عن أبي هريرةرضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا،وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا»

عناصر الشرح

المعنى الإجماليُّ للحديث:

يروي أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ أنه قال: «أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا»؛ أي: إن أحبَّ الأماكن وأفضلَها عند الله تعالى هي المساجدُ؛ لِمَا فيها من إقامة الصلوات، وذِكْر الله تعالى، وحَلق العِلم؛ فإن المساجدَ بُيوتُ الطَّاعات، وبُقَعٌ أُسِّست للتقوى والعمل الصالح.

وقوله ﷺ: «وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا»؛ أي: إن أبغض الأماكن وأشدَّها كراهيةً عند الله تعالى هي الأسواق؛ لما فيها من اللَّغَط، واللَّغْو، وكثرة الحَلِف، والغِشِّ، والكَذِب، والغَفْلة عن ذكر الله تعالى.

الشرح المفصَّل للحديث:

إن المساجد ليست مجرَّد أماكنَ تقام فيه الصلاة، أو أنها بيوت الله وأشرفُ البِقاع على ظهر الأرض فحسبُ؛ بل إن المسجد هو مِحور حياة الأمَّة الإسلامية، وسرُّ قوتها، ومصنع أبطالها، والمدرسة التي تتخرَّج فيها الأجيال الصالحة، وتعلِّم المسلمين كلَّ أمور حياتهم، وهو مكان التقاء المسلمين وتجمُّعهم الدائم، وتقوية الأواصر بينهم.

وفي هذا الحديث يُخبر النبيُّ ﷺ أن المساجدَ هي أحبُّ البقاع إلى الله تعالى؛ فيقول النبيُّ ﷺ: «أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا»؛ لأنّها بُيوتُ الطَّاعات، وأساسُها على التَّقوى، وهي بُيوتٌ خُصَّت بالذِّكر، وبُقَع أُسِّست للتقوى والعمل الصالح.

ومما يبيِّن قيمةَ المسجد في الإسلام: أن أوَّل عمل قام به الرسولُ ﷺ بعد هجرته إلى المدينة، كان بناءَ المسجد، فكان المسجد أوَّلَ لَبِنةٍ، وأساسَ بناء الدولة الإسلامية؛ فأمَّةُ الإسلام قِوامُها المساجد، وقد ضَعُفت الأمَّة حين ضَعُف دور المسجد في حياتها، ولا سبيل لنهضة الأمَّة وعودتها لمجدها التَّليد، وقيادة العالم إلى حضارة القيم والروح والأخلاق، إلَّا بعودة تفعيل دور المسجد في حياة الأمَّة.

لقد كان المسجدُ على عهدِ رسول الله ﷺ موطنَ الدعوة، ودارًا للفتوى، وبه يَلْقى الوفودَ والسُّفراء، ومنه كانت تنطلق الغزواتُ للجهاد في سبيل الله، وإليه تعودُ بعد أداء مَهمَّتها، وهَلُمَّ جرًّا.

وإن أعداء الأمَّة قد حاربوا المساجد، حتى قَصَروا دورها على أن تكون مكانًا للصلاة فقط، حتى الصلاةُ والعبادة يضيِّقون عليها بإغلاق المساجد بعد أداء الصلوات المفروضة مباشرةً في سائر البلاد العربية والإسلامية، فيجعلون دور المسجد مجرَّد مكان تُقام فيه الصلوات الخمس فقط، دون أيِّ دور للمساجد في إصلاح المجتمع والأمَّة؛ ما أثَّر على المجتمعات والأمة بالإفساد والضعف، وقد توعَّد الله تعالى من يضيِّق على المساجد

بقوله تعالى:

(وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ أَن يُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُۥ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَآۚ أُوْلَـٰٓئِكَ مَا كَانَ لَهُمۡ أَن يَدۡخُلُوهَآ إِلَّا خَآئِفِينَۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ)

[البقرة: 114].

