنّ النّبيَّ ﷺ لا يُجيز التّحدُّث بالكذب؛ فالمعنى: حدِّثوا عن بني إسرائيل بما لا تعلمون كَذِبَه، وأمَّا ما تجوِّزونه، فلا حرج عليكم في التّحدُّث به عنهم، وهو نَظِير قوله: «إذا حدَّثكم أهلُ الكتاب فلا تصدِّقوهم ولا تكذِّبوهم»، ولم يُرِدِ الإذْنَ ولا المنع من التّحدُّث بما يَقطَع بصدقه [12].

قوله ﷺ: «وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»؛ أي: من نَسَب إلى الرسول ﷺ شيئًا لم يَقْلُه، وكَذَب عليه متعمِّدًا، يَعلَم أنه كاذبٌ، فليتبوَّأ مقعده من النار. والمراد بالأمر هنا الخَبَر؛ بمعنى: فقد تبوَّأ مقعده من النار؛ أي: فقد استحقَّ أن يكون من ساكني النار؛ لأن الكذب على الرسول ليس كالكذب على واحد من الناس؛ الكَذِب على الرسول كَذِب على الله - عزَّ وجلَّ - ثم هو كَذِب على الشريعة؛ لأن ما يُخبِر به الرسول ﷺ من الوحيِ، هو من شريعة الله، وكذلك يُقال: الكَذِب على العالِم ليس كالكذب على عامَّة الناس؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء يبلِّغون شريعة الله إرثًا لرسول الله ﷺ، فإذا كذبتَ عليهم، فقلت: قال العالم فلان كذا وكذا، وأنت تكذب، فهذا إثمُه عظيم؛ حيث إن بعضَ الناس إذا أراد أن يَكُفُّ الناسَ عن شيء، قال: قال العالم فلان: هذا حرامٌ. وهو يَكذِب؛ لأنه يعلم أن الناس، إذا نُسِب العلم إلى العالم فلان، قَبِلوه، فيَكذِب، وهذا أشدُّ من الكذب على عامَّة الناس[13].

المراجع

  1. "تفسير ابن كثير" (2/ 91).
  2. "قوت المغتذي على جامع الترمذي" للسيوطيِّ (2/ 665).
  3. رواه الترمذيُّ (2685)، وقال: هذا حديثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
  4. "مدارج السالكين" لابن القيم (1/ 444).
  5. رواه البخاريُّ (127).
  6. "تفسير ابن كثير" (4/ 422).
  7. "البداية والنهاية" لابن كثير (7/ 39).
  8. رواه مسلم (2674).
  9. رواه مسلم (1893).
  10. رواه البخاريُّ (2942)، ومسلم (2406).
  11. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيّ (16/ 46).
  12. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 498، 499).
  13. انظر: "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 431).


النقول:

قال ابن عثيمين رحمه الله: "«بلِّغوا عني ولو آية»: «بلِّغوا عني»؛ يعني: بلِّغوا الناس بما أَقُول، وبما أَفعَل، وبجميع سنَّتِه - عليه الصلاة والسلام - بلِّغوا عني ولو آيةً من كتاب الله، و(لو) هنا للتقليل؛ يعني لا يقول الإنسان: أنا لا أبلِّغ إلا إذا كنتُ عالِمًا كبيرًا؛ لا، إنما يبلِّغ الإنسان ولو آيةً، بشرط أن يكون قد عَلِمها، وأنها من كلام الرسول ﷺ؛ ولهذا قال في آخر الحديث: «ومن كَذَب عليَّ متعمِّدًا فليتبوَّأ مقعده من النار»، من كَذَب على الرسول متعمِّدًا يَعلَم أنه كاذبٌ، فليتبوَّأ مقعده من النار. هنا اللام للأمر؛ لكن المراد بالأمر هنا الخَبَر؛ يعني: فقد تبوَّأ مقعده من النار، والعياذ بالله؛ أي: فقد استحقَّ أن يكون من ساكني النار؛ لأن الكذب على الرسول ليس كالكذب على واحد من الناس؛ الكَذِب على الرسول كَذِب على الله - عزَّ وجلَّ - ثم هو كَذِب على الشريعة؛ لأن ما يُخبِر به الرسول ﷺ من الوحيِ، هو من شريعة الله، وكذلك يُقال: الكَذِب على العالم ليس كالكذب على عامَّة الناس؛ يعني مثلًا تقول: فلان كذا، وكذا قال: هذا حرامٌ، هذا حلالٌ، هذا واجبٌ، هذا سنَّة، وأنت تكذب، هذا أيضًا أشدُّ من الكذب على عامَّة الناس؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء يبلِّغون شريعة الله إرثًا لرسول الله ﷺ، فإذا كذبتَ عليهم؛ إذ قال العالم فلان كذا وكذا، وأنت تكذب، فهذا إثمُه عظيم، نسأل الله العافية. بعضُ الناس - والعياذ بالله - إذا اشتهى شيئًا، يَكُفُّ الناسَ عنه، قال: قال العالم فلان: هذا حرامٌ. هو يَكذِب؛ لكن يَعرِف أن الناس إذا نُسِب العلم إلى فلان قَبِلوه، فيَكذِب، وهذا أشدُّ من الكذب على عامَّة الناس"[1].

