عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا».

فوائد الحديث

الفوائد العلمية

1. في الحديث بيان أمر الإسلام بالصِّدق، والحثِّ عليه في جميع المعاملات التي يقوم بها المسلم، وقد أمر الله سبحانه أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين؛ يقول الله تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}

[التوبة: 119]

"أي: اصدُقوا، والزموا الصدق، تكونوا مع أهله، وتنجوا من المهالك، ويجعل لكم فرجًا من أموركم ومخرجًا"[1]. 

2. عن أبي سفيان في حديثه الطويل في قصة هِرَقْلَ عظيمِ الروم: قال هرقلُ: فماذا يأمركم؟ - يعني النبيَّ ﷺ - قال أبو سفيانَ: قلتُ: "يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والصدقة، والعفاف، والصلة"[2].

3. الصدق هو سيف الله في أرضه، الذي ما وُضع على شيء إلا قطعه، ولا واجَه باطلًا إلا أَرْداه وصَرَعه، مَن صال به لم تُردَّ صَوْلته، ومن نَطَق به، عَلَت على الخصوم كلمته، فهو رُوح الأعمال، ومَحَكُّ الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال[3].

4. الصدق هو أساس بناء الدين، وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية لدرجة النبوَّة، التي هي أرفع درجات العالمين، ومن مساكنهم في الجنَّات، تُجرى العيون والأنهار إلى مساكن الصدِّيقين، كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار مدد متَّصِل ومَعِين[4].

5. فضَّل الله تعالى اللسان على سائر الجوارح، ورفع درجته، وأبان فضيلتَه، بأن أنطقه من بين سائر الجوارح بتوحيده، فلا ينبغي للعاقل أن يعوِّد آلةً خَلَقها الله للنُّطق بتوحيده بالكذب؛ بل يجب عليه المداوَمة برعايته بلزوم الصدق، وما يَعُود عليه نفعه في دارَيْهِ؛ لأنَّ اللسان يقتضي ما عُوِّد؛ إن صدقًا فصدقًا، وإن كذبًا فكذبًا[5].

6. في الحديث الحثُّ على تحرِّي الصِّدق، وهو قصدُه، والاعتناء به، وعلى التّحذير من الكذب والتّساهل فيه؛ فإنّه إذا تساهَل فيه كَثُر منه، فعُرِف به، وكتبه اللّه لمبالغته صدِّيقًا إن اعتاده، أو كذَّابًا إن اعتاده.

7. ربَّما يعبَّر عن صدق اللسان باستقامة المقال كلِّه؛ كما في قوله تعالى:

{وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ}

[الشعراء: ٨٤]

وقوله تعالى:

{ وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّ}

[مريم: ٥٠]

يريد الثَّناء عليهم بحقٍّ[6].

8. وصف الله تعالى نفسه بالصدق؛ فقال:

{ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}

[النساء: 87]

{ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا}

[النساء: 122]

9. قال ابن مسعود: "إِنَّ الكذب لا يَصلُح في جِدٍّ ولا هَزْل. ثم تلا قوله تعالى:

 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}

 [التوبة: 119]"[7]

10. قال رسول الله ﷺ: «كفى بالمرء كذبًا أن يحدِّث بكلِّ ما سمع»[8]. و"فيه تأويلان؛ أحدُهما: أن يَرويَ ما يَعلَمه كذبًا، ولا يبيِّنه؛ فهو أحدُ الكاذبين، والثاني: أن يكون المعنى: بحسب المرء أن يكذَّب؛ لأنَّه ليس كلُّ مسموع يصدَّق به، فينبغي تحديث الناس بما تحتمله عقولهم"[9].

11. من أشدِّ أنواع الكذب افتراءُ الكذب على الله تعالى بالتحليل والتحريم بالهوى؛ قال الله تعالى:

{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 

[النحل: ١١٦ – ١١٧]

12. إن من أوضح علامات النفاق الكذب؛ قال النبيُّ ﷺ:

«أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ»[10].

13. قال ﷺ:

«آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذَبَ، وإذا وعَدَ أخلَفَ، وإذا اؤتمنَ خانَ»[11].

المراجع

  1. "تفسير ابن كثير" (4/230).
  2. رواه البخاريُّ (7)، ومسلم (1773).
  3. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 257).
  4. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 257).
  5. "روضة العقلاء" لأبي حاتم (ص 51).
  6. "مجموع رسائل ابن رجب" (1/ 357).
  7. "مجموع رسائل ابن رجب" (1/ 356).
  8. رواه مسلم (4).
  9. "كشف المشكل من حديث الصحيحين" (1/340).
  10. رواه البخاريُّ (34)، ومسلم (58).
  11. رواه البخاريُّ (33)، ومسلم (59).


مشاريع الأحاديث الكلية