عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعَثَهُ إِلَى اليَمَنِ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَشْرِبَةٍ تُصْنَعُ بِهَا، فَقَالَ: «وَمَا هِيَ؟» قَالَ: البِتْعُ وَالْمِزْرُ، فَقُلْتُ لِأَبِي بُرْدَةَ: مَا البِتْعُ؟ قَالَ: نَبِيذُ العَسَلِ، وَالْمِزْرُ نَبِيذُ الشَّعِيرِ، فَقَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ»

فوائد الحديث

الفوائد العلمية

1. هذا الحديثُ أصلٌ في تحريم كلِّ مسكِر.

2. أحلَّ الله تعالى للخلقِ الطيِّباتِ، وهى أغلبُ ما خَلَق الله في الأرض لنا، وحرَّم عليهم الخبائث؛

قال تعالى:

﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَٰٓئِثَ﴾

[الأعراف: 157]

3. من الخبائثِ المحرَّمة ما يُفسِد العقولَ من الأشربة، فصان الشرع بتحريمها العقولَ عما يُزيلها ويُفسدها، فحرَّم الله تعالى الخمرَ، بيعَها وشُربها؛

قال تعالى:

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلْأَنصَابُ وَٱلْأَزْلَٰمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَٰنِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾

[المائدة: 90]

4.

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه ، قَالَ:

سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَخْطُبُ بِالْمَدِينَةِ، قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُعَرِّضُ بِالْخَمْرِ، وَلَعَلَّ اللهَ سَيُنْزِلُ فِيهَا أَمْرًا، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلْيَبِعْهُ وَلْيَنْتَفِعْ بِهِ»، قَالَ: فَمَا لَبِثْنَا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى قَالَ ﷺ: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْرَ، فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ وَعِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلَا يَشْرَبْ، وَلَا يَبِعْ»، قَالَ: فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ بِمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا فِي طَرِيقِ الْمَدِينَةِ فَسَفَكُوهَا

[1].

5. في الحديث بيان أن كلَّ ما يُصنَع للشُّرب وهو مُسكِر، فهو حرامٌ شربُه، قليلُه وكثيره، ويحرم بيعه واستعماله وتعاطيه، مهما كان نوعه، وبأيِّ اسم كان.

6. لَمَّا سُئل ابن عباس عن الباذَق - وهو نوع من الشراب - قال: سَبَقَ مُحَمَّدٌ رضي الله عنه البَاذَقَ: «فَمَا أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» قَالَ: الشَّرَابُ الحَلاَلُ الطَّيِّبُ، قَالَ: «لَيْسَ بَعْدَ الحَلاَلِ الطَّيِّبِ إِلَّا الحَرَامُ الخَبِيثُ» [2].

7. كَانَ أَوَّلُ مَا حُرِّمَتِ الْخَمْرُ عِنْدَ حُضُورِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لَمَّا صَلَّى بَعْضُ الْمُهَاجِرِينَ، وَقَرَأَ فِي صَلَاتِهِ، فَخَلَطَ فِي قِرَاءَتِهِ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَقْرَبُوا ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾

[النساء: 43]

وَكَانَ مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يُنَادِي: (لَا يَقْرَبُ الصَّلَاةَ سَكْرَانُ)، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلْأَنصَابُ وَٱلْأَزْلَٰمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَٰنِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿٩٠﴾ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَٰوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِى ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾

[المائدة: 90، 91] [3].

8.

ذَكَرَ سُبْحَانَهُ في قوله:

﴿إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَٰوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِى ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ﴾

[المائدة: 91]

علَّة تحريم الخمر والميسر، وهو أنّ الشّيطان يوقِع بينهم العداوة والبغضاء، فإنّ من سَكِر اختلَّ عقله، فربّما تسلَّط على أذى النّاس في أنفسهم وأموالهم، وربّما بَلَغ إلى القتل [4].

9. الخمر أمُّ الخبائث، فمن شَرِبها قتل النّفس وزنا، وربّما كَفَر.

10. قال طائفة من السّلف: إنّ شارب الخمر تمرُّ عليه ساعةٌ لا يعرف فيها ربَّه، واللّه سبحانه إنّما خلق الخلق ليعرفوه، ويذكروه، ويعبدوه، ويطيعوه، فما أدَّى إلى الامتناع من ذلك، وحال بين العبد وبين معرفة ربِّه وذكره ومناجاته، كان محرَّمًا، وهو السُّكر، وهذا بخلاف النَّوم، فإنّ اللّه تعالى جبل العباد عليه، واضطرَّهم إليه، ولا قِوَام لأبدانهم إلّا به؛ إذ هو راحة لهم من السّعي والنَّصَب [5]. 

11. من مقاصد الشريعة الضرورية حفظُ العَقل.

12. في الحديث دلالةٌ على كمال الشريعة، واشتمالها على قواعدَ كليَّةٍ عامَّة، كما جاء في هذا الحديث.

13. إن الأسماء لا تغيِّر الحقائق؛ فمها تغيَّرت أسماء المحرَّمات، لا يَزُلْ عنها التحريم.



المراجع

1. رواه مسلم (1587).

2.  رواه البخاريُّ (5598).

3. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 456، 457).

4. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 457).

5. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 457).