قال ابن حجر رحمه الله: "الآيةُ في اللُّغة تُطلَق على ثلاثةِ مَعانٍ: العلامة الفاصلة، والأُعجوبة الحاصلة، والبليَّة النَّازلة؛ فمن الأوَّل:

قوله تعالى:

{آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا}

[مريم: ١٠]

ومن الثّاني: (إن في ذلك لآيةً)، ومن الثّالث: جَعَل الأميرُ فلانًا اليومَ آيةً، ويَجمَع بين هذه المعاني الثّلاثة أنّه قيل لها: آيةٌ؛ لدلالتها وفصلها وإبانتها، وقال في الحديث: «ولو آيةً»؛ أي: واحدةً؛ ليُسارع كلُّ سامع إلى تبليغ ما وقع له من الآيِ ولو قَلَّ؛ ليتَّصِل بذلك نقلُ جميع ما جاء به ﷺ"[2].

قال البيضاويُّ رحمه الله: "قال: «ولو آيةً»، ولم يقل: ولو حديثًا؛ لأنَّ الأمر بتبليغ الحديث يُفهَم من هذا بطريق الأَوْلَوية؛ فإنَّ الآياتِ مع انتشارها وكثرة حَمَلتها، وتكفُّل الله سبحانه بحفظها، وصونها عن الضياع والتحريف، إذا كانت واجبةَ التبليغ، فالحديث الذي لا شيء فيه مما ذُكر أَوْلى"[3].

قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: «وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج»؛ أي: لا ضِيقَ عليكم في الحديث عنهم؛ لأنّه كان تَقدَّم منه ﷺ الزَّجر عن الأخذ عنهم، والنَّظَر في كُتبهم، ثمَّ حَصَل التّوسُّع في ذلك، وكأنَّ النّهيَ وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية، والقواعد الدّينية؛ خشيةَ الفتنة، ثمَّ لَمّا زال المحذور، وقع الإذن في ذلك؛ لِما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار. وقيل: معنى قوله: «لا حرج»: لا تَضِيق صدوركم بما تسمعونه عنهم من الأعاجيب؛ فإنّ ذلك وَقَع لهم كثيرًا. وقيل: لا حرج في أن لا تحدِّثوا عنهم؛ لأنّ قوله أوّلًا: حدِّثوا، صيغة أمر تقتضي الوجوب، فأشار إلى عدم الوجوب، وأنّ الأمر فيه للإباحة بقوله: «ولا حرج»؛ أي: في ترك التَّحديث عنهم. وقيل: المرادُ رفعُ الحرج عن حاكي ذلك؛ لِما في أخبارهم من الألفاظ الشَّنيعة؛ نحوُ قولِهم:

{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} 

[المائدة: 24]

وقولهم:

{اجْعَلْ لَنَا إِلَٰهًا}

[الأعراف: ١٣٨]

