غريب الحديث
قَرْعَ نِعَالِهِم؛ أي: خَفْقها، وضَرْبها بالأرض[1].
لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ: قوله: تَلَيْتَ: أصلُه تَلَوْتَ؛ أي: لا فَهِمْتَ، ولا قَرَأْتَ القرآن، والمعنى: لا دَرَيت ولا اتَّبَعتَ من يدري، وإنما قاله بالياء؛ لمواخاة دَرَيت[2].
صَيْحَة: صاحَ صَيْحةً وصِياحًا وصُياحًا، وصيَّحَ: صوَّت بأقصى طاقته، يكون ذَلِك فِي النَّاس وَغَيرهم[3].
الثَّقَلَيْن: الجن والإنس، وإنما قيل لهما: ثقلان؛ لأنهما كالثِّقَل للأرض وعليها، وقيل: سُمِّيَا ثَقَلين لتفضيل الله إيَّاهما على سائر الحيوان المخلوق في الأرض بالتمييز والعقل، الذي خُصَّا به[4].
المراجع
- "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" للقاضي عياض (2/ 180).
- "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (3/ 239).
- ينظر: "المحكم والمحيط الأعظم" لابن سيده (3/ 421).
- "تهذيب اللغة" لأبي منصور الأزهريِّ (9/ 78).
سبب ورود الحديث
عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضى الله عليه، قَالَ: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ دَخَلَ نَخْلًا لِبَنِي النَّجَّارِ، فَسَمِعَ صَوْتًا فَفَزِعَ، فَقَالَ: «مَنْ أَصْحَابُ هَذِهِ الْقُبُورِ؟» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَاسٌ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ» قَالُوا: وَمِمَّ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ أَتَاهُ مَلَكٌ فَيَقُولُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَعْبُدُ؟ فَإِنِ اللَّهُ هَدَاهُ قَالَ: كُنْتُ أَعْبُدُ اللَّهَ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَمَا يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ غَيْرِهَا، فَيُنْطَلَقُ بِهِ إِلَى بَيْتٍ كَانَ لَهُ فِي النَّارِ فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا بَيْتُكَ كَانَ لَكَ فِي النَّارِ؛ وَلَكِنَّ اللَّهَ عَصَمَكَ وَرَحِمَكَ، فَأَبْدَلَكَ بِهِ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: دَعُونِي حَتَّى أَذْهَبَ فَأُبَشِّرَ أَهْلِي، فَيُقَالُ لَهُ: اسْكُنْ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ أَتَاهُ مَلَكٌ فَيَنْتَهِرُهُ فَيَقُولُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَعْبُدُ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، فَيُقَالُ لَهُ: لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ، فَيُقَالُ لَهُ: فَمَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيَضْرِبُهُ بِمِطْرَاقٍ مِنْ حَدِيدٍ بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا الْخَلْقُ غَيْرُ الثَّقَلَيْنِ»[1].
المراجع
- رواه أحمد (13447)، وأبو داود (4751)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح وضعيف سنن أبي داود"، "البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف" للحُسَيْنيِّ (1/ 210).
المعنى الإجماليُّ للحديث
يروي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضى الله عليه عن النَّبِيِّ ﷺ أنه قال: «العَبْدُ»؛ أي: المؤمن، «إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ»؛ أي: دُفِن، «وَتُوُلِّيَ وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ»؛ أي: ذهبوا بعد الانتهاء من دفنه حتى يسمع صوت نعالهم، «أَتَاهُ مَلَكَانِ» هما مُنكَرٌ ونَكِير، «فَأَقْعَدَاهُ»؛ أي: فأجلساه، «فَيَقُولانِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ ﷺ؟»؛ أي: فيسألانِه عن إيمانه بالنبيِّ ﷺ «فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الجَنَّةِ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا»؛ أي: يرى مَقعَده في النار ومَقعَده في الجنة، «وَأَمَّا الكَافِرُ - أَوِ المُنَافِقُ - فَيَقُولُ: لا أَدْرِي، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَالُ: لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ»؛ أي: لا كنتَ فاهمًا ولا تاليًا للقرآن، «ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ»؛ أي: إلا الجنَّ والإنس.