إن المسجد مؤسَّسة إسلامية عظيمة، لا يدانيها أيُّ مؤسَّسة إسلامية أخرى، ولا يمكِن إصلاح المجتمع والأمَّة إلا بتفعيل دوره.

"قوله: «أَحَبُّ الْبِلَادِ» لعلَّ تسمية المساجد والأسواق بالبلاد خصوصًا تلميحٌ إلى

قوله تعالى:

( وَٱلۡبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخۡرُجُ نَبَاتُهُۥ بِإِذۡنِ رَبِّهِۦۖ وَٱلَّذِي خَبُثَ لَا يَخۡرُجُ إِلَّا نَكِدٗاۚ )

[الأعراف: ٥٨].

فالمؤمن سَمِع كتاب الله بعقلِه، فوَعَاه وانتفع به؛ كالأرض الطيِّبة أصابها الغَيث فأَنبَتت، والكافرُ بخلافه؛ وذلك لأن زوَّار المسجد؛

(رِجَالٞ لَّا تُلۡهِيهِمۡ تِجَٰرَةٞ وَلَا بَيۡعٌ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَوٰةِ يَخَافُونَ يَوۡمٗا تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلۡقُلُوبُ وَٱلۡأَبۡصَٰرُ)

[النور: ٣٧]"[1]

إن المساجد بيوت الله تعالى؛

كما قال الله تعالى:

( وَأَنَّ ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدۡعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدٗا )

[الجن: 18]،

وقال ﷺ: «ما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله»[2]

"فالمساجدُ مساجدُ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ ولهذا أضافها الله إلى نفسه،

فقال:

( وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ أَن يُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُ )

[البقرة: ١١٤]،

وقال تعالى:

{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}

[النور: 36، ٣٧]،

فالمساجدُ أحبُّ البقاع إلى الله؛ لأنها مَحَلُّ ذِكره وعبادته، وقراءة شَرْعِه، وغير ذلك من مصالح الدنيا والدِّين؛ ولهذا كان بَذْلُ المال فيها من أفضل أنواع البذل، والبذلُ فيها من الصَّدقة الجارية، وهي أفضل من أن يَجعَل الإنسانُ مالَه في أُضْحِية أو عَشاء أو ما أَشبَه ذلك، فإذا جَعَل مالَه في بناء المساجد وعمارتها، كان ذلك أفضلَ؛ لأن المساجد صدقةٌ جارية باقية عامَّةٌ، كلُّ المسلمين ينتفعون بها، المصلُّون والدارسون والمتعلِّمون والمعلِّمون، والذين آواهم البَرْد أو الحَرُّ إلى المساجد، إلى غير ذلك"[3]

ولَمَّا كان للمساجد هذه المنزلة العظيمة، كان من الواجب عمارتها، وتعظيمها، والعناية بها، وقد حثَّ النبيُّ على بنائها، وبيَّن فضله؛

قال ﷺ:

«من بنى مسجدًا يبتغي به وجه الله، بنى الله له مثله في الجنة»

[4]

وقال تعالى:

{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}

[التوبة: 18]،

ويَدخُل في الآية عمارتها المادية، وعمارتها المعنوية بالصلاة والذكر وقراءة القرآن، ونحو ذلك من الطاعات.

ولعظم المساجد شَرَع الإسلام آدابًا لها؛ منها: استحبابُ لُبس الثياب الحسنة عند الذهاب إلى المسجد،

قال تعالى:

( يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدٖ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ)

[الأعراف: 31]

وعدم حضور المساجد لمن أكل الثُّوم أو البصل ونحوهما، وهي ليست محرَّمة؛ ولكن نُهي عنها لرائحتها التي تؤذي المصلِّين والملائكة؛

عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبيَّ ﷺ قال:

«مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ، وَالثُّومَ، وَالْكُرَّاثَ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ»

[5]

ويُستحبُّ عند دخول المسجد ذكر الأدعية الواردة في ذلك، ويدخل برجله اليُمنى؛

قال رسول الله ﷺ:

«إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ»

[6]

وإذا دخل المسجد صلَّى ركعتين؛ تحيَّةً للمسجد؛

قال رسول الله ﷺ قال:

«إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ»

[7]

أما الأسواق، فيقول النبيُّ ﷺ: «وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا»؛ أي: إن أبغض الأماكن وأشدَّها كراهيةً عند الله تعالى هي الأسواق؛ لما فيها من اللَّغَط، واللَّغْو، والغِشِّ، والخداع، والكَذِب، والرِّبا، والأَيْمان الكاذبة، وكثرة الحَلِف، وإخلاف الوعد، والغَفْلة عن ذكر الله تعالى،

 وغير ذلك ممَّا في معناه.

