فقه:
1- يأمرُ النبيُّ ﷺ أُمَّتَه بأن تلتزمَ الصِّدْقَ؛ فإنَّ الصِّدق يهدي صاحبَه إلى البر، وهو اسمٌ جامعٌ لكل خيرٍ، فيقودُه ذلك إلى دخول الجَنَّة. وإنَّ المسلمَ ليصدقُ ويعتاد الصِّدْق ويألفُه في الرَّخاءِ والشِّدةِ حتى يُكتبَ عند الله صِدِّيقًا.
والصِّدِّيقُ: المُلازمُ للصِّدقِ الذي لا يَكذِب. فإذا أدمنَ العبدُ الصِّدْقَ كتبه اللهُ سبحانه عنده صِدِّيقًا، فيشتهر بين النَّاس بذلك إكرامًا له كما يُوضَعُ له القَبُول بينهم، ويشتهر بذلك في الملأ الأعلى جزاءً لِصِدْقِه، وحَشَرَه جلَّ وعلا في زُمْرَةِ الصِّدِّيقين، وهم أعلى النَّاس منزلةً بعد الأنبياء، قال تعالى:
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}
وقد أَمَر اللهُ تعالى عبادَه بالصِّدق والدُّخولِ في كَنَفِ الصَّادقين، قال جلَّ وعلا:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}
وأخبر ﷺ أنَّ أفضلَ النَّاسِ الصَّادقون؛ فعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ»[1].
2- وحذَّر ﷺ من الكَذِب؛ فهو رأسُ كلِّ شرٍّ، وهو القائدُ إلى الفساد والمعاصي، وذلك مُفْضٍ إلى أن يُكَبَّ الكاذبُ في النَّار. وأخبر ﷺ أنَّ الرجلَ إذا أَلِفَ الكذبَ واعتادَه كُتب عند الله تعالى كَذَّابًا، فيشتهر بين النَّاس وصفُه بذلك تعييرًا له وتوبيخًا، ويُذَمُّ بذلك بين أهل الملأ الأعلى، ويُحشر يومَ القيامةِ في زُمْرة المنافقين.
وقد أخبر ﷺ أنَّ الكذب من صفات المنافقين وأماراتهم، قال ﷺ: «آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذَبَ، وإذا وعَدَ أخلَفَ، وإذا اؤتمنَ خانَ»[2].
وقد جعل النبيُّ ﷺ المُعَوَّل في صلاحِ العبدِ وفساده على اللسان؛ فقال ﷺ: «لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ»[3].
اتباعٌ:
1- (1) الزم الصدق؛ فإنَّه الفاصلُ المميز بين النفاق والإيمان، والحكم العدل بين أهل الجنة وأهل النيران.
2- (1) الصِّدْقُ هو المرتبة العليا في الإسلام، ولهذا أرشد اللهُ تعالى عباده أن يكونوا مع الصَّادقين، وجعل جزاءَ أصحابِ الطاعات أن يُحشروا مع الصِّدِّيقين، وهذا يدلُّ على عظيم منزلتهم وقُربهم من اللهِ تعالى. أفلا يُطَمِّعنا هذا أن نحرص على الصِّدق؟!
3- (1) فضَّلَ اللهُ سبحانَه اللسانَ على سائر الجوارح، ورفع درجته، وأبان فضيلتَه، بأن أنطقه من بين سائر الجوارح بتوحيده. فلا يحسن بالمسلم أن يعوِّد لسانه على الكَذِب؛ بل يجب عليه أن يعوده لزوم الصدق، وما يَعُود عليه بالنفع في دارَيْهِ؛ لأنَّ اللسان يقتضي ما عُوِّد؛ إن صدقًا فصدقًا، وإن كذبًا فكذبًا.
4- (1) إذا أردتَ أن يحسن أثرُك في النَّاس، فلا تجعلهم يتهمونك بكذبٍ أو رِيبةٍ، فكن صادقًا يكتبك الله في الصِّديقين ويُوضع لك القبول في الأرض.