الفوائد الفقهية

14. الخمرُ ما خامَر العقلَ وغطَّاه، فكلُّ ما كان كذلك داخلٌ تحت قوله ﷺ: «كلُّ مسكر حرام»، وكلُّ شيء أسكر كثيرُه فقليلُه حرام.

15. «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» هذا الجواب من جوامع كلم النبيِّ ﷺ، يَدخُل فيه المسؤول عنه وغير المسؤول عنه، ما كان معروفًا، وما ليس بمعروف، وهو دليل على أنّ علَّة التّحريم الإسكار، فاقتضى ذلك أنّ كلَّ شراب وُجِد فيه الإسكار حَرُم تناوُلُ قليلِه وكثيره، سواءٌ كان من الشَّعير، أو من العسل، أو من العنب، أو من التَّمْر، أو من أيِّ شيء، وسواءٌ كان جامدًا أو سائلًا أو مسحوقًا أو غير مسحوق، كلُّ ذلك حرام؛ لأن الأمر علِّق بالإسكار.

16. في الحديث دليل على أنَّ ما أسكر من الأشربة حرام، وما لم يُسكِر فإنَّه حلال.

17. إنما حرِّم القليل الذي لا يُسكِر؛ لأنه ذريعةٌ إلى الْمُسكِر، وهذا من باب سدِّ الذرائع، ومَنْعِ الأشياء التي تُوصِل إلى الغايات، فالقليلُ وإن كان لا يُسكِر، فإنه حرام، وسواء كان ذلك من العنب أو غيرها [1].

18. في الحديث تحريمُ قليل المسكر وكثيره، وأن ما أسكر كثيره فقليلُه حرام، ويشهد له الحديث قال ﷺ: «ما أسكر كثيرُه فقليلُه حرام» [2]، وهذا لفظ عامٌّ يَشمَل كلَّ مسكِر.

19. في الحديث تحريم البِتْع والْمِزر إذا كانا يُسكران.

20. الحديث ردٌّ على من زعم أن اسم الخمر مختصٌّ بالْمُسكِر من عصير العِنَب؛ فتحريمُ الخَمر لا يختصُّ بعصير العِنَب، وكلُّ مسكِر خَمْرٌ، وكلُّ خمر حرام؛

فعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:

«كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا فَمَاتَ وَهُوَ يُدْمِنُهَا لَمْ يَتُبْ، لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ»

[3]. 

21. في الحديث أن مَناط التحريم هو الإسكار، وهو علَّة مطَّرِدة، يَثبُت بها التحريم في كلِّ مسكِر، فاقتضى ذلك تحريمَ ما يُسكِر، ولو لم يكن شرابًا؛ كالحشيش والمخدِّرات ونحوها.

22. حرَّم الله بيع الخمر وشُربها؛

قال تعالى:

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلْأَنصَابُ وَٱلْأَزْلَٰمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَٰنِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾

[المائدة: 90]

23. لعن النبيُّ ﷺ في الخَمْرِ عشَرةً؛

فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ:

«لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي الخَمْرِ عَشَرَةً: عَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَشَارِبَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ، وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا، وَآكِلَ ثَمَنِهَا، وَالْمُشْتَرِيَ لَهَا، وَالْمُشْتَرَاةَ لَهُ»

[4].



المراجع

1. "فتح القوي المتين" للعباد (ص 147).

2. أخرجه أحمد (5648)، وأبو داود (3681)، والترمذيُّ (1865)، وابن ماجه (3393)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الجامع".(5530).

3. رواه مسلم (2003).

4.  رواه الترمذيُّ (1295)، وابن ماجه (3381)، وقال الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2357): حسن صحيح.



الفوائد التربوية

24. حُسن تعليمه ﷺ في جوابه للسائل بذكر القاعدة الجامعة التي تَشمَل المسؤول عنه وغيره.

25. من حُسن الفتوى زيادةُ السائل على ما سأل عنه مما يَحتاج إليه، فينبغي للمفتي أن يُجيب السائل بزيادة عما سُئل عنه إذا عَلِم المصلحةَ في الزيادة.

26. في الحديث إشارة إلى تحرِّي الصحابة وحرصهم - رضي الله عنهم - على معرفة الأحكام الشرعية.

الفوائد اللغوية

27. البِتْعُ: نَبِيذ العَسَل؛ أي: العسل المخلوط بالماء، وهو خمر أهل اليَمَن، وقد تُحرَّك التّاء كقِمْع وقِمَع" [1].

28. الْمِزْر: نَبيذ الشَّعير؛ أي: الماء الذي نُقع فيه الشَّعير، وهو نبيذ يُتَّخَذ من الذُّرة أو من الشَّعير أو الحِنطة [2].

29. النّبيذ: هو ما يُعمَل من الأشربة من التَّمْر، والزَّبيب، والعَسَل، والحِنطة، والشَّعير، وغيرِ ذلك. يُقال: نبذتُ التَّمر والعِنَب، إذا تركتُ عليه الماء ليصير نبيذًا، فصُرِف من مفعول إلى فَعيل. وانتبذتُه: اتَّخذتُه نَبيذًا. وسواءٌ كان مسكِرًا أو غيرَ مسكر، فإنّه يُقال له: نَبيذ. ويُقال للخمر المعتصَر من العِنَب: نبيذ، كما يُقال للنَّبيذ: خمر" [3].

المراجع

1. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (1/ 94).

2. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (4/ 324).

3. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (5/ 7).


مشاريع الأحاديث الكلية