الشرح المفصَّل للحديث
إن القبر أوَّلُ منازل الآخرة، في السؤال والحساب، وفي الثواب أو العقاب، جعله الله تعالى برزخًا وحَدًّا فاصلاً بين الدنيا والآخرة، فيه انقطاعٌ عن الحياة الدنيا، وإقبالٌ على الآخرة، وهو مَنزِل مشترَك بين الدنيا والآخرة، مكانُه في الأرض، وأهلُه يعامَلون معاملةَ الآخرة، وهو إما روضةٌ من رياض الجنان، أو حُفرة من حُفَر النيران، فكم من رجل يعذَّب في القبور ولا ندري عنه شيئًا! وآخَرَ يُنعَّم فيها ولا نَعلَم عنه شيئًا!
وفي هذا الحديث يَنقُل النبيُّ ﷺ صورة من صور نعيم القبر للمؤمن، وأُخرى من صور عذاب القبر للكافر والمنافق في عالم الغيب، فالإنسانُ إذا أصابته مصيبة الموت، وانتهى أصحابه من تشييع جثمانه، ووضعه في قبره، انصرف عنه أهله وأحبابه، وهو يسمع صوت أرجلهم منصرِفين عنه، فيُرسل الله له مَلَكين من ملائكته الموكَّلين بسؤاله في القبر، أحدهما: اسمه مُنكَر، والآخر: اسمُه نَكير، فيُجلِسانِه ويسألانِه عن محمَّد ﷺ: ماذا تقول فيه؟ فإن كان الرجل موحِّدًا بالله تعالى، مؤمنًا برسوله، ثبَّته الله تعالى، وأجاب بقوله: أشهد أنه عبد لله ورسوله؛ فعَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِذَا أُقْعِدَ المُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ أُتِيَ، ثُمَّ شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ:
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ
فيقول له الْمَلَكان: انظر إلى هذا الْمَقعَد من النار، فإن الله تعالى أَعَدَّه لك في جهنَّمَ لو لم تكن مؤمنًا، وإن الله أَبدَلك به مقعدًا من الجنة، ويرى المؤمن الْمَقعَدينِ، فيفرح لذلك فرحًا شديدًا ليس بعدَه فرح، فقد حاز النعيم الأبديَّ في الجنة، نسأل الله أن يجعلنا من أهلها، والنجاةَ من النار، أعاذنا الله منها.
وفي الحديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ، فَإِنَّهُ يُعْرَضُ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالعَشِيِّ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَمِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ»[2].
وأما إن كان الرجل كافرًا أو منافقًا، وسُئل عن الرجل الذي بُعث فيه، فإنه لا يستطيع الإجابة عن سؤال الْمَلَكين، ولا يَبرَح إلا أن يقول: لا أدري ولا أعرف، فيُقال له: لا دَرَيت ولا تَلَيت؛ أي: لا عَرَفتَ ولا اتَّبَعْتَ مَن يعرف، ولا انتفعت بالقرآن الذي قرأتَه أو سمعتَه، وهو بمثابة الدعاء عليه؛ لأنه كان متَّبِعًا لغيره، ولم يكلِّف نفسه عناء البحث عن الحقيقة؛ ولذلك يقول: كنت أقول كما يقول الناس، ثم يُضرَب ضربة شديدة بمِطرَقة من حديد، فيَصرُخ بأعلى صوته من شدَّة الضرب، حتى يَسمَعه كلُّ الخلائق ما عدا الإنس والجنَّ؛ فإن الله حَجَب السمع عنهم؛ رحمةً ورأفة بهم؛ فإنهم لو سَمِعوا هذه الصرخة لصُعِقوا من هَول ما يَسمَعون لشدَّتها، ولَمَا استقامت حياتهم بعدها؛ ففي الحديث عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضى الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قال: «إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا، لَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ»[3].
وإذا كان الأمر كذلك، وَجَب على العبد أن يستعِدَّ للسؤال والحساب، ويهيِّئ الجواب، ويسارع إلى مرضاة الله تعالى بالطاعات، ويبتعد عن الذنوب والمعاصي والشهوات؛ فإن الله سائلٌ كلَّ إنسان عن أعماله، محاسِبٌ له على أفعاله
وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا
والعبدُ إذا نجا من عذاب القبر، كان ما بعدَه أَيسرَ منه؛ ففي الحديث عَنْ هَانِئٍ، مَوْلَى عُثْمَان رضى الله عنه، قال: كَانَ عُثْمَانُ، إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ بَكَى حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ: تُذْكَرُ الجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلَا تَبْكِي، وَتَبْكِي مِنْ هَذَا؟ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:
«إِنَّ القَبْرَ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الآخِرَةِ، فَإِنْ نَجَا مِنْهُ، فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ، فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ»
المراجع
- رواه البخاريُّ (1369)، ومسلم (2871).