5- (1) الصِّدْق في القول يرفع درجات العبدِ في الدُّنيا والآخرة؛ قيل للقمان الحكيم رضي الله عنه: "ما بلغ بك ما نرى؟ قال: صدق الحديث، وأداءُ الأمانة، وتركي ما لا يَعنيني"[4].
6- (1) الصِّدقُ صفةٌ من صفات الله تعالى، قال جلَّ وعلا:
{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}
وقال سبحانه:
{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا}
فهلَّا تشبَّهنا باللهِ عزَّ وجلَّ في صفته!
7- (1) إذا أردتَ صلاح الأعمال فابدأ بإصلاح الكلام، فلا تنطق إلا صدقًا؛ فإن الصِّدق يهدي إلى البرِّ. قال يونسُ بنُ عبيد رحمه الله: "ما رأيت أحدًا لسانُه منه على بال، إلا رأيت ذلك صلاحًا في سائر عمله"[5].
8- (1) إياك أن تظنَّ أنَّ النَّجاةَ في الكَذِب؛ فربما تنطلي حِيَلُك وأباطيلُك على النَّاس، لكنَّها لن تمرَّ على ربِّك. فالزم الصِّدْقَ تنجو. فهذا كعبُ بنُ مالكٍ لمَّا تخلَّف عن غزوةِ تبوك، وجاء المنافقون إلى النبيِّ ﷺ يعتذرون إليه بالأباطيل والأكاذيب، أبى إلا أن يَصْدُق النبيَّ ﷺ القولَ، فكانت عاقبةُ ذلك أن قَبِلَ اللهُ تعالى توبته، وأنزل فيه آياتٍ تُتلى، وختمها بقوله سبحانه:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}
9- (1) قال الشاعر:
وإذا الأُمُورُ تَزَاوَجَتْ = فالصِّدْقُ أَكْرَمُهَا نِتَاجَا
الصِّدْقُ يَعْقِدُ فَوْقَ رَأْ = سِ حَلِيفِهِ بالصِّدْقِ تاجَا
والصِّدْقُ يَقْدَحُ زَنْدَهُ = في كُلِّ ناحِيَةٍ سِرَاجَا
10- (2) توعَّد اللهُ تعالى الكاذبين بالعقابِ في النَّار والعياذ بالله، قال تعالى:
{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}
فالحذرَ الحذرَ من عذاب الله تعالى.
11- (2) أشدُّ أنواعِ الكذبِ: الكذبُ على اللهِ تعالى بتحريم ما أحلَّ وتحليل ما حرَّم، افتراءً على اللهِ تعالى وتَقَوُّلًا عليه بغير علمٍ. قال سبحانه:
{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
فإياكَ أن تقول في شرعِ اللهِ سبحانه بغير علمٍ، قل: اللهُ أعلم، ودُلَّ السَّائِلَ على أهلِ العلمِ والفتوى، فذلك خيرٌ من الوقوع في الإفك والافتراءِ على اللهِ جلَّ وعلا.
12- (2) ابتعد عن الكَذِب مطلقًا، فلا تكذب جادًّا ولا هازلًا، فقد قال ﷺ:
«وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ»[7].
13- (2) قال الشاعر:
كَذَبْتَ وَمَنْ يَكْذِبْ فَإِنَّ جَزَاءَهُ = إذَا مَا أتَى بالصِّدْقِ أَنْ لا يُصَدَّقَا
إذا عُرِفَ الكذَّابُ بالكِذْبِ لَمْ يَزَلْ = لَدَى النَّاسِ كذَّابًا وإنْ كَانَ صَادِقَا
ومِنْ آفَةِ الكذَّابِ نِسْيَانُ كِذْبِهِ = وتَلْقَاهُ ذا ذِهْنٍ إذا كَانَ حاذِقَا
المراجع
- رواه ابن ماجه (4216).
- رواه البخاريُّ (33)، ومسلم (59).
- رواه أحمد (13079).
- رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (6/328).
- رواه ابن أبي عاصم في الزهد (112)، وابن أبي الدنيا في الصمت (60).
- رواه البخاري (4418)، ومسلم (2769).
- رواه أبو داود (4990)، والترمذي (2315).