فقه
1. لمَّا عاد أبو موسى الأشعري رضي الله عنه من بعثته إلى اليمن حيث أرسله النبيُّ ﷺ، سأل النبيَّ ﷺ عن حُكم بعض الأشربة التي يشربها أهلُ اليمن، كالبِتع والمِزر، والبِتعُ -كما فسَّره أبو بردة ابن أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما لابنه سعيد فقال-: البِتْعُ: نبيذُ العَسَل، والمِزْرُ: نبيذُ الشَّعير، وقيل: نبيذُ الحنطة والشعير.
والنَّبيذُ: ما يُنبذ في الماء من التمر أو العنب أو العسل أو غيرها، يُوضع في الماء ويُترك مُدَّةً ثم يُشرب، سواءً كان مُسْكِرًا أم لا.
2. فأجابه النبيُّ ﷺ بجوابٍ جامعٍ يشمل جميع الأشربة، لا هذين الشرابين فحسب، حيث أناط النبيُّ ﷺ الحُكم بالإسكار، فما كان مُسكرًا من الطعامِ أو الشرابِ فهو حرامٌ، سواءً كان من العسل أو التمر أو العنب أو الشعير أو غيرها، وسواءً كان جامدًا أم سائلًا أم مسحوقًا، مهما اختلفت الأسماءُ وتعددت الأوصاف.
وإنَّما سُمِّيت الخمرُ خمرًا لأنها تُغطِّي العقلَ وتُذهبه كما يُغَطِّي الخمارُ الرأسَ، فدلَّ هذا على أنَّ ما شابهها في العلة يستحقُّ نفسَ الحكم، وهو مقتضى قوله ﷺ: «كلُّ مسكرٍ حرامٌ».
والحديثُ يردُّ على من قَصَر التحريم على الخمر المتخذة من العنب فحسب. ويشهد لذلك أنَّ تحريم الخمر حين نزل لم يكن أهلُ المدينة يشربون خمر العنب، قال ابن عمر رضي الله عنهما: «نَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ، وَإِنَّ فِي المَدِينَةِ يَوْمَئِذٍ لَخَمْسَةَ أَشْرِبَةٍ مَا فِيهَا شَرَابُ العِنَبِ» [1].
ولا فرق في ذلك بين الشديد الذي يُسكر القليلُ منه وبين الضعيفِ الذي لا يُسكر إلا إذا تناول الإنسانُ الكثيرَ منه؛ قال ﷺ: «ما أسكر كثيرُه فقليلُه حرام» [2]. وإنما حرِّم القليل الذي لا يُسكِر؛ لأنه ذريعةٌ إلى الْمُسكِر، وهذا من باب سدِّ الذرائع، ومنع الأشياء التي توصل إلى الغايات، فالقليل وإن كان لا يُسكِر فإنه حرام [3].
اتباع
(1) ينبغي على كلِّ مسلم أن يحتاط لدينه، فلا يأتي أمرًا إلا وقد علم أنه حلالٌ لا يعاقبه الله عليه، وقد حرص الصحابةُ رضوان الله عليهم على ذلك، ولهذا بادر أبو موسى رضي الله عنه إلى سؤال النبيِّ ﷺ عن تلك الأشربة.
(1) يجب على المستفتي أن يبين الأمرَ المسؤول عنه، بحيث يقفُ المفتي على حقيقته، وتوافق فتواه حكمَ الله تعالى فيه.
(1) الأصلُ في المطعومات والمشروبات الحِلُّ، إلا أن يأتي دليلٌ على تحريم شيءٍ بعينه، فإن لم تجد دليلًا على تحريم طعامٍ أو شرابٍ فهو حلالٌ مباحٌ.
(2) حفظُ العقل من مقاصد الشريعة الإسلامية، ولهذا حرَّمت كلَّ ما يُذهبه أو يُعطِّله، وأشدُّ تلك الأمور الخمرُ فإنها تضرُّ البدنَ وتُذهِبُ العقل.
(2) مهما تغيرت الأسماء فالحكمُ ثابتٌ، فالخمرُ والحشيشُ والقاتُ ونحوها لها نفسُ الحكم لاشتراكها في العلة، فلا تتحايل على اللهِ تعالى بتغيير الأسماء.
(2) علَّة تحريم الخمر أنَّها تُذهب العقلَ الذي هو مناط التكليف والتفكير، فإذا غاب العقلُ غاب الحاجزُ عن المعاصي والشهوات، وطاش تصرُّف الإنسانِ بما يُوقِعُه في العداوة مع النَّـاس [4].