وقيل: المراد ببني إسرائيل أولادُ إسرائيلَ نفسِه، وهم أولادُ يعقوبَ، والمرادُ: حدِّثوا عنهم بقصَّتهم مع أخيهم يوسفَ، وهذا أبعدُ الأوجهِ، وقال مالكٌ: الْمُراد جوازُ التحدُّث عنهم بما كان من أمرٍ حَسَنٍ، أمَّا ما عُلِم كَذِبُه، فلا، وقيل: المعنى: حدِّثوا عنهم بمثل ما وَرَد في القرآن والحديث الصَّحيح، وقيل: المراد جواز التّحدُّث عنهم بأيِّ صورة وقعت من انقطاع أو بلاغ؛ لتعذُّر الاتِّصال في التّحدُّث عنهم بخلاف الأحكام الإسلامية؛ فإنَّ الأصل في التّحدُّث بها الاتِّصال، ولا يتعذَّر ذلك؛ لقُرب العهد، وقال الشّافعيُّ: من المعلوم أنّ النّبيَّ ﷺ لا يُجيز التّحدُّث بالكذب؛ فالمعنى: حدِّثوا عن بني إسرائيل بما لا تعلمون كَذِبَه، وأمَّا ما تجوِّزونه، فلا حرج عليكم في التّحدُّث به عنهم، وهو نَظِير قوله: «إذا حدَّثكم أهلُ الكتاب فلا تصدِّقوهم ولا تكذِّبوهم»، ولم يُرِدِ الإذْنَ ولا المنع من التّحدُّث بما يَقطَع بصدقه"[4].

قال العينيُّ رحمه الله: "قولُه: «وحدِّثوا عن بني إسرائيل» يعني: ممَّا وقع لهم من الأمور العجيبة والغريبة، وقيل: المراد ببني إسرائيل أولاد إسرائيلَ نفسِه، وهم أولاد يعقوب، والمراد: حدِّثوا عنهم بقصَّتهم مع أخيهم يوسف، وهذا بعيدٌ وفيه تضييق. وقال مالكٌ: المراد جواز التحديث عنهم بما كان من أمرٍ حَسَن، وأما ما عُلِم كَذِبُه فلا. وقيل: المعنى: حدِّثوا عنهم مثلَ ما وَرَد في القرآن والحديث الصّحيح، وقيل: المراد جواز التحدُّث عنهم بأيِّ صورة وقعت من انقطاع أو بلاغ؛ لتعذُّر الاتِّصال في التحديث عنهم، بخلاف الأحكام الإسلامية؛ فإن الأصل في التحديث بها الاتِّصال، ولا يتعذَّر ذلك لقُرب العهد. قولُه: «ولا حرج»؛ أي: ولا ِضيق عليكم في الحديث عنهم، وإنّما قال: ولا حرج؛ لأنَّه كان قد تَقدَّم منه ﷺ الزَّجر عن الأخذ عنهم والنَّظر في كتبهم، ثمَّ حصل التّوسُّع في ذلك، وكان النّهيُ قبل استقرار الأحكام الشّرعيّة والقواعد الدّينيّة خشيةَ الفتنة، ثمَّ لَمَّا زال المحذور، وَقَع الإذن في ذلك؛ لِما في ذلك من الاعتبار عند سماع الأخبار التي وقعت في زمانهم. وقيل: لا حرج؛ أي: لا تَضِيق صدوركم بما سمعتموه عنهم من الأعاجيب؛ فإن ذلك وقع لهم كثيرًا. وقيل: لا حَرَج في أن لا تحدِّثوا عنهم؛ لأن قوله أولًا: حدِّثوا، صيغة أمر يقتضي الوجوب، فأشار إلى عدم الوجوب، وإن الأمر فيه للإباحة، بقوله: ولا حرج؛ أي: في ترك التحديث عنهم. وقيل: الْمُراد رفعُ الحرج عن حاكي ذلك؛ لِما في أخبارهم من الألفاظ الْمُسْتَبْشَعة؛ نحو قولهم:

{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}

[المائدة: 24]

وقولهم:

{اجْعَلْ لَنَا إِلَٰهًا}

[الأعراف: ١٣٨]

قولُه: صيغة أمر يقتضي الوجوب. ليس ذلك على إطلاقه؛ وإنّما الأمر إنّما يقتضي الوجوبَ بصيغته إذا تجرَّد عن القرائن، وهنا قوله: ولا حرج، قرينةٌ على أنه ليس بواجب، ولا هو للنَّدْبِ، وقال الكرمانيُّ: الأمر للإباحة؛ إذ لا وجوب ولا نَدْبَ فيه بالإجماع"[5].

قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: «ومن كذَّب عليَّ متعمِّدًا»: قد اتَّفق العلماء على تغليظ الكَذِب على رسول اللّه ﷺ وأنّه من الكبائر، حتّى بالَغ الشَّيخ أبو محمَّد الجُوَينيُّ فحَكَم بكُفر من وقع منه ذلك، وكلامُ القاضي أبي بكرِ بنِ العربيِّ يَميل إليه، وجَهِل من قال من الكرَّاميَّة وبعض المتزهِّدة أنَّ الكذب على النّبيِّ ﷺ يجوز فيما يتعلَّق بتقوية أمر الدِّين، وطريقة أهل السّنَّة والتّرغيب والتّرهيب، واعتَلُّوا بأنّ الوعيد ورَدَ في حقِّ من كَذَب عليه، لا في الكَذِب له، وهو اعتلال باطل؛ لأنّ المراد بالوعيد مَن نَقَل عنه الكَذِب، سواءٌ كان له أو عليه، والدِّين بحمد اللّه كاملٌ غير محتاج إلى تقويته بالكذب"[6].

 قال العينيُّ رحمه الله: "قوله: «ومن كَذَب عليَّ» إلى آخره، قد مرَّ نحوُه في كتاب العلم في: باب إثم من كذب على النّبيِّ ﷺ، فإن البخاريَّ روى في هذا الباب عن خمسة من الصَّحابة، وهم: عليُّ بنُ أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، والزُّبير بنُ العوَّام، وأنسُ بنُ مالكٍ، وسَلَمةُ بنُ الأكوع، وأبو هريرة. وروى أيضًا في الجنائز في: باب ما يُكرَه من النِّياحة. عن المغيرة، وروى أيضًا ههنا عن عبد الله بن عمرو. قوله: «فليتبوَّأ» بكسر اللّام هو الأصل، وبالسُّكون هو المشهور، وهو أمر من التَّبوُّء، وهو اتِّخاذ المباءة؛ أي: المنزل. وقال الجوهريُّ: تبوَّأتُ منزلًا؛ أي: نَزَلته"[7].

قال ابن كثير رحمه الله: "والمقصودُ من هذه الآية أن تكون فِرْقة من الأمَّة مُتَصدِّيَةً لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبًا على كُلِّ فرد من الأُمَّة بحَسَبِه"[8].

قال ابن تيمية رحمه الله: "الدعوة إلى الله: هي الدعوة إلى الإيمان به، وبما جاءت به رسله، بتصديقهم فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أَمَروا"[9]. 

قال ابن القيِّم رحمه الله: "أَطلَق الحِكْمةَ ولم يقيِّدْها بوصف الحَسَنة؛ إذ كلُّها حَسَنةٌ، ووصفُ الحُسْن لها ذاتيٌّ، وأمَّا الموعظة، فقيَّدها بوصف الإحسان؛ إذ ليس كلُّ موعظة حسنةً، وكذلك الجَدَلُ، قد يكون بالتي هي أحسن، وقد يكون بغير ذلك"[10].

قال ابن كثير رحمه الله: "قول الله تعالى لعبده ورسوله إلى الثَّقَلين: الإنسِ والجنِّ، آمرًا له أن يخبر النَّاس: أنَّ هذه سبيله؛ أي: طريقُه ومسلكه وسنَّتُه، وهي الدَّعوة إلى شهادة أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، يدعو إلى اللّه بها على بصيرة من ذلك، ويَقِين وبُرْهان، هو وكلُّ من اتَّبَعه، يدعو إلى ما دعا إليه رسول اللّه ﷺ على بصيرة ويقين وبرهان شرعيٍّ وعقليٍّ"[11].

المراجع

  1. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 431).
  2. "فتح الباري" لابن حجر (6/ 498).
  3. "قوت المغتذي على جامع الترمذي" للسيوطيِّ (2/ 665).
  4. "فتح الباري" لابن حجر (6/ 498، 499).
  5. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيّ (16/ 45، 46).
  6. "فتح الباري" لابن حجر (6/ 499).
  7. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيّ (16/ 46).
  8. "تفسير ابن كثير" (2/ 91).
  9. "مجموع الفتاوى" (15/ 157).
  10. "مدارج السالكين" لابن القيم (1/ 444). 
  11. "تفسير ابن كثير" (4/ 422).


مشاريع الأحاديث الكلية