- رواه البخاريُّ (3240)، ومسلم (2866).
- رواه مسلم (2867).
- رواه أحمد (454)، والترمذيُّ (2308)، وابن ماجه (4267)، وحسنه الألبانيُّ في "صحيح وضعيف سنن الترمذيِّ".
النقول
قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قَوْله: «العَبْد»؛ أَي: العَبْد الْمُؤمن المخلص. قَوْله: «وَتَوَلَّى»؛ أَي: أعرض وَذهب أَصْحَابه، وَهُوَ من بَاب تنَازع الذَّهاب. وَقَالَ ابْن التِّين: إِنَّه كرَّر اللَّفْظ وَالْمعْنَى وَاحِدٌ. قلتُ: لَا نسلِّم أَن الْمَعْنى وَاحِد؛ لِأَن التوَلِّيَ هُوَ الْإِعْرَاض، وَلَا يسْتَلْزم الذَّهاب. وَقَالَ بَعضهم: رَأَيْتُ أَن لفظ (تولى)، مضبوط بِخَطٍّ مُعْتَمَد على صِيغَة الْمَجْهُول؛ أَي: تُوُلِّيَ أمره؛ أَي: الْمَيِّت. قلت: لَا يُعْتَمَد على هَذَا، وَالْمعْنَى مَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: «قرع نعَالهمْ»؛ أَي: نعال النَّاس الَّذين حول قَبره من الَّذين باشروا دَفنه وَغَيرهم، وقرع النِّعَال: صَوتُهَا عِنْد الْمَشْي، والقرع فِي الأَصْل: الضَّرْب، فَكَأَن أَصْحَاب النِّعَال إِذا ضَرَبوا الأَرْض بهَا، خرج مِنْهَا صَوت. قَوْله: «ملكان»، وهما الْمُنكر والنكير، كَمَا فسِّر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَغَيره، وَإِنَّمَا سُمِّيا بِهَذَا الاسم لِأَن خلقهما لَا يُشبه خَلق الْآدَمِيّين، وَلَا خَلق الْمَلَائِكَة، وَلَا خلق الْبَهَائِم، وَلَا خلق الْهَوَام؛ بل لَهما خَلْقٌ بديع، وَلَيْسَ فِي خِلْقَتيهما أُنْسٌ للناظرين إِلَيْهِمَا، جَعلهمَا الله تَكرِمةً لِلْمُؤمنِ لتثبِّتَه وتبصِّره، وهتكًا لسِتر الْمُنَافِق فِي البرزخ من قَبْلِ أَن يُبْعَث حَتَّى يحلَّ عَلَيْهِ الْعَذَاب، وسُمِّيَا أَيْضًا: فتَّانا الْقَبْر؛ لِأَن فِي سؤالهما انتهارًا، أَو فِي خُلقهما صعوبة. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيِّ بِسَنَد ضَعِيف: ناكور وسيِّدهم رُومَان. قَوْله: «فأقعداه»؛ أَي: أجلساه. قَالَ الْكرْمَانِيُّ، رَحمَه الله تَعَالَى: وهما مُتَرَادِفَانِ، وَهَذَا يُبطل قَول من فرَّق بَينهمَا، بِأَن الْقعُود هُوَ عَن الْقيام، وَالْجُلُوس عَن الِاضْطِجَاع. قلتُ: اسْتِعْمَال الإقعاد مَوضِع الإجلاس لَا يمْنَع الْفرق الْمَذْكُور. قَوْله: «فِي هَذَا الرجل مُحَمَّد؟»؛ أَي: النَّبِيِّ ﷺ. وَقَوله: «مُحَمَّد» بِالْجَرِّ عطف بَيَان عَن الرجل، وَيجوز أَن يكون بَدَلاً، فَإِن قلت: هَذِه عبارَة خَشِنة لَيْسَ فِيهَا تَعْظِيمٌ وَلَا توقير؟ قلُت: قُصِد بهَا الامتحان للمسؤول؛ لِئَلَّا يَتَلَقَّن تَعْظِيمه عَن عبارَة الْقَائِل، ثمَّ يثبِّت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت. قَوْله: «فَيُقَال»: يُحْتَمَل أَن يكون هَذَا القَوْل من الْمُنكر والنكير، وَيحْتَمل أَن يكون من غَيرهمَا من الْمَلَائِكَة. قَوْله: «فَيَرَاهُمَا»؛ أَي: الْمَقْعَدَيْنِ اللَّذين أَحدُهمَا من الْجنَّة، وَالْآخر من النَّار. قَوْله: «أَو الْمُنَافِق» شكٌّ من الرَّاوِي، وَالْمرَاد بالمنافق الَّذِي يُقِرُّ بِلِسَانِهِ وَلَا يصدِّق بِقَلْبِه، وَظَاهر الْكَلَام، وَهُوَ قَوْله: «لَا أَدْرِي، كنت أَقُول كَمَا يَقُول النَّاس»، يَشْمَل الْكَافِر وَالْمُنَافِق؛ وَلَكِن الْكَافِر لَا يَقُول ذَلِك، فَيتَعَيَّن الْمُنَافِق، كَمَا فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيِّ. قَوْله: «لَا دَرَيْتَ» قَالَ الدَّاودِيُّ: أَي: لَا وقفتَ فِي مقامك هَذَا، وَلَا فِي الْبَيْت. قَوْله: «وَلَا تَلَيت». قَالَ ثَعْلَب: لَا دَريت وَلَا تليت، أَصله: وَلَا تَلَوت، فقُلبت الْوَاو يَاءً لازدواج الْكَلَام. قلتُ: هَذَا أصوب من كلِّ مَا ذَكرُوهُ فِي هَذَا الْبَاب، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن هَذِه اللَّفْظَة جَاءَت هَكَذَا فِي حَدِيث الْبَراء فِي مُسْند أَحْمد: «لَا دَريت وَلَا تَلَوت»؛ أَي: لم تتلُ الْقُرْآن، فَلم تنْتَفع بدرايتك وَلَا تلاوتك"[1].
قال ابن بطَّال رحمه الله: "قوله: «يَسمَعها من يليه»: فالذي يَلِيه هم الملائكة الذين يَلُون فتنته ومسألتَه في قبره، والثَّقَلان: الجنُّ والإنس، منعهم الله سماع صيحته إذا دُفِن في قبره"[2].
قال القسطلانيُّ رحمه الله: "فيقولان له: «ما كنت تقول في هذا الرجل، محمد؟» بالجرِّ عطف بيان، أو بدل مِن سابقه، ولم يقولا: ما تقول في هذا النبيِّ؟ أو غيره من ألفاظ التعظيم؛ لقصد الامتحان للمسؤول، إذ ربما تلقَّن تعظيمه من ذلك؛ ولكن
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ
«فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال»؛ أي: فيقول له الملكانِ المذكوران أو غيرهما: «انظر إلى مقعدك من النار، أبدلك الله به مقعدًا من الجنة». قال النبيُّ : «فيراهما جميعًا»؛ أي: المقعدينِ اللذين أحدُهما من الجنة والآخر من النار، أعاذنا الله منها، «وأما الكافر - أو المنافق» شكَّ الراوي؛ لكن الكافر لا يقول المقالة المذكورة، فتعيَّن المنافق «فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس، فيقال»؛ أي: فيقول الْمُنكَر والنَّكير، أو غيرهما: «لا دَرَيتَ» بفتح الراء، «ولا تَلَيت» بالمثنَّاة التحتية الساكنة بعد اللام المفتوحة، وأصلُه: تَلَوت، بالواو. يُقال: تلا يتلو القرآن؛ لكنه قال: تليتَ بالياء للازدواج مع دَرَيت؛ أي: لا كنتَ داريًا ولا تاليًا"[3].
قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قَوْله: «ثمَّ يُضْرَب» على صيغة المجهول؛ أي: الميِّت. قوله: «بمِطرَقة»، بكسر الميم، قال الجَوهريُّ: طَرَق النَجَّاد الصُّوفَ يَطرُقه طَرْقًا إذا َضَربه، والقضيب الّذي يُضرَب به يسمَّى: مِطرَقة، وكذلك مِطرَقة الحدَّاد. قوله: «من حديد»، يجوز فيه الوجهان؛ أحدهما: أن يكون صفةً لموصوف محذوف؛ أي: من ضارب حديد؛ أي: قويٍّ شديد الغَضَب. والآخر: أن يكون صفةً لـ(مِطرقة)، فعلى هذا تكون كلمة (من)، بيانية، ثمّ إن الظّاهر أن الضّارب غير المنكَر والنكير؛ ولكن يُحتمَل أن يكون أحدَهما، ويحتمل أن يكون غيرَهما"[4].
قال القسطلانيُّ رحمه الله: «ضربه بين أذنيه»؛ أي: أُذُنَيِ الميِّت «فيصيح صيحة يسمعها من يليه»؛ أي: يلي الميت «إلا الثقلين» الجنَّ والإنس، سُمِّيا بذلك لثِقَلهما على الأرض. والحكمةُ في عدم سماعهما الابتلاءُ، فلو سَمِعا، لكان الإيمان منهما ضروريًّا، ولأعرضوا عن التدبير والصنائع، ونحوهما مما يتوقَّف عليه بقاؤهما، ويدخل في قوله: (من يليه) الملائكة فقط؛ لأن (من) للعاقل. وقيل: يدخل غيرهم أيضًا تغليبًا، وهو أظهر. فإن قلتَ: لِمَ مُنِعَت الجنُّ سماعَ هذه الصيحة دون سماع كلام الميِّت إذا حُمل وقال: قدِّموني قدموني؟ أجيب: بأن كلام الميت إذ ذاك في حكم الدنيا، وهو اعتبارٌ لسامعه وعِظة، فأسمعه الله الجنَّ لما فيهم من قوَّة يَثبُتون بها عند سماعه، ولا يُصعَقون، بخلاف الإنسان الذي يُصعَق لو سَمِعه، وصيحةُ الميِّت في القبر عقوبة وجزاء، فدخلت في حكم الآخرة"[5].
قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قَوْله: «إِلَّا الثقلَيْن»؛ أي: غير الثقلين، وهما: الإنس والجنُّ، وسُمِّيا به لثِقَلهما على الأرض. فإن قلتَ: ما الحكمة في منع الثَّقلين من سماع صَيحة ذاك المعذَّب بمِطرقة الحديد؟ قلتُ: لو سمعا لارتفع الابتلاء، وصار الإيمان ضروريًّا، ولأعرضوا عن التدابير والصنائع ونحوهما ممّا يَتَوقَّف عليه بقاؤهما. فإن قلتَ: (مَن) للعُقلاء، فانحصر السماع على الملائكة. قلتُ: نعم، وقيل: المراد منه العقلاء وغيرهم، وغلب جانب العقل، وهذا أظهر، وقيل: المراد بـ(من يليه) أعمُّ من الملائكة الذين تكون فتنته وغيرهم من الثقلين، وإنّما مُنعت الجنُّ هذه النّصيحة ولم يُمنَع سماع كلام الميّت إذا حُمل، وقال: قدِّموني؛ لأن كلام الميّت حين يُحمَل إلى قبره في حكم الدّنيا، وليس فيه شيء من الجزاء والعقوبة؛ لأن الجزاء لا يكون إلّا في الآخرة، وإنّما كلامه اعتبار لمن سمعه وموعظة، فأسمعه الله الجنَّ؛ لأنّه جعل فيهم قوَّة يَثبُتون بها عند سماعه ولا يُصعقون، بخلاف الإنسان الّذي كان يُصعَق لو سمعه، وصيحة الميّت في القبر عند فتنته هي عقوبة وجزاء، فدخلت في حكم الآخرة، فمنع الله تعالى الثّقلين الّذين هم في دار الدّنيا سماع عقوبته وجزائه في الآخرة، وأسمعه سائر خلقه"[6].
المراجع
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (8/ 144).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (3/ 321).
- "شرح القسطلانيِّ على صحيح البخاري" (2/ 434).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (8/ 145).
- "شرح القسطلانيِّ على صحيح البخاري" (2/ 435).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (8/ 145).