"أما الأسواقُ، فإنها مأوى الشياطين، فيها باضَ الشيطانُ وفرَّخ، والعياذ بالله، ونَصَب رايتَه وخَيْمَته؛ لأن أسواق البيع والشراء، الغالبُ فيها - إلَّا ما شاء الله - الكذب والغشُّ والخيانة والحَلِف، وما أَشبَه ذلك؛ فلهذا كانت أبغضَ البلاد إلى الله - عزَّ وجلَّ"[8]

إن الأسواق مخصوصة بطلب الدنيا، "وقُصَّاد الأسواق شياطينُ الجنِّ والإنس من الغَفَلة الذين غَلَبهم الحرِص والشِّدَّة، وهذا لا يورث إلا دُنُوًّا من الشيطان وحزبه، اللهمَّ إلَّا مَن يَعمِد إلى طلب الحلال الذي يَصُون به دينه وعرضه؛

(فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ)

[البقرة: ١٧٣]"[9]

وينبغي لمن يدخل السوق التحلِّي بآداب الإسلام، وأخلاقه، ومكارمه، ويتَّقي الله، ويذكره؛

عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ:

«مَنْ قَالَ حِينَ يَدْخُلُ السُّوقَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ كُلُّهُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وَبَنَى لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّة»

[10]

المراجع

  1.  "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (3/ 930، 931).
  2.  رواه مسلم (2699).
  3.  "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (6/ 656، 657).
  4.  رواه البخاريُّ (439)، ومسلم (533).
  5. رواه البخاريُّ (855)، ومسلم (564).
  6.  رواه مسلم (713).
  7.  رواه البخاريُّ (444)، ومسلم (714).
  8.  "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (6/ 656، 657).
  9.  "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (3/ 930، 931).
  10. ) رواه أحمد (327)، وابن ماجهْ (2235)، والترمذيُّ (3428)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1694). 

النقول

قال النوويُّ : "قولُه: «أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا»؛ لأنّها بُيوتُ الطَّاعات، وأساسُها على التَّقوى. قوله: «وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا»؛ لأنّها مَحَلُّ الغِشِّ والخداع والرِّبا والأَيْمان الكاذبة، وإخلافِ الوعد، والإعراضِ عن ذكر اللّه، وغير ذلك ممَّا في معناه... والمساجد مَحَلُّ نزول الرَّحمة، والأسواق ضِدُّها"[1]

 قال القاضي عياض : "وقوله: «أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا»؛ لأنها بُيوتٌ خُصَّت بالذِّكر، وبُقَع أُسِّست للتقوى والعمل الصالح. وقوله: «وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا»؛ لأنها مخصوصة بطلب الدنيا، ومخادعة العباد، والإعراض عن ذكر الله، ومظانِّ الأَيمان الفاجرة"[2]

قال الطِّيبيُّ: "قوله: «أَحَبُّ الْبِلَادِ» لعلَّ تسمية المساجد والأسواق بالبلاد خصوصًا تلميحٌ إلى

قوله تعالى :

(وَٱلۡبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخۡرُجُ نَبَاتُهُۥ بِإِذۡنِ رَبِّهِۦۖ وَٱلَّذِي خَبُثَ لَا يَخۡرُجُ إِلَّا نَكِدٗاۚ)

[الأعراف: ٥٨].