(2) كيف تُسَوِّل لك نفسك شربَ الخمر فيذهب عقلك ويغفل عن ذكر اللهِ تعالى والتفكر في نِعَمه وآياته؟! قال بعضُ السَّلف: إنَّ شارب الخمر تمرُّ عليه ساعةٌ لا يعرف فيها ربَّه، واللّه سبحانه إنّما خَلَق الخلق ليعرفوه، ويَذكُروه، ويعبدوه، ويُطيعوه، فما أدَّى إلى الامتناع من ذلك، وحال بين العبد وبين معرفة ربِّه وذكره ومناجاته، كان محرَّمًا [5].
(2) من أعظم العقوبات التي ينالها مدمن الخمر أنَّه يُحرم شربَ خمر الجنة إذا دخلها، قال ﷺ: «مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا، حُرِمَهَا فِي الآخِرَةِ» [6].
(2) شاربُ الخمر إن لم يتب منه سقاه الله من عُصارةِ أهل النار وصديدهم،
«كُلُّ مُخَمِّرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَنْ شَرِبَ مُسْكِرًا بُخِسَتْ صَلَاتُهُ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَادَ الرَّابِعَةَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ»، قِيلَ: وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ، وَمَنْ سَقَاهُ صَغِيرًا لَا يَعْرِفُ حَلَالَهُ مِنْ حَرَامِهِ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ»
(2) ينبغي على الداعية والفقيه أن يكون ذكيًّا، يُجيب السائلَ بما ينفعه، فإن رأى الاقتصارَ على جواب سؤاله من غير زيادةٍ أنفع اكتفى به، وإن رأى الزيادةَ عليه زاد.
(2) قيل للعبَّاسِ بنِ مِرْدَاسٍ السلمىِّ - وقد تنزَّه عن الخمر في الجاهلية وتركها -: لِمَ تركتَ الشَّرَابَ وهو يَزِيدُ في جُرأتِكَ وسماحتك؟ فقال: أَكرَه أن أُصبح سيِّدَ قومي وأُمسي سَفِيهَهم [8].
(2) الخمرُ أمُّ الخبائث، إذا شربها الإنسانُ تطاولت به إلى الزنا والسرقة والقتل، وربَّما تلفَّظ بالكفر من غير أن يدري.
(2)
«كان رجلٌ ممَّن كان قبلكم يتعبَّدُ ويعتزِلُ النَّاسَ، فعلَقتْه امرأةٌ فأرسلت إليه خادمًا: إنَّا ندعوك لشهادةٍ، فدخل فطفَقت كلَّما يدخلُ بابًا أغلقته دونه، حتَّى إذا أفضَى إلى امرأةٍ وضيئةٍ جالسةٍ وعندها غلامٌ وباطيَّةٌ فيها خمرٌ، فقالت: إنَّا لم ندعوك لشهادةٍ ولكن دعوْتُك لقتلِ هذا الغلامِ أو تقعُ عليَّ أو تشربُ كأسًا من الخمرِ، فإن أبيتَ صِحتُ بك وفضحتُك، فلمَّا رأَى أنَّه لا بدَّ له من ذلك قال: اسقيني كأسًا من الخمرِ، فسَقَته كأسًا من الخمرِ، فقال: زِيديني، فلم تزَلْ حتَّى وقع عليها وقتل النَّفسَ»
(2) قال الشاعر:
وجدتُ الخَمْرَ جامحةً وفيها = خصالٌ تَفْضَحُ الرجلَ الكريما
فلا واللهِ أَشْرَبُها حَيَاتي = ولا أدعو لها أَبَدًا نديمَا
وَلا أُعْطي لها ثَمَنًا حياتي = ولا أَشْفِي بها أَبَدًا سَقِيمَا
فإنَّ الخمرَ تَفْضَحُ شاربيها = وتَجْشَمُهُمْ بها أَمْرًا عَظِيمَا
إِذَا دَارَتْ حُمَيَّاهَا تَعَلَّتْ = طَوَالِعُ تَسْفَهُ الرَّجُلَ الحَلِيمَا
1. رواه البخاري (4616).
2. أخرجه أحمد (5648)، وأبو داود (3681)، والترمذيُّ (1865)، وابن ماجه (3393).
3. "فتح القوي المتين" للعباد (ص 147).
4. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 457).
5. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 457).
6. رواه البخاري (5575)، ومسلم (2003).
7. رواه أبو داود (3680).
8. "نهاية الأرب في فنون الأدب" لشهاب الدين النويريِّ (4/ 89).
9. رواه ابن حبان في صحيحه (5348).