قال قتادةُ: المؤمن سَمِع كتاب الله بعقلِه، فوَعَاه وانتفع به؛ كالأرض الطيِّبة أصابها الغَيث فأَنبَتت، والكافرُ بخلافه؛ وذلك لأن زوَّار

المسجد؛

(رِجَالٞ لَّا تُلۡهِيهِمۡ تِجَٰرَةٞ وَلَا بَيۡعٌ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَوٰةِ يَخَافُونَ يَوۡمٗا تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلۡقُلُوبُ وَٱلۡأَبۡصَٰرُ)

[النور: ٣٧]،

وقُصَّاد الأسواق شياطينُ الجنِّ والإنس من الغَفَلة الذين غَلَبهم الحرِص والشِّدَّة، وذلك لا يَزيد إلا قربًا من الله تعالى، ومن أوليائه، وهذا لا يورث إلا دُنُوًّا من الشيطان وحزبه، اللهمَّ إلَّا مَن يَعمِد إلى طلب الحلال الذي يَصُون به دينه وعرضه؛

( فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ )

[البقرة: ١٧٣]

ويجوز أن يقدَّر مُضافٌ، فيَرجِع الضمير في (مساجدها) و(أسواقها) إليه؛ أي: أحبُّ بِقاع البلاد مساجِدُها، والله أعلم"[3]

قال ابن عثيمين : "فالمساجدُ مساجدُ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ ولهذا أضافها الله إلى نفسه،

فقال:

( وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ أَن يُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُ )

[البقرة: ١١٤]

وقال تعالى:

{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}

[النور: 36، ٣٧]، 

فالمساجدُ أحبُّ البقاع إلى الله؛ لأنها مَحَلُّ ذِكره وعبادته، وقراءة شَرْعِه، وغير ذلك من مصالح الدنيا والدِّين؛ ولهذا كان بَذْلُ المال فيها من أفضل أنواع البذل، والبذلُ فيها من الصَّدقة الجارية، وهي أفضل من أن يَجعَل الإنسانُ مالَه في أُضْحِية أو عَشاء أو ما أَشبَه ذلك، فإذا جَعَل مالَه في بناء المساجد وعمارتها، كان ذلك أفضلَ؛ لأن المساجد صدقةٌ جارية باقية عامَّةٌ، كلُّ المسلمين ينتفعون بها، المصلُّون والدارسون والمتعلِّمون والمعلِّمون، والذين آواهم البَرْد أو الحَرُّ إلى المساجد، إلى غير ذلك. أما الأسواقُ، فإنها مأوى الشياطين، فيها باضَ الشيطانُ وفرَّخ، والعياذ بالله، ونَصَب رايتَه وخَيْمَته؛ لأن أسواق البيع والشراء، الغالبُ فيها - إلَّا ما شاء الله - الكذب والغشُّ والخيانة والحَلِف، وما أَشبَه ذلك؛ فلهذا كانت أبغضَ البلاد إلى الله - عزَّ وجلَّ - وفي هذا الحديث إثباتُ الحبِّ والبُغض للهِ - عزَّ وجلَّ – أي: أن الله يحبُّ ويُبغض، ومن أصول أهل السنَّة والجماعة أننا نؤمن بذلك، ونقول: إن الله تعالى يحبُّ ويُبغض، وهو سبحانه وتعالى موصوف بصفات الكمال، وأنه لا يحبُّ إلا ما فيه الخيرُ والصلاح، ولا يُبغض إلا الشرَّ والخبائث، وينبغي أيضًا - كما جاء في حديث سلمان - ألَّا يكون أوَّلَ من يَدخُلها، ولا آخر من يَخرُج منها؛ لأنها أبغض البلاد إلى الله، ويَحصُل فيها اختلاط بين الرجال والنساء، والنَّظَرات المحرَّمة، والكلام المحرَّم، وما أَشبَه ذلك"[4]

المراجع

  1.  "شرح النوويِّ على مسلم" (5/ 171).
  2.  "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (2/ 647).
  3. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (3/ 930، 931).
  4.  "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (6/ 656، 657).

مشاريع الأحاديث